في موازاة ذلك، أجرى جيش الإحتلال الاسرائيلي مناورة عسكرية غير مسبوقة تضمنت محاكاة حرب شاملة على جبهات عديدة، براً وبحراً وجواً، بينها شن هجوم ضد منشآت إيرانية، وهو الأمر الذي أعاد ترجيح كفة الخيارات العسكرية في المنطقة في حال فشل مفاوضات فيينا في إعادة تعويم الإتفاق النووي.
هذان التطوران المستجدان، دولياً وإقليمياً، هما على صلة مباشرة بالملف النووي. زدْ على ذلك الزيارة المثيرة للجدل التي قام بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى تل أبيب قبل ايام من موعد انعقاد اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ فيما أعطت تصريحات منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد الاوربي جوزيب بوريل إشارة واضحة إلى أن فرصة ابرام صفقة نووية “تتضاءل”، برغم إعتقاد العديد من الخبراء الأوروبيين أن أوروبا لا تتحمل تبعات أزمة جديدة مع إيران، وهي التي تنوء تحت أعباء أزمة أوكرانيا.
من خلال هذه الاحداث والتطورات المتسارعة، يمكن التوقف عند حدثين مهمين، أولهما زيارة رافائيل غروسي إلى الكيان العبري؛ وثانيهما المحاكاة التي اجراها جيش الإحتلال لضرب منشآت في عمق الأراضي الايرانية.
لنبدأ من الحدث الثاني لأنه يشغل اوساطاً عديدة في المنطقة والعالم. تل ابيب أصبحت “تفكر” بصوت مرتفع لما يُمكن أن تؤول إليه مآلات المواجهة المفتوحة بينها وبين إيران؛ ولعل الكثير منها يندرج في خانة “الأحلام”، لكن يجب ان نعلم ان هذا “الحلم” ليس جديدا وانما يرجع لاكثر من عقدين من الزمن، لكنه لم يكن متاحا للكيان العبري؛ ربما كان تحت اليد بـ”القوة” لكن ليس بـ”الفعل”. هنا لا بد من إدراج هذه النقاط الإستراتيجية:
أولاً؛ لو كان الكيان العبري قادراً على ضرب المنشآت الايرانية؛ لم يكن ليتأخر لحظة عن تحقيق ذلك ولكتن ذلك أصبح من الماضي (…).. ولكنه لم يكن قادراً لأسباب مختلفة.
ثانياً؛ تدرك “إسرائيل” جيداً ان اي هجوم علی ايران سوف يشعل نيران حرب لن تقف عند حدود جغرافية معينة وانما ستتحول إلى حرب اقليمية تتجاوز العمق الاستراتيجي التقليدي للجيش “الإسرائيلي”، الأمر الذي يستوجب الإستعانة بالقيادة المركزية للقوات البحرية والاسطول الخامس الامريكي بعد نقل الجيش “الإسرائيلي” ليكون جزءاً من هذه القيادة.
ثالثاً؛ تدرك تل أبيب انه مهما امتلك جيشها من عناصر القوة العسكرية وحجمها، لا يمكنه خوض حرب بمفرده، ما لم يكن هناك ضوء اخضر امريكي وجسر جوي عسكري مع الولايات المتحدة؛ وهذا ما ثبت خلال جميع الحروب التي شنها الكيان منذ العام 1948 بما في ذلك الحروب التي خاضها مع قطاع غزة او مع لبنان. ناهيك ان الأوضاع الاقليمية والدولية والامريكية (الداخلية) لا تسمح بمنح الكيان مثل هذا الضوء في الوقت الراهن لاسباب تتعلق بتداعيات الازمة الاوكرانية علی الدول الغربية وتحديدا الاوروبية؛ اضافة الی اجواء الانتخابات النصفية الامريكية وانشغال الرئيس جو بايدن بهذه الانتخابات التي تشير استطلاعات الراي العام إلى انخفاض مستمر في شعبيته؛ فيما تشي تطورات الاقليم بتهيب جميع الأطراف وإستشعارها ضرورة تعزيز الامن والاستقرار بعد اكثر من عقدين من الازمات والحروب.
رابعاً؛ تقول ايران إن مرحلة “اضرب واهرب” قد انتهت ولم يعد لها وجود.. ومن يعتدي عليها يجب ان يتحمل عواقب ذلك. لذا، قد ينجح الجيش “الإسرائيلي” في اطلاق الرصاصة الاولی لكن ليس من المعلوم لمن تكون الرصاصة الثانية.. ومن يطلق الرصاصة الاخيرة؟.
خامساً؛ فشلت “اسرائيل” في استغلال “العهد الذهبي” عندما كان دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة ومايك بومبيو وزيرا للخارجية وجون بولتون مستشارا للامن القومي لشن هجوم علی ايران خصوصا ان هؤلاء الثلاثة كانوا من الصقور الذين ارادوا الاحتفال وسط العاصمة طهران بسقوط النظام الإيراني!. وعندما يعلم قادة الكيان انهم فشلوا في توريط اولئك الصقور، فان “الصقور الجدد” في البيت الابيض اقل جرأة من اقرانهم علی اشعال حرب لا يعلم مصيرها الا الراسخون في العلم!.
سادساً؛ لم تفصح إيران حتى الآن عن كامل قدراتها العسكرية؛ لكن ما افصحت عنه يؤشر إلى امتلاكها منظومة صاروخية بالستية ذات مدی الف والفي كيلومتر؛ وطائرات مسيرة كشفت عن قسم منها وتقول انها تستطيع اختراق اجواء “القبة الحديدية” للكيان؛ وتقول ايضا انها اختبرت هذه الاجواء من جنوب لبنان ومن غزة وحتی من ايران بشكل مباشر، من دون إغفال ما تعنيه “الصواريخ الدقيقة” على صعيد الأهداف، العسكرية والأمنية والخدماتية إلخ..
اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية أمام مفترق طرق. إما ان يصادق علی مشروع قرار الإدانة وهذا يعني اطلاق رصاصة الرحمة علی الاتفاق النووي ومن ثم يستوجب إعادة نظر ايرانية في آلية التعامل مع الوكالة الدولية؛ وهذا لا يخدم مصالح الدول الغربية ولا مصالح دول المنطقة؛ او يساعد على خلق ارضية مناسبة لتعاون اكبر بين ايران والوكالة وبالتالي زيادة فرص احياء الاتفاق النووي
سابعاً؛ ثمة نقطة اخيرة وهي ان ايران ابلغت كل من يعنيه الامر انها سوف تهاجم اي نقطة ينطلق منها تهديد موجه إليها؛ خصوصا ان هذه النقاط – كما تقول – “قيد الرصد والمراقبة”.
هذا في الحدث الاول؛ اما الحدث الثاني وهو زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى تل أبيب، فليس من الواضح حتى الآن لماذا قرر هذا الرجل زيارة تل أبيب “المتمردة” تاريخياً على الوكالة، وذلك قبيل ايام من موعد انعقاد مجلس محافظي الوكالة الدولية. وهذا الأمر برسم الملاحظات السريعة الآتية:
أولاً؛ “إسرائيل” ليست عضواً في الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ثانياً؛ ترفض “إسرائيل” استقبال المفتشين التابعين للوكالة الدولية لتفقد منشآتها النووية.
ثالثاً؛ ترفض “إسرائيل” الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي.
رابعاً؛ ترفض “إسرائيل” تفكيك ترسانتها العسكرية النووية التي تتراوح ما بين 300 إلى 400 رأس نووي.
وهذه النقاط الاربع هي في صلب عمل الوكالة الدولية وفي صميم اهدافها. اذن لماذا ذهب رافائيل غروسي إلى تل أبيب؟ هل أراد اقناعها بالانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي؟ ام انه طالبها بتفكيك ترسانتها النووية العسكرية؟
هذه الزيارة مريبة ومدعاة للتأمل خصوصاً اذا كان جدول أعمالها يتطرق إلى البرنامج النووي الايراني. فاذا كان غروسي يريد الحصول علی معلومات بشأن البرنامج الايراني، فان تل أبيب ليست المرجع الصالح ولا المكان المناسب للحصول علی مثل هذه المعلومات خصوصاً ان الوكالة تعلم علم اليقين ان جميع معلومات الكيان العبري قبل العام 2015 كانت كاذبة وتحريضية. لكن السؤال المحير؛ ما هو مصدر معلومات الوكالة عن الدول الاعضاء فيها؟ هل اجهزة المراقبة وفرق التفتيش التي اكدت خلو البرنامج الايراني من العسكرة؛ أم اجهزة مخابرات “اسرائيلية” ثبت للوكالة بأنها مزيفة وغير صحيحة؟.
علی اي حال، الوكالة الدولية للطاقة الذرية هي وكالة فنية غير سياسية والمطلوب منها تعزيز مصداقيتها امام المجتمع الدولي حتی تستطيع انجاز اهدافها ورسالتها؛ لكن للأسف لم تنجح بذلك وهي مدعوة لتصحيح المسار حتی لا تقع في ما وقعت فيه مع العراق قبل العام 2003.
بإختصار، اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية أمام مفترق طرق. إما ان يصادق علی مشروع قرار الإدانة وهذا يعني اطلاق رصاصة الرحمة علی الاتفاق النووي ومن ثم يستوجب إعادة نظر ايرانية في آلية التعامل مع الوكالة الدولية؛ وهذا لا يخدم مصالح الدول الغربية ولا مصالح دول المنطقة؛ او يساعد على خلق ارضية مناسبة لتعاون اكبر بين ايران والوكالة الدولية وبالتالي زيادة فرص احياء الاتفاق النووي وخفض التوتر بين الجانبين وهي مهمة لا يُقدم عليها سوی العقلاء والحكماء من ابناء البشر، وهؤلاء ينقص عددهم في أيامنا هذه.. ولا يزيد!