فلسطين منذورة.. جيلاً بعد جيل

الكتابة بداية الحياة. وليس كل "كتابة" كذلك. والصمت بداية الموت. لكن فلسطين لم تصمت. دمها ينطق. وكتابتها بداية من بدايات الحياة.

كم مرة قالوا عنها خلص. “اشقاؤها” الاشقياء باعوها كلاماً واجروا بحقها قصص الإلغاء وبيادي التصفية. أخذوها الى كل العواصم، وخذلوها. كتبوا لها نهايات سرية. غمروها بالخيانات “الأخوية”. مراراً، صدقت أنظمة، أنها بريئة لأنها حكت وثرثرت وخطبت، ثم غسلت يديها بدم الفلسطيني.

هل هذا كلام عام؟ أبداً. ظهر أن فلسطين خيّبت رهانات الأنظمة الممتلئة كلاماً، والهائمة في مسيرتها خلف سراب السلام الذي يشبه الاستسلام، بكل جدارة “الأخوة” العربية المطعونة؟.. أبداً. ليس ما يكتب هنا قول على أقوال. زيارة الذاكرة شافية. لا حاجة إلى مراجع مكتوبة أبداً. لبنان – فلسطين، وانما، تآخت مع الاحتلال والاستيطان والاغتصاب..

السؤال البديهي: هل بمقدور أحد ان يُحدّد من نصر فلسطين في ملحمة الانقضاض عليها، وهي تدافع باللحم الحي، بالضعف الشجاع، بالأطفال الأبطال، بالطلاب المدججين بغضب لا ينضب، بنساء وفتيات، شرّعن لفلسطين عشقاً إلى حدود السفك والبسالة والجرأة.

وحدها فلسطين، كانت فلسطينية. الأنظمة ودول ما بعد سايكس – بيكو، عرجت على فلسطين في حربين فاشلتين. جيوش عربية تندحر بسرعة البرق. حربان خاسرتان، يدفع ثمنهما الفلسطيني. كل “حرب تحرير” تؤول إلى خسارة أرض. وعندما نشأت المقاومة، كانت سرية، وسريتها مزدوجة. سرية كي لا تكون ضحية أنظمة دكتاتورية، تدافع عن فلسطين بمكبرات الصوت، وتنصب شبكة تجسسها على المقاومة. كي لا تستدرجها الى حرب، تابت عنها أنظمة كان يُعوّل عليها لقوميتها، لكنها اختارت النظام والقطرية، على الدعم التام والأخوي للمقاومة.

فلسطين، يا عالم اليوم، تنجب المعجزات. ليس لجرأته حد. جيل خلف جيل خلف اجيال

لقد نالت الأنظمة من المقاومة. الذين دافعوا عنها، لم يفوزوا في المعركة. تشتت الفلسطيني. أصبح لاجئاً عالمياً. عاصمته المنفى. والمنفى الفلسطيني يغلي بالإنتماء، ويخطط للعودة.

يقول فرانز كافكا: “أليست الكتابة هي القفز خارج صف القتلة”. صح أحياناً. إنما، الكتابة بالقبضة والطلقة، خروج واضح عن الواقع ومآسيه وفداحاته، إلى أفق الحرية. الفلسطيني كتب التاريخ، منذ مئة عام، بلغة بليغة، لأنها ولدت من حبل الصبر والجباه والعالية والأمل الذي لا يتضاءل، إلا لماماً. غالباً، ما عرف أن “إخوته” في الكيانات “العربية” مشغولون “بقضاياهم”، التي تشبه ما آلت اليه “دولهم” من افلاس.

يتراءى للمراقب، إبان مراجعة عربية للاحتلال الصهيوني، أن معظمهم تعاطى معها، من “قفا ايدو”. المراجعة اليوم هي محاكمة قاسية وضد النسيان. الأنظمة “العربية” أقدمت على إحتلال شعوبها. لا شعوب عربية ابداً. الأنظمة الملكية، حكم من فوق على الشعب. وضد الشعب إذا حاول ان ينطق ويكتب. الأنظمة الأميركية والسلطانية كذلك. الدكتاتوريات العربية، أقدمت على رفع يافطة فلسطين العربية، تحت مراقبة أجهزة الأمن المشغولة بضبط بنادق المقاومة، على ايقاع ” الحكمة السياسية” التي تتستر بها الأنظمة.

فلسطين ضحية الصهيونية أولاً. ثم، كانت محفوظة في اضبارات النسيان والإنضباط. أحياناً، كانت تشعر الأنظمة أنها تعرت كلياً أمام الرأي العام القليل. عوّضت عن تخليها، بدفع “الجزية” لمنظمة التحرير الفلسطينية. ثم، أقدمت دول التصدي على ابتداع مقاومة فلسطينية، تؤجر قرارها إلى آلهة الأنظمة العسكرية والعقائدية. وصدف، مراراً كثيرة، أن عرفت السجون العربية “التقدمية”، زيارات الزامية لقادة فلسطينيين، وحملة القضية ببسالة، وحملة السلاح لمواجهة المصير.

إن الاحتلال مزدوج. واضح. مبرهن عليه. ولا دولة. من المحيط إلى الخليج، وفرت شعبها من الاحتلال. كثيرون من سجناء الرأي، سجين قضية ورأي وفعل. أما الشعوب العربية، فكانت معتقلة، وملزمة بالصمت، من دون أي ارتكاب أو تفكير مغاير عن تفكير الزمرة الحاكمة. “كلن يعني كلن”.

ثم ما كان سراً، بات علناً. وما كان عاراً، صار مجداً. وما كان يُخشى افشاء سره، بات يُعلن، على الملأ، وبحضور دول عظمى، ودول اقليمية وغربية. عبور من “العروبة” المغيبة و”الاسلام المؤجر” إلى الاخاء “العربي الاسرائيلي”. وجاء ذلك بعد اتمام مراسم الطلاق الابدي، مع فلسطين. وبدا، أن هذه الطمأنينة التي تركن اليها هذه الأنظمة، بمباركة وحماية الرعاة الدوليين الدائمين لإسرائيل، في كل ما ارتكب من حروب وظلم وتعذيب ونفي واخضاع لشعب، بقامة “جلجامش” وأشقائه الأسطوريين.. بدا أن هذه الطمأنينة، افسحت لحكام هذه الأنظمة، التبشير بالسلام الاسرائيلي فقط، انطلاقاً من أن المسألة الفلسطينية هي في عهدة “الدولة الاسرائيلية الشقيقة”، التي ستجد حلاً لها.

من كان يتخيل أن هذا سيحدث. قليل جداً. باستثناء نخب قليلة، درست طبيعة الأنظمة العربية، وبنيتها، وأساليب حكمها، وقوة عصبياتها، وفجاعة سرقاتها، وعبقرية البناء على الضعف، وتسريب مهمات التخلي. ولكن الأفدح، كان علنياً ومكلفاً. الحروب العربية العربية، كانت لحذف فلسطين من جدول الاعمال العربي العام. تركوا لفلسطين أن تلجأ إلى أفشل مؤسسة عربية، “جامعة الدول العربية” الركيكة بإرادتها ثم إدارتها.. حروب الأخوة الأعداء كانت الكارثة. العداوات بين الانظمة “القومية” التي استولت على السلطة في سبع دول عربية، والحروب الكلامية والامنية، بلغت حداً من العداء. جعل من اسرائيل راقصاً لعوباً متفرجاً، على “الهيرا كيري” العربية. حافل ملف التخلي، ولكن لا أحد كان يتوقع، أن تصبح “اسرائيل” الـ GodFather لدول تسحل شعوبها، وغالباً ما تلمح شعاراً عربياً جديداً: “شكراً اسرائيل”.

هي غزة هناك. هي جنين هناك. هم الفتيان والفتيات هناك. هي القضية، كل القضية. هي الدين كل الدين في خدمة القبضة والطلقة والموقف.. فلسطين منذورة لشعبها ولو اجتمع العالم كله ضدها.. مئة عام من الصمود والقتال والتضحيات والخسارات و… لم تقدر ولم تقنع الفلسطيني بأن يتقاسم وطنه مع الاحتلال

خلف هذه النكبات العربية، دولة عظمى، قامت في تاريخها على الارتكاب والحروب الاجرامية. وهذه، ترى في اسرائيل علماً ازرق، ستزداد فيه النجوم، وستكون بعد ذلك، دول التخلي التام عن فلسطين.

إقرأ على موقع 180  البوارج الغربية في بحر لبنان: رسالة بأي إتجاه؟

لا بد من العودة الى الذاكرة العربية لتعزيلها من النفاق السياسي من المحيط الى الخليج. ولا بد من إلقاء تحية الوداع لأنظمة الخداع “الديني” و”القومي” و”القطري” و”الكياني” و”الطائفي” و”المذهبي”.. هؤلاء حشوا الذاكرة بالكلام الذي تناقضه المواقف.

ولا بد من تأسيس ذاكرة جديدة. بدايتها من فلسطين. فلسطين هي “الحية الوحيدة” في طابور الموت العربي. فلسطين منذورة لشعب موشوم بنبوة النضال وموعود بالانتصار. الشعب الفلسطيني يعود كل مرة، ليمسك بالزمن العربي ويدله على عقارب الوقت النضالي.

فلسطين، يا عالم اليوم، تنجب المعجزات. ليس لجرأته حد. جيل خلف جيل خلف اجيال. قد يقال: هذه مبالغة. كلا وألف كلا. لا شيء يشبه الانتصاب الفلسطيني الدائم. “منتصب القامة أمشي” ونمشي. هي غزة هناك. هي جنين هناك. هم الفتيان والفتيات هناك. هي القضية، كل القضية. هي الدين كل الدين في خدمة القبضة والطلقة والموقف.. فلسطين منذورة لشعبها ولو اجتمع العالم كله ضدها.. مئة عام من الصمود والقتال والتضحيات والخسارات و… لم تقدر ولم تقنع الفلسطيني بأن يتقاسم وطنه مع الاحتلال.

أغلب الظن، ان اسرائيل تشعر بالقلق. تريد الأمن والارض. ولكنها تعرف جيداً جداً. ان امنها لا يمكن ان يأتيها من دول الخليج ودول التخلي، من الغرب الى “عربان الفرنجة”. امنها مهدد من غزة وشعبها، من المقاومة في لبنان، ومن يدعمها، هنا وجعها. انها تهرب الى حيث لا ملجأ لها. لا أمن يأتيها من دول تستعير الامن من اميركا والغرب.

أما لبنان الذي احتضن نصف “شعبه” المقاومة، فهو معني دائماً، بأن يجد معادلة، نحفظ فيها فلسطين، ونحفظ فيها شعب لبنان المنقسم اساساً ومراراً حول فلسطين في لبنان.

ولأن لبنان يمتاز على كل العرب، بلا استثناء بأنه بلد، لا مفر له من الحرية، على قواه ان تقلع عن النظرة العدائية الكبيرة، بين فريقي النزاع السياسي الداخلي. أي بين “قوى الممانعة” و”قوى التخلي”. الحوار ضروري جداً. لا يستطيع فريق ان يلغي آخر. ولا امكانية للتعايش في مناخ العداء المتمادي.

فلسطين في لبنان، هي امتحان لبقاء لبنان موحداً وسالماً، فلا يوغل في شبه حرب أهلية. الحوار ضروري بين ثوابت فادحة، “لا تفريط بلبنان ووحدته”، ولا تفريط بفلسطين ودعمها.

هل يمكن ان تحصل معجزة التلاقي والتفاهم؟

إذا لم يحدث ذلك، فليس امامنا، الا الجلجلة، بلا قيامة.

اليوم يقال: “المسيح قام”. “حقاً قام”. فهل يقال في زمن ما، لبنان قام، وفلسطين كذلك.

لا مفر من لبنان أبداً، كوطن لا كملجأ طوائف وتجارة مخاوف. ولا مفر من فلسطين، قبلة الروح، ومعقل الارادة، ورافعة الظلم التاريخي، الذي وقع على شعب، يتمتع بفضائل كثيرة أهمها: يرفض الركوع ولا يبادل فلسطين بالسماء.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "معركة مخيم جنين الكبرى 2002".. التاريخ الحي كتاباً