أولاً؛ عسكرة الأزمة الأوكرانية ستنعكس على أوروبا في الأمد القريب، وتدفع بالشعور القومي إلى مدياته العليا، ما يجعله فرصة للتيارات القومية المتشددة فيها، عززتها أبواب التطوع العسكري المفتوحة على مصراعيها أوروبيا للمشاركة إلى جانب القوميين الاوكران في القتال ضدّ روسيا، هذا التحشيد العسكري المفتوح، سيزيد من استقطاب الشباب الأوروبي إلى الأفكار الراديكالية وتوسل العنف، وكأننا أمام سيناريو مشابه لما حدث في الحرب الروسية – الافغانية (١٩٧٩-١٩٨٩)، ما سيؤدي بالضرورة إلى نتائج كارثية على أوروبا نفسها بصرف النظر عن المنتصر في الحرب بعد عودة “المجاهدين الأوكران إلى بلادهم”.
ثانياً؛ ردة الفعل الأميركية والأوروبية تعكس رغبة في إثارة “الدب الروسي” وصولاً إلى جرّه إلى حرب استنزاف لن يكون فيها مستفيد إلا الولايات المتحدة، لأنها ستجعل أوروبا بؤرة من الأزمات والقلق حيث الصراع هو مع قوة نووية، فإنْ تطورت “معركة أوكرانيا” إلى حرب عالمية ثالثة فستكون ساحتها الأساسية أوروبا، ما يجعل القارة العجوز تدفع ثمن دمارها ثم ثمن إعمارها ويمدد ذلك لهيمنة أميركية جديدة لمائة سنة مقبلة، وبالتالي دفع الثمن في حالتي النصر أو الهزيمة.
ثالثاً؛ تدحرج الموقف الأوروبي العدائي من روسيا من الحيادي إلى السلبي ثم إلى سلبي بالمُطلق، فبعدما كان الموقفان الفرنسي والألماني يتميزان بالميل نحو التهدئة وتغليب منطق التفاوض وعدم الوصول إلى الأزمة المفتوحة، تحوّل موقف دول “الناتو” الأوروبية إلى موقف بالغ الشدة بلغ حد عزل روسيا عن محيطها والعالم، سياسياً، مالياً، اقتصادياً، رياضياً، وإعلامياً، من دون اعتبار لماهية المخاطرة مع قوة نووية بحجم روسيا، ما يؤكد حجم التأثير الأميركي في النهاية على الاستقلالية السياسية والاقتصادية لأوروبا.
سقى الله “أزمة الصواريخ” في تشرين الاول/ أكتوبر ١٩٦٢ حيث وقف العالم على قدم وساق مرتعبا من حرب نووية، فهل سيكرر التاريخ السيناريو أو سيكتفي الساسة بالعِبرة؟
رابعاً؛ دخول حفلة التحشيد العسكري مستويات مجنونة، بدأت بحشد الروس ما يفوق ١٠٠ الف جندي على حدود أوكرانيا، ثم باجتياح الجيوش الروسية أوكرانيا وصولاً إلى مشارف العاصمة كييف، بالمقابل فتحت دول الناتو مخازنها وتبارت كل دولة في تقديم أسلحة فتاكة للأوكرانيين، بل شرعت تلك الدول بتسهيل الحملة الدعائية التي أطلقتها القيادة الحاكمة في اوكرانيا لجهة استقطاب الشباب الأوروبي وغير الاوروبي للقتال ضد الروس، ما يذكرنا بما جرى بين ١٩٧٩- ١٩٨٩ في أفغانستان، ويجعلنا ننتظر تداعيات هذه الحملة وآثارها المدمرة على النسيج الأوروبي بعد انتهاء صوت المدافع في ظلّ التنامي المتزايد للتيارات اليمينية فيها، الأمر الذي يجعلها فرصة ذهبية لليمين الأوروبي لينتقل من العمل الكشفي إلى العمل العسكري، وليزيد من منسوب النزعة القومية وتأثيرها المتزايد شعبيا في النسيج المجتمعي للقارة العجوز.
خامساً؛ إن قرار ألمانيا التاريخي بتعزيز جيشها (*) وتخصيص ١٠٠ مليار يورو لتزويده بترسانة عسكرية ملائمة، واستثمار ٢ في المائة من إجمالي الناتج الداخلي في مجال الدفاع سنوياً، بعدما تحوّل الجيش الألماني من جيش ارعب العالم عشية الحرب العالمية الثانية 1939-1945، إلى جيش يقدم خدمات لوجستية وطبية لحلف الناتو (1955-2022)، لا يتعدى ٣٠٠ الف مقاتل بينهم ٥٥ الف يخدمون لتسعة أشهر فقط، ما يعزز رغبة الأوروبيين – لا سيما ألمانيا – في تعزيز قدراتهم الدفاعية، في ظل مروحة من الهواجس والاحتمالات التي تتأرجح بين قرب المواجهة المباشرة مع روسيا والخوف المزدوج من الكلفة العالية التي ستفرضها هذه المواجهة على أوروبا واقتصاداتها المتراجعة والتراجع التكتيكي الأميركي عن الساحات الساخنة في العالم، نتيجة الحماسة المتآكلة في لعب دور المدافع عن أوروبا عسكريا، والتي عبّر عنها الرئيس السابق دونالد ترامب مراراً وأسّرها في نفسه الرئيس جو بايدن، من دون أن ينفيها، فالحساسية الأميركية تتعاظم باتجاه المحيط الهادئ والشرق الأقصى والصراع مع الصين، وهذا ما يدركه الأوروبيون جيدا ويجعلهم تحت هاجسين مخيفين: تعاظم قوة بوتين في أوروبا وتمدده أكثر غربا، وترك الولايات المتحدة لهم واكتفائها بالدعم اللوجستي ومن بعد، وهذا ما يعمق الهوّة اليوم ، والتي عبّر عنها بوضوح قائد الجيش الألماني عبر حسابه على “لينكد إن”: “الجيش الألماني، الذي أتشرف بقيادته، هو إلى حد ما مكشوف”!
فالقوة التي لا تحركها العدالة هي قوة غاشمة، والعدالة وحدها تجمع بين القصاص والإنصاف، والمشكلة على الدوام كانت وستبقى في ازدواجية المعايير عند الدول الكبرى، فما قررته الولايات المتحدة وأوروبا خلال تلك الأيام القليلة من شجبٍ وحجبٍ ومنعٍ في حق روسيا، وما قدمته من دعمٍ ونصرة لأوكرانيا، كان على الدوام موضع رفضٍ منها في حق الشعوب العربية من مقاومة الاحتلال ومقارعة التطرف إلى المقاطعة الشاملة.
سقى الله “أزمة الصواريخ” في تشرين الاول/ أكتوبر ١٩٦٢ حيث وقف العالم على قدم وساق مرتعبا من حرب نووية، فهل سيكرر التاريخ السيناريو أو سيكتفي الساسة بالعِبرة؟
(*) الجيش الألماني أُعيد بناءه مرات عدة، فبعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى تحول الجيش الألماني إلى جيش دفاعي وفقا لمعاهدة فرساي ٢٨ حزيران/ يونيو ١٩١٩، ثم بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، انقسم إلى جيشين: غربي وشرقي، الأول تم تأسيسه عام ١٩٥٥ شريطة أن يكون عضوا بالناتو والثاني كان جزءا من حلف وارسو، ثم بعد الوحدة الألمانية (1990)، حُلّ الجيش الشرقي وتم تقليص جيش المانيا الغربية إلى أقل من ٣٠٠ الف جندي، مع امتناع المانيا عن الإنخراط في حروب خارجية واقتصار تدخلها على المهام اللوجستية والفنية غير القتالية. الآن نحن على عتبة إنخراط ألمانيا في سباق تسلح ربما يحوّلها مع الزمن إلى زعيمة أوروبا في السنوات المقبلة.