إذا كانت بريطانيا والولايات المتحدة قد حسمتا أمرهما وحظرتا استيراد النفط الروسي، فإن دول الاتحاد الأوروبي ما زالت تبحث عن بدائل مجدية قبل إتخاذ أي قرار بهذا الخصوص من النوع الذي يؤدي على الطريقة الأميركية الى الإنتحار. والانتحار في هذه الحالة يكون موتاً بطيئاً تعيشه الاقتصادات التي ستواجه حتماً المزيد من ارتفاع تكاليف الإنتاج والتضخم وتباطؤ الأنشطة الاقتصادية. وقد لا تكون البنوك المركزية الأوروبية جاهزة لضخ المزيد من السيولة في الأسواق بعدما قدّمت رزمة من الحوافز غير المسبوقة طوال الأعوام الثلاثة الماضية لمحاربة تبعات جائحة كوفيد-19.
بريطانيا التي لا تضيع فرصة للتمايز عن الاتحاد الاوروبي وتأكيد خروجها منه، قررت حظر واردات الطاقة من روسيا بصرف النظر عن الآثار المحتملة على اقتصادها. الأسر البريطانية المنهكة أصلاً من تبعات “بريكست” تواجه موجة جديدة من الغلاء في أسعار الطاقة والغذاء والسكن إلى حدٍّ دفع النائب عن حزب المحافظين سيفن بيكر إلى القول إن الأسوأ لم يأتِ بعد وإن الأزمة الاقتصادية الناجمة عن اضطراب أسواق النفط قد تكون أسوأ من تلك التي حدثت في السبعينيات الماضية، فيما كشفت صحيفة “ديلي ميل” الإنكليزية أن التضخم في بريطانيا وصل إلى 5.5% ويُتوقع أن يصل إلى 8% خلال أشهر ما سيضغط أكثر على الأسر محدودة الدخل.
إذا حصل وقرّرت دول الاتحاد الاوروبي حظر استيراد النفط من روسيا أسوة بالولايات المتحدة وبريطانيا، فسيتعين على منتجي النفط زيادة إنتاجهم ليغطي الفاقد من الصادرات الروسية البالغة نحو 8 ملايين برميل يومياً ونصفها يذهب إلى أوروبا
أما الولايات المتحدة التي تستورد من روسيا ما يمثل 8% فقط من إجمالي واردات النفط (ولا تستورد منها الغاز) فوجدت نفسها أيضاً أمام اضطرابات غير مسبوقة في الأسواق برغم قلّة اعتمادها على واردات النفط الروسي. فتسارع التضخم بأعلى وتيرة له منذ العام 1982 وبلغ 7.5% بارتفاع أسعار الطاقة 3.5% وأسعار المواد الغذائية 1% وكذلك ارتفاع تكاليف المأوى في موازاة تراجع الرواتب وتآكل القدرة الشرائية. وحذرت صحيفة “ذي هيلّ” الأميركية من تأثيرات أخرى على الاقتصاد الأميركي تضاف إلى ارتفاع تكاليف الطاقة والغذاء أبرزها ارتفاع تكاليف النقل البري والجوي وتقلبات البورصة وما ينتج عنها من تراجع في الاستثمار واضطراب سوق العمل.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد حاولت تهدئة أسواق النفط من خلال التلويح بالإفراج عن 50 مليون برميل نفط من الاحتياطي الاستراتيجي لتعزيز المعروض وخفض الأسعار، فإن منظمة الدول المنتجة للنفط “أوبك” بقيادة السعودية وحلفائها في تجمّع “أوبك+” بقيادة روسيا لم يتّخذوا قراراً واضحاً بعد بشأن زيادة الإمدادات كما لم يتخذوا قراراً بشأن بقاء مجموعة “أوبك+” على قيد الحياة في ظل ضغوط أميركية على السلطات السعودية والإماراتية للمشاركة بالحرب الاقتصادية ضد روسيا.
فقد كشفت شبكة “سي إن إن” في 16 شباط/ فبراير الماضي أن البيت الأبيض أرسل إلى الرياض منسق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط بريت ماكغورك، ومبعوث وزارة الخارجية للطاقة عاموس هوكستين، “للضغط على المسؤولين السعوديين لضخ المزيد من الخام وتحقيق استقرار الأسواق” ونقلت “سي إن إن” عن مصدر رفيع قوله إن السعوديين يقاومون أي تغييرات في الإنتاج بسبب التزاماتهم تجاه اتفاق مجموعة “أوبك+”.
إذا حصل وقرّرت دول الاتحاد الاوروبي حظر استيراد النفط من روسيا أسوة بالولايات المتحدة وبريطانيا، فسيتعين على منتجي النفط زيادة إنتاجهم ليغطي الفاقد من الصادرات الروسية البالغة نحو 8 ملايين برميل يومياً ونصفها يذهب إلى أوروبا. وبغير ذلك، سيصل سعر برميل “برنت” وهو الخام القياسي في الأسواق إلى ما بين 200 دولار بحسب توقعات مصرف “جي. بي. مورغان” و300 دولار بحسب تصريحات نائب الرئيس الروسي ألكسندر نوفاك، علماً أن السعر الحالي للبرميل يحوم حول 112 دولارا وهو الأعلى منذ 10 سنوات.
صحيح أن المسؤولين الأوروبيين صرحوا في غير مناسبة بأن دولهم تعمل على تنويع مصادر الطاقة وأنها خفضت اعتمادها على الواردات من روسيا إلى الثلث خلال عام، غير أن العثور على بدائل للنفط يبقى رهناً بقرار المنتجين الرئيسيين في منظمة أوبك زيادة الإمدادات إلى الأسواق العالمية. علماً أن الحال إذا “نقشت” مع الأوروبيين في مسألة النفط لا تشبه الحال في مسألة الغاز. الإحراج بالنسبة إلى دول الاتحاد الاوروبي يكمن في عدم القدرة على الاستغناء الكامل عن روسيا. فإذا كانت بريطانيا تستورد 3% فقط من نفطها من روسيا والولايات المتحدة 8%، فإن دول الاتحاد الأوروبي تستورد من روسيا نسبة لا يُستهان بها تبلغ 26% من إجمالي واردات النفط و45% من إجمالي واردات الغاز. وبذلك لن يكون سهلاً على الأوروبيين وقف استيراد النفط وحده من روسيا بذريعة وجود بدائل له، في موازاة الاستمرار باستيراد الغاز الذي قد يتحول بأي لحظة إلى “سلاح” بيد روسيا وأداة ابتزاز للأوروبيين.
لا تبدو أسواق النفط مهددة بفوضى عارمة مع اتضاح الموقف الأوروبي الرافض لفرض عقوبات على واردات الطاقة من روسيا، لكنها عرضة إلى الاختلال لوقت طويل، بسبب فقدان جزء من الإمدادات بقرار أميركي بريطاني غير محصن حتى الآن
ولعل هذا ما دفع وزيرة الطاقة الأميركية جينيفر غرانهولم إلى القول إن الولايات المتحدة لا تضغط على حلفائها ليحذوا حذوها في حظر واردات الطاقة من روسيا. علماً أن عدم تحديد أو تسمية الحلفاء الذين تتحدث عنهم أثار بعض الالتباس، وذهب البعض للقول إنها لن تضغط على منتجي النفط في “أوبك” بعدما أعربوا أكثر من مرة عن تمسكهم باستراتيجية الزيادة التدريجية والمنسقة المتفق عليها في إطار مجموعة “أوبك+” وقدرها 400 ألف برميل يومياً.
في الخلاصة، لا تبدو سوق النفط مهددة بالفوضى العارمة مع اتضاح الموقف الأوروبي الرافض لفرض عقوبات على واردات الطاقة من روسيا، لكنها عرضة إلى الاختلال لوقت طويل، بسبب فقدان جزء من الإمدادات بـ”قرار” أميركي – بريطاني غير محصن ـ حتى الآن ـ أقله من منتجي النفط الكبار الذين بـ”قرار” موازٍ يعيدون إلى الأسواق توازنها أو يتركونها في نزاع يؤدي إلى استمرار ارتفاع الأسعار لسنوات. إرتفاعٌ تستفيد منه الدول المصدّرة وأبرزها السعودية وتدفع ثمنه الدول المستهلكة وأولها الدول الأوروبية.