

ليس بخافٍ على ترامب أن الشرق الأوسط الذي زاره قبل ثمانية أعوام، قد تغيّر كثيراً عن ذاك الذي زاره في مطلع ولايته الأولى. غيّرته الحروب الإسرائيلية التي لا تنتهي. إيران فقدت “محورها” وأحوالها الاقتصادية دفعتها إلى القبول بالتفاوض مع الولايات المتحدة على اتفاق نووي جديد. وسوريا، بعد سقوط بشار الأسد، دولة تدور في الفلك التركي.
لم يختر ترامب عبثاً التركيز على إيران وسوريا في جولته الخليجية. إنّه يُدرك تمام الإدراك أن الاتفاق النووي المنوي إبرامه مع إيران، سيكون فاتحة للتطبيع وبناء علاقات ديبلوماسية واقتصادية. بذلك، يحصد ترامب ثمار التوازنات الجديدة التي أرستها الحروب الإسرائيلية. مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، طرحت سؤالاً: هل يُدمّر ترامب إيران أم يُعيد بنائها؟
التفاؤل الذي يتملك ترامب بالنسبة لامكان نجاح المفاوضات النووية، يدل على أن الاتفاق الجديد سيكون أشمل لجهة إعادة إدخال أميركا إلى إيران لتنافس الصين وروسيا على بلد متعطش للاستثمارات الخارجية. ومن السذاجة الاعتقاد بأن ترامب سيرفع العقوبات عن إيران، لتتدفق عليها الشركات الصينية والروسية. ولذا، هو يلهج دائماً بأن “إيران تريد التجارة معنا”. ونائبه جيه. دي. فانس يقول إن الاتفاق النووي إذا ما أنجز، “سيتيح لإيران العودة إلى عجلة الاقتصاد العالمي”.
وهذا ما يُفسّر تقلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على نار القلق. ببساطة يُفضّل الأخير، أن يُدمّر ترامب إيران، لا أن يبنيها.
لماذا أبقى ترامب نتنياهو خارج قرارات كبيرة اتخذها مؤخراً؟ من الذهاب إلى التفاوض مع إيران، إلى مهادنة آحادية مع الحوثيين (وطبعاً هذه هدنة أبرمت بتشجيع إيراني سعودي). وفّرت إيران لترامب مخرجاً من التورط في اليمن بعدما ثبت أن الحملة الجوية وحدها غير كافية للقضاء على مقدرات الحوثيين العسكرية. ولا تزال ترددات جلوس مسؤول أميركي مع القيادي في “حماس” خليل الحية للمرة الثانية، يُسمَع صداها في إسرائيل. استطاع ترامب إطلاق الأسير الإسرائيلي عيدان ألكسندر الذي يحمل الجنسية الأميركية، بلا مقابل. ردّ نتنياهو على هذا البادرة عازياً إياها إلى الضغط العسكري الإسرائيلي وهو يُدرك أن الأمر ليس كذلك.
يرى الباحث في شؤون الشرق الأوسط في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، غريغ بريدي، أن “سوريا ما بعد الأسد، وإن كانت هامشية بعض الشيء بالنسبة للمصالح الإقليمية الأميركية، إلا أنه من الأفضل الحفاظ عليها موحدة قدر الإمكان بالتوازي مع تعافي اقتصادها. بهذه الطريقة، من المرجح أن تتمكن من احتواء فلول تنظيم داعش بمفردها، مع إبعاد النفوذين الروسي والإيراني. ومن وجهة نظر واشنطن، فإن سوريا المثالية ستحترم أيضاً السيادة اللبنانية، ولن تُشكل تهديداً خطيراً لإسرائيل”
قرار رفع العقوبات المفروضة على سوريا منذ 1979، تشجعت به طهران، لجهة أن ترامب قد يُقدم على قرار مماثل بالنسبة للعقوبات المفروضة على إيران في حال التوصل إلى اتفاق نووي. وتنم الديبلوماسية الإيرانية المكثفة في اتجاه السعودية والإمارات، عن ميل لدى طهران لتوسيع آفاق التعاون مع الدول الخليجية في ظل التفاؤل باقتراب التوصل إلى اتفاق مع واشنطن. وكشفت صحيفتا “النيويورك تايمز” الأميركية و”الغارديان” البريطانية قبل أيام، عن اقتراح إيراني بإنشاء مشروع مشترك لتخصيب اليورانيوم، يضم دولاً عربية واستثمارات أميركية، وذلك للتغلب على اعتراضات الولايات المتحدة على استمرار برنامج التخصيب الإيراني.
وفي مقابلته مع شبكة “إن بي سي نيوز” الأميركية، قال علي شمخاني، مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، بوضوح إن إيران ستتعهّد عدم صنع أسلحة نووية مطلقاً، والتخلص من مخزونها من اليورانيوم العالي التخصيب، وحصر تخصيب اليورانيوم بالمستويات الضرورية للاستخدام المدني، والسماح للمفتشين الدوليين بالإشراف على العملية، مقابل الرفع الفوري لجميع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران.
وتمضي سوريا في مسار مشابه للمسار الإيراني. وقد وفّرت الجولة الخليجية، لترامب الخروج من المأزق السوري. فكان قرار رفع العقوبات تلبية لطلب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومن ثم استقبال ترامب للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع.
واضحٌ، أن ترامب يميل إلى تركيا في صراعها مع إسرائيل على سوريا. ولهذا أسبابه، التي تبدأ برغبة الرئيس الأميركي بسحب ما تبقى من قوات أميركية في شمال شرق سوريا، ولثقته بأن الكثير من التجاوزات التي تشكو منها أميركا والغرب، ربما تكون أنقرة أكثر قدرة على التعاطي معها، مما يمكن أن تفعل إسرائيل. والمقاتلون الأجانب الذين يتصدرون لائحة القلق الأميركي والغربي عموماً، هؤلاء دخلوا إلى سوريا من تركيا والاستخبارات التركية وحدها تستطيع إعادتهم إلى بلادهم أو تحجيمهم.
إن تركيا، بعد القاء “حزب العمال الكردستاني” السلاح وحل نفسه، باتت في موقع إقليمي أقوى. والدليل، أنها هي التي ترعى الآن المفاوضات بين السلطات الجديدة في دمشق وإسرائيل، وهي مستعدة لصفقة تقتسم فيها النفوذ مع الدولة العبرية في سوريا. هناك سابقة في ليبيا. الشرق تحت الرعاية التركية، والغرب تحت الرعاية الروسية والمصرية.
ويرى الباحث في شؤون الشرق الأوسط في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، غريغ بريدي، أن “سوريا ما بعد الأسد، وإن كانت هامشية بعض الشيء بالنسبة للمصالح الإقليمية الأميركية، إلا أنه من الأفضل الحفاظ عليها موحدة قدر الإمكان بالتوازي مع تعافي اقتصادها. بهذه الطريقة، من المرجح أن تتمكن من احتواء فلول تنظيم داعش بمفردها، مع إبعاد النفوذين الروسي والإيراني. ومن وجهة نظر واشنطن، فإن سوريا المثالية ستحترم أيضاً السيادة اللبنانية، ولن تُشكل تهديداً خطيراً لإسرائيل”.
في جولته الخليجية، وعد ترامب الشرق الأوسط بـ”عصر ذهبي”. ومنطقي أن لا يبدأ هذا العصر بشن حروب لا تنتهي أو بالعودة إلى سياسة “بناء الأمم”، من فيتنام إلى العراق وأفغانستان.
في ظل انشغال أميركا بحروبها الخارجية، صعّدت الصين لتصير المنافس الاستراتيجي الأقوى للولايات المتحدة. وفي غمرة الحفاوة الخليجية بترامب، كانت الصين تعقد قمة مع عشر دول من أميركا اللاتينية في بكين لتمتين شراكاتها الاقتصادية مع الحديقة الخلفية لأميركا.
وبرغم عودة ترامب باتفاقات تجارية “تاريخية”، فإن دول الخليج تُقيم توازناً دقيقاً في علاقاتها الدولية. لا هي تتخلى عن شراكاتها مع الصين أو عن التنسيق مع روسيا.
ويجد ترامب أن دول الخليج متفهمة لرؤيته أكثر بكثير من نتنياهو، الذي يريد جر الرئيس الأميركي إلى الاستراتيجية الوحيدة التي يعتمدها للبقاء السياسي، ألا وهي استمرار الحروب.
وقبل هذا وذاك، اضطر ترامب قبيل الانطلاق في رحلته الخليجية، إلى إبرام هدنة مدتها 90 يوماً في الحرب التجارية مع الصين، المنافس الاستراتيجي الذي يُهدّد الأحادية الأميركية المستأثرة بشؤون العالم منذ 1991.