بعد أكثر من سنة ونيف على بدء المفاوضات الأميركية-الإيرانية غير المباشرة في فيينا بهدف عودة الولايات المتحدة إلى الإتفاق النووي الذي إنسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2018، في مقابل عودة إيران إلى إلتزام سقف تخصيب الأورانيوم، الذي كان محدداً في خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، تبدد الزخم الذي إنطلقت به المفاوضات في نيسان/أبريل 2021، وتراجعت نسب التفاؤل بإمكان إحياء الإتفاق إلى حدودها الدنيا، وكلما إقترب موعد إنتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، كلما وجد بايدن نفسه مغلول اليدين أمام تقديم تنازلات تطالب بها إيران، كرفع إسم الحرس الثوري الإيراني عن لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية أو تقديم ضمانات “كافية” بعدم الإنسحاب من أي إتفاق مستقبلي.
أمام مأزق فيينا، رفعت واشنطن الضغوط على إيران، من دون أن تذهب إلى حد نعي المفاوضات. وفي هذا السياق، تتجه فرنسا وبريطانيا وألمانيا والإتحاد الأوروبي، وهي من الأطراف الموقعة على إتفاق 2015، شيئاً فشيئاً نحو الإنحياز إلى الموقف الأميركي، بدليل مشروع القرار الذي قدمته هذه الدول بالإشتراك مع الولايات المتحدة إلى مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبوع الماضي، ويتضمن تنديداً بعدم تقديم طهران تفسيرات “ذات صدقية” لوجود آثار أورانيوم مخصب في ثلاثة مواقع نووية غير مصرح بها، فضلاً عن أكثر من مناشدة مشتركة للدول الأوروبية الثلاث في الأشهر الأخيرة تطالب بها إيران بتسهيل مفاوضات فيينا، وكأنها بطريقة غير مباشرة تلقي باللوم عليها في بلوغ الطريق المسدود.
الموقف الأوروبي اليوم، كأنه في طريقه إلى مغادرة المربع، الذي كان فيه عام 2018، عندما وجّه الإنتقاد علناً إلى الولايات المتحدة لإنسحابها من الإتفاق النووي، علماً أن الأوروبيين عجزوا عن المضي في تنفيذ آلية وضعوها هم بأنفسهم لحماية الإتفاق، وكانت شركاتهم أولى الكيانات الإقتصادية التي غادرت إيران خوفاً من أن تنالها شظايا حملة “الضغط الأقصى” التي أطلقها ترامب لإرغام إيران على التفاوض على إتفاق جديد.
ها هنا، لعبت الحرب الروسية-الأوكرانية، دوراً كبيراً في الإقتراب الأوروبي من الموقف الأميركي، ذلك أن الولايات المتحدة عادت لتمسك بقوة بورقة أمن أوروبا عبر حلف شمال الأطلسي، ولن يكون متخيلاً أن تتخلى الدول الأوروبية عن واشنطن في الوقت الحاضر، إذا ما إختارت الأخيرة تصعيد الضغوط على طهران، وفرض المزيد من العقوبات عليها.
هل تذهب أميركا المتشجعة بموقف غربي موحد إزاء روسيا في أوكرانيا، إلى موقف مماثل حيال إيران؟ وهل يعود الشرق الأوسط ليدفع ثمن الطريق المسدود في فيينا، فتنهار هدنة اليمن ويبقى الحوار السعودي-الإيراني مجمداً، وتتجدد الإستهدافات للمصالح الأميركية في العراق، وتتأهب تركيا لغزو جديد لشمال سوريا، فيما تحمل سفينة يونانية على متنها، نُذر صيف ساخن بين لبنان وإسرائيل؟
وفي مواجهة إحتمال إنتقال أوروبا من دور الوسيط إلى دور المشارك في الضغوط الأميركية وربما الإنضمام إلى عقوبات جديدة أو الدفع من أجل نقل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن مجدداً، من المرجح أن يؤدي هذا الإنزياح الأوروبي إلى القضاء على ما تبقى من فرص لإنقاذ الإتفاق النووي.
على أن إيران، في المقابل، ليست مستعجلة للتوصل إلى إتفاق. ولديها أيضاً أوراق ضغط أهمها مواصلة التخصيب بنسب عالية وحيازتها كميات أكبر من الأورانيوم المخصب، الذي بحسب التقديرات الأميركية والإسرائيلية وإستناداً إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يجعلها تحتاج فقط إلى أسابيع لجمع ما يكفي من المواد الإنشطارية التي تؤهل طهران بلوغ العتبة النووية، ولا يبقى سوى القرار بإجراء أولى تجاربها النووية، أما مسألة صنع رأس نووي قابل لتثبيته على صاروخ باليستي، فقد تحتاج طهران، وفق التقديرات الغربية، إلى سنتين على الأقل.
في الوقت نفسه، وفّر الإتفاق الإستراتيجي مع الصين، نافذة إقتصادية لإيران تعوض بها جزءاً مهماً مما تخسره نتيجة العقوبات الأميركية، على رغم أن العملة الإيرانية لا تزال في هبوط مستمر حيال الدولار الأميركي. لكن من المؤكد أن الوضع كان ليكون أسوأ بكثير لولا العامل الصيني.
كما أن روسيا، حتى من قبل الحرب الأوكرانية، كانت تتجه لتوثيق علاقاتها مع إيران. وطبعاً، تعزز هذا الإتجاه بعد الحرب والعقوبات الغربية غير المسبوقة على موسكو.
وبعثت الصين وروسيا برسالة واضحة إلى الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين، من خلال تصويتهما ضد قرار التنديد بإيران في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولن يكون الأمر مختلفاً في حال قرر الغرب نقل الملف النووي الإيراني مجدداً إلى مجلس الأمن. وهذا أيضاً من أوراق القوة التي تملكها إيران وتجعلها لا تستعجل إبرام إتفاق في فيينا لا يلبي مصالحها.
وعكس المبعوث الأميركي للشؤون الإيرانية روبرت مالي خلال مثوله للشهادة أمام مجلس الشيوخ، مؤخراً، جواً متشائماً حيال إحتمالات إحياء الإتفاق النووي، لكنه لم يصل إلى القول إنه على أميركا أن تضع الخيار العسكري على الطاولة.
لكن أصواتاً أميركية نافذة في الكونغرس، باتت ترى على ضوء تعثر مسار فيينا، أن الوقت قد حان لمغادرة المفاوضات وصوغ الخطة “ب” وتبنيها، على ما ذهب إليه السناتور الديموقرطي البارز روبرت منينديز الذي دعا إلى القول بوضوح إن إيران أجهضت كل الجهود الديبلوماسية.
موقع “ذا هيل” الأميركي، كتب إن الإدارة الأميركية “يجب أن توضح بجلاء أن الولايات المتحدة ستعاود الوفاء بإلتزاماتها ووجودها في الشرق الأوسط، من خلال مبدأ بايدن الذي يؤكد الجاهزية لإستخدام كل الوسائل للدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة، بما فيها منع إيران من الحصول على أسلحة نووية”.
وإذا كان بعض المسؤولين الأميركيين المؤيدين لإنضمام واشنطن مجدداً إلى الإتفاق النووي، يعتقدون أن هذه هي الوسيلة الأفضل لإبرام إتفاق أفضل وأوسع مدى في المستقبل مع إيران، فإن تعثر مسار فيينا قد أحبطهم. ووزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن لا يني يكرر بأن واشنطن لن تستمر في مفاوضات فيينا إلى “ما لا نهاية”.
وبعض الخطوات التي إتخذتها إيران رداً على التنديد بها في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مثل إزالة كاميرات من بعض المنشآت النووية، إلى زيادة أعداد أجهزة الطرد المركزي، إلى إجراءات أخرى تتوعد بها، جعلت المدير العام للوكالة رافاييل غروسي يحذر من “ضربة قاصمة” للإتفاق النووي.
فهل تذهب أميركا المتشجعة بموقف غربي موحد إزاء روسيا في أوكرانيا، إلى موقف مماثل حيال إيران؟ وهل يعود الشرق الأوسط ليدفع ثمن الطريق المسدود في فيينا، فتنهار هدنة اليمن ويبقى الحوار السعودي-الإيراني مجمداً، وتتجدد الإستهدافات للمصالح الأميركية في العراق، وتتأهب تركيا لغزو جديد لشمال سوريا، فيما تحمل سفينة يونانية على متنها، نُذر صيف ساخن بين لبنان وإسرائيل إنطلاقاً من حقلي قانا وكاريش قبالة الناقورة.
لفيينا أيضاً خطوطها المتعرجة!