على هذا الإيقاع سيتم توسيع اللقاء الثلاثي الروسي ـ السوري ـ التركي في موسكو، ليصبح رباعياً، بانضمام وزير خارجية إيران إليه، بعد انتقال المفاوضات السورية – التركية من المستوى الأمني إلى المستوى السياسي، من خلال هذا اللقاء القادم، فهل سينجح هذا اللقاء الرباعي في مهمته؟
لم يكن وجود رئيس الأركان الأميركي مارك ميلي، في منطقة التنف وبعدها في منطقة الجزيرة السورية، قبل التصويت على مقترح قرار انسحاب القوات الأميركية في الكونغرس الأميركي ببضعة أيام، وهو أعلى مسؤول عسكري أميركي يزورها، سوى تعبير عن رؤية دولة الأمن القومي العميقة في الولايات المتحدة، بأن الوجود العسكري في سوريا، هو ضرورة قصوى للولايات المتحدة، في إطار الصراع القطبي والإقليمي المحتدم على بنية النظام الدولي، وهي بوجودها كاحتلال في سوريا، تحقق مروحة واسعة من الأهداف:
1-الحفاظ على وجودها في أهم المناطق الجغرافية في العالم، وخاصةً ما يتعلق بشرق المتوسط، الذي أصبح حيوياً بوصول كل من روسيا وإيران والصين، عدا عن تركيا، التي تخوض صراعاً عنيفاً للخروج من اتفاقية لوزان، وتغيير الحدود البحرية التي قيّدتها بها هذه الاتفاقية.
2-ضبط الانزياح التركي المتصاعد نحو البيئة التاريخية له، وخاصةً بعد التحوّلات في السياسة التركية، إثر فشل الانقلاب الأميركي عام 2016، وبروز دور منصة أستانا للدول الثلاث (روسيا وتركيا وإيران)، وهي الركائز الثلاث للمشروع الأوراسي، المعتمِد في نجاحه على إخراج الولايات المتحدة من غرب آسيا، من خلال الإمساك بالحل السياسي في سوريا، وهذا ما أبلغه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، مؤخراً في لقاء موسكو.
3-توفير المحيط الآمن لـ”إسرائيل”، خاصةً بعد ارتفاع مستوى التهديدات المحيطة لها، في ظل انقسام سياسي داخلي حاد فيها، على أرضية صعود اليمين المتطرف، نتيجةً لتصاعد المقاومة في الضفة الغربية، ودور حركات المقاومة في غزة وأراضي عام 1948، ما ساهم في تصعيد القلق الوجودي لدى الإسرائيليين.
4-منع التحوّل العربي تجاه سوريا، والذي ينتظر السعودية لتقوده، وهي التي تعمل مع الإمارات العربية المتحدة، على استثمار توسع هوامش الحركة أمامهما، من جراء تآكل القدرة الأميركية، وقد نجحتا إلى حد كبير في إقامة علاقات مفتوحة ومتوازنة مع روسيا والصين، وفي تقدير واضح لتحوّلات النظام الدولي، وذهاب السعودية نحو مصالحة مع إيران من البوابة الصينية، وبمساعدة عراقية -عُمانية.
ما سيقدمه اللقاء بين روسيا وإيران وتركيا وسوريا سيكون قفزة واسعة، بعد اثني عشر عاماً من الحرب في سوريا وعليها، وهو مقدمة لنظام إقليمي أوسع مما تم التوافق عليه حتى الآن
5-مواجهة الوجود الروسي العسكري في سوريا، وتقييد فعالية القواعد العسكرية التابعة لها، مع العمل على استنزافها بربط واضح للصراع الذي تخوضه معها في أوكرانيا، وفي أكثر من منطقة في العالم.
6-احتواء مخاطر المحور الإيراني-العراقي-السوري-اللبناني، الذي يمتلك مشروعه الخاص، ويمثل القوى العسكرية الضاربة، في حلف القوى الآسيوية الناهض غير المعلن، وعليه يعتمد كل من “المشروع الأوراسي” (الروسي)، ومشروع “الحزام والطريق” (الصيني)، في إمكانية نجاحهما، وهو يمثل التهديد الأكبر لبقاء المشروع الوظيفي الغربي الأكبر، الذي تعدّ نهايته بمنزلة نهاية الغرب.
كل هذه العوامل تدفع بالولايات المتحدة إلى استمرار احتلالها لمنطقتي الجزيرة السورية ومنطقة التنف، والعمل على استثمار الجغرافيا السياسية لسوريا، التي تمكّنها من مواجهة وعرقلة التهديدات المتصاعدة تجاه دورها كقطب مهيمن وحيد في العالم، ومن خلال وجودها العسكري في سوريا، تستطيع التحكم في استمرار مسارات التاريخ وفقاً لإرادتها.
تأتي أهمية اللقاء الرباعي، الذي سينعقد في موسكو، كونه خطوة جديدة لبناء نظام إقليمي جديد في غرب آسيا، يكون امتداداً لمشروع القوى الآسيوية الناهضة، وعِماده إخراج الولايات المتحدة من كل الإقليم، ثم الانطلاق لهزيمتها في كل العالم القديم، ونقل ثقل العالم الاقتصادي إلى الشرق، ولكن أمام هذا اللقاء مجموعة من التحديات الداخلية لكل بلد منها، وخاصةً سوريا وتركيا، وبدرجة أقل إيران، اقتصادياً وسياسياً، بالإضافة إلى استمرار تهديدات الوجود الأميركي في كل من العراق وسوريا، والأمر يحتاج إلى حلول خاصة فيما بينها، بالإضافة إلى الحلول السياسية الداخلية.
ويمكن للاتفاق السعودي- الإيراني، الذي جرى برعاية الصين، أن يقدم دفعة كبيرة لهذا اللقاء؛ فقد أدرك السعوديون أن الولايات المتحدة لم تستطع تأمين حمايتهم في كل مراحل حربهم على اليمن، بل فرضت عليهم الإستمرار بها، عندما اقتضت مصالحها ذلك، وقد وصلت الرياض إلى قناعة جزئية بأن الغرب عموماً تتراجع قدراته أمام القوى الآسيوية، وهي بهذا الاتفاق، الذي لا ينفصل عن توجهاتها تجاه روسيا وتركيا، وما يمكن أن ينعكس ذلك على اللقاء الرباعي، ومن ثم سوريا، تساهم في إنجاحه مع دعمها للخزينة التركية بخمسة مليارات دولار، وإرسال مساعدات إلى سوريا، وهي إذا ما حسمت خياراتها بشكل كامل، فإن اللقاء سيصبح خماسياً، وربما أكبر.
ما سيقدّمه اللقاء سيكون قفزة واسعة، بعد اثني عشر عاماً من الحرب في سوريا وعليها، وهو مقدمة لنظام إقليمي أوسع مما تم التوافق عليه حتى الآن، رغم كل المصاعب والمخاطر، وهو سيشق طريقه صعوداً، رغم التهديدات الأميركية المتصاعدة، وستتخلف عنه كل القوى السياسية والعسكرية السورية التي ما زالت تراهن على دور الولايات المتحدة، بصناعة حلّ سياسي ضامن لها في كعكة السُلطة المرتجاة.
(*) بالتزامن مع “الميادين“