منذ ذلك التاريخ، استمر تدهور الليرة التركية أمام الدولار إلى حدود غير مسبوقة. ففي خلال عام 2021 وحده، فقدت الليرة التركية نحو 50 بالمئة من قيمتها، وبلغت قيمة الدولار الواحد 17 ليرة تركية، لتعود و”تستقر” عند سعر 14 ليرة ونصف عام 2022.
بحسب رابنيكوف، يعود هذا الانهيار الكبير والسريع للعملة التركية إلى الخلل المتزايد في الميزان التجاري للبلاد وإلى تراجع المستثمرين الأجانب عن القدوم إلى تركيا وبروز ميل متزايد لدى المستثمرين الأتراك لتحويل استثماراتهم ومشاريعهم إلى خارج بلادهم. كذلك الأمر، واحد من أسباب الأزمة الحالية للعملة التركية هو رفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفع الفائدة وميله الدائم إلى تخفيضها، ما أدى إلى تضخم الأسعار وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين في السوق المحلية.
يعود جزء مهم من أسباب الأزمة الحالية أيضاً إلى سياسات الدولة التدخلية في السوق. والملاحظ أن الحكومات التركية المتعاقبة، ومنذ عام 2017 بشكل أساسي وصولاً إلى يومنا هذا، صارت تتدخل بشكل متزايد في السياسة النقدية، فيما أقال أردوغان محافظي البنوك المركزية ووزراء المال الذين لم يوافقوا على سياساته الهادفة إلى خفض أسعار الفائدة، وهي أمور أدت كلها، إلى خلل في السوق المحلي، كما إلى تراجع ثقة المستثمرين الأجانب في تركيا.
يعكس الرأي الاقتصادي لأردوغان تلاقي تيارين في شخص واحد، الأول، نابع من خلفية أردوغان كرجل أعمال تجاربه محدودة في هذا المضمار، فيما ينبع الثاني مما يراه أردوغان صحيحاً في مقاربته موضوع الفائدة من وجهة نظر ايديولوجية إسلامية
وفي ردّه على الضغوط المتزايدة من الجمهور التركي ومن المستثمرين على حد سواء، يشير أردوغان بشكل متكرر إلى “الأيادي الخارجية” التي تعبث باقتصاد بلاده. يلمح الرجل، في أكثر من مناسبة، إلى اكتشاف خيوط مؤامرة غربية وعالمية ضد تركيا لفرملة صعودها المتسارع نحو مصاف الدول القوية اقتصادياً وعسكرياً. “التبرير المؤامرتي” هذا يشبه، بنسبة كبيرة، مجمل التقديرات التي يُطلقها أي حاكم يواجه أزمة داخلية، فيرد أسبابها إلى “المؤامرة الخارجية” وليس إلى السياسات الداخلية.. بالإضافة إلى ذلك، أطلق أردوغان تعابير جديدة في فضاء المفردات التركية المستخدمة بينها “لوبي أسعار الفائدة”، والذي يعني به وجود مجموعة ضغط خارجية ومحلية تعمل بشكل مؤامراتي لإبقاء أسعار الفائدة مرتفعة في تركيا، فيما يصف نفسه بأنه “عدو أسعار الفائدة المرتفعة”.
ويعكس الرأي الاقتصادي لأردوغان تلاقي تيارين في شخص واحد، الأول، نابع من خلفية أردوغان كرجل أعمال تجاربه محدودة في هذا المضمار، فيما ينبع الثاني مما يراه أردوغان صحيحاً في مقاربته موضوع الفائدة من وجهة نظر ايديولوجية إسلامية.
وعلى عكس النظريات الاقتصادية السائدة، يرى أردوغان أن معدل التضخم المرتفع هو نتيجة أسعار الفائدة العالية. وتبعاً لتجاربه الاقتصادية البسيطة ولإيمانه بهذه النظرية، سعى أردوغان إلى خفض أسعار الفائدة رغبة منه بتحفيز الاستثمار المحلي ودعم القطاعات الموجّهة نحو التصدير، كما جذب الاستثمارات الأجنبية، إلا أن العكس هو ما حصل. فكانت النتيجة أن قيمة العملة التركية تراجعت بشكل كبير، وازداد التضخم وارتفعت الأسعار، خاصة أن عدداً مهماً من السلع يُستورد من الخارج، كالغاز والمشتقات النفطية والمواد الخام والسِلع الوسيطة القابلة للتصنيع.
وبرغم التحركات الشعبية الإحتجاجية التي يشهدها الشارع التركي بين حين وآخر والانتقادات القاسية التي تُوجّهها إليه أحزاب المعارضة وخبراء حياديين، إلا أن أياً منها كلها لم يفلح في تغيير رأي أردوغان الاقتصادي. يرى الرئيس التركي أن تخفيض أسعار الفائدة سيحفز النمو الاقتصادي ويستولد فرص عمل جديدة وبالتالي يُعزز الانتاج، الأمر الذي يؤدي إلى إعطاء زخم للصادرات التركية فيتقلص العجز في الميزان التجاري، وبالتالي ينخفض لاحقاً معدل التضخم.
هذه النظرية “الأردوغانية” للاقتصاد، والتي لا تتبناها إلا حفنة قليلة من الخبراء الاقتصاديين الذين يعيشون في قصره، لم تفلح، حتى الآن بأن تصبح نتائجها حقيقة. على العكس من ذلك، أدت إلى انهيار العملة التركية وارتفاع نسبة التضخم وهروب بعض المستثمرين الأجانب!
يبقى أردوغان واقعياً، ولا يذهب بعيداً في رفضه العملي للفوائد والربا بشكل كامل، تبعاً لإدراكه أثر ذلك على تطوّر الاقتصاد وشؤون الحكم والدولة والناس. جلّ ما يمكنه القيام به هو خفض نسب الفائدة الآن لا إلغاء مبدأ الربا بشكل كامل
من ناحية أخرى، يحارب أردوغان أسعار الفائدة المرتفعة دون هوادة، مستنداً، في الكثير من الأحيان، على خلفيته الإسلامية، وما يراه الدين الإسلامي من مخالفة جسيمة إن تم التعامل بالربا. يصف أردوغان الفوائد المرتفعة بنعوت شتى، فهي حيناً “أداة استغلال” وأحياناً أخرى “مصدراً لكل الشرور”. وقال أردوغان في أحد تصريحاته اللافتة للإنتباه إنهم “يقولون إنني أخفض أسعار الفائدة. لا يجب أن يتوقعوا مني أي أمر آخر. كمسلم، مهما كانت التعاليم الإسلامية فهي ما سأطبقه. هذا ما سأستمر في القيام به. الأمر الديني واضح”.
لم تبقَ هذه الأفكار مجرد كلمات وتصريحات، بل تحوّلت إلى واقع عندما راح أردوغان يمارس شتى أنواع الضغوط على المصرف المركزي التركي، وأجبره، بنهاية المطاف، على خفض سعر الفائدة بعدما أقال معظم المسؤولين في القطاع النقدي الرسمي في تركيا. حتى أن زوج ابنته، وزير المال بيرات البيرق، لم يسلم من حملة الضغط الأردوغانية، وانتهى أمره بأن قدّم استقالته من الحكومة لاختلافه مع عمّه حول أسعار الفائدة على الودائع وعلى القروض وشؤون مالية ونقدية أخرى.
تلعب القناعات الإيديولوجية والدينية دوراً في رسم السياسات النقدية والمالية في تركيا، وذلك تبعاً لإيمان رئيسها بهذه القناعات. برغم ذلك، يبقى أردوغان واقعياً، ولا يذهب بعيداً في رفضه العملي للفوائد والربا بشكل كامل، تبعاً لإدراكه أثر ذلك على تطوّر الاقتصاد وشؤون الحكم والدولة والناس. جلّ ما يمكنه القيام به هو خفض نسب الفائدة الآن لا إلغاء مبدأ الربا بشكل كامل، حتى وإن لم يكن هذا الأمر كافياً، حسب المعتقدات الإسلامية.
لا يقتصر الأمر على أسعار الفائدة، فالإقتصاد التركي يحتاج للموارد الطبيعية، من غاز ومشتقات نفطية، تُستورد من الخارج لمصلحة التصنيع والإنتاج في تركيا. بالإضافة إلى وجود شبكة معقدة من المصالح التي تتخللها عمليات فساد ما بين أردوغان والمقربين منه من جهة ومجموعة ضخمة من رجال الأعمال ومطوّري العقارات من جهة أخرى وهؤلاء يُشكّلون السند الأساس لحكمه. فيما يبقى أردوغان، إلى حدٍ ما، أسير حاجته الدائمة لتحديث الاقتصاد والتدخل في السوق لتحقيق مصالح هذه الجماعات، فيضمن استمرار بقاءه في الحكم، هذا طبعاً بحال استمراره بخدمة هذه الجماعات النافذة وتأمين مصالحها.