تشبه حالة المباريات نوعًا ما اللحظات المفصلية في مصير الأمم وتاريخها، فإمّا تسجيل النصر، أو الهزيمة المدوية، ودفع الثمن الباهظ، والخروج من التاريخ بانتظار معركة أخرى ليس معلومًا حصولها مجددًا.
يصف هارلد شوماخر حارس مرمى المانشافت في كأس العالم 1986 في كتابه “صافرة البداية” الصادر في العام 1987 بعد خسارة ألمانيا أمام دييغو مارادونا، يصف زميله كارل هاينز رومينيغه بأنه كان يتدرب قبل البطولة كالحيوان للوصول إلى الكأس. وهو ما أثار رد فعل كبير في الشارع الألماني آنذاك. قد يكون التعبير خان شوماخر حينها، ولكن العبرة في أنّ الفوز يحتاج إلى جهود جبارة لتحقيقه. وبانتظار الوصول إلى اللحظة المفصلية، تمارس الأطراف التدريب ووضع الخطط والمناورات واختبار اللاعبين والأدوات والمعدات، وتخفيها عن العدو.
تعيش المنطقة اليوم حالة ما قبل هذه اللحظة التاريخية، وما يجري منذ العام 2011 يخدم هذا السياق، مع تبدلات ليست صغيرةً في الواقع السياسي الدولي.
خارطة المصالح الدولية
ولأنّ المرحلة دقيقة وحساسة ولا تقبل الأخطاء، فإنّ اللاعبين المؤثرين يراجعون خياراتهم بدقة بالغة.
نبدأ من اللاعب الرئيس والمؤثّر، وهو واشنطن التي لا ترغب حاليًا بحرب في المنطقة، تزيد مشاكلها، وتبعثر أولوياتها، ولن تحقق لها الكثير من المكاسب والأوزان في المعركة الأساسية مع روسيا والصين.. لذلك تحوّل الرئيس جو بايدن مؤخّرًا إلى مسايرة السعودية، وأسرف في التغزل بقطر لتوفير بديل عن الغاز الروسي، من أجل زيادة الإنتاج وخفض سعر النفط الذي يقضّ مضجع إدارته.
تعرف اسرائيل نقاط الضعف والقوة في الواقع الدولي، ولا سيما عند الحليف الأميركي، لذلك هي تضغط على أعدائها في سوريا، وبدأت بتجاوز الخطوط الحمر بعد قصفها مطار دمشق وتعطيله، وترفع من وتيرة العمليات الأمنية في إيران عبر الاغتيالات المكثّفة، تعويضًا أوليًا عن عدم قدرتها على تعطيل البرنامج النووي الإيراني أو تدميره، وهي تحاول أن تستدرج ردًا من إيران، علّها تورّط واشنطن في حرب هي ليست في حسابات الإدارة الأميركية، التي تشيح بنظرها عن منطقة لم تعد أولوية بالنسبة إليها اليوم.
فإضافةً إلى تفرغ واشنطن لروسيا، فإنّ إدارة الديموقراطيين تتجهّز للانتخابات النصفية التي تلوح بشائر خسارتها في الأفق، وذلك واضح من وضعية الرئيس جو بايدن الشعبية السيئة، ولا سيما أنّ ارتفاع أسعار الوقود إلى مستويات قياسية في أميركا، وصمود روسيا في الميدان الأوكراني، يشكلان عاملي ضغط يصرفان من رصيد الوقت غير المفتوح، والأصوات لمصلحة الجمهوريين.
ماذا لو لم تنسحب سفينة التنقيب اليونانية، وماذا لو بقي لبنان ممنوعًا من التنقيب، وبقيت المماطلة في مفاوضات الترسيم، وتستمر تل أبيب في التنقيب ولاحقًا في استخراج الغاز في كاريش بغطاء أميركي.. والشعب اللبناني يتجه نحو الجوع والمجاعة، والانفجار الاجتماعي والأمني؟ كيف ستتصرف المقاومة؟
قبل الانتقال إلى المنطقة، فإنّ الصين لن تكون حزينةً إذا انشغلت واشنطن في حرب تعمّق جروحها، وتشغلها عن التفرغ لها، وتؤجل المواجهة الحتمية وصولاً إلى محاصرتها في المحيطين الهندي والهادي، واستغلال خنجر تايوان، واتخاذ الجزيرة الصينية المتمردة سببًا وحجة لتوريط بكين وإضعافها، إضافة الى طموح الصين أن تكون الملاذ الآمن والرخيص للشركات الأوروبية بعد ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير، لأنها تستفيد من أسعار رخيصة من روسيا ومن إيران المحاصرتين والمعاقبتين من واشنطن.
أما القارة العجوز المهددة بأمنها الغذائي، فإنها تعاني الأمرّين اليوم، وبدأ الاهتزاز السياسي يقترب من الحكومات الأوروبية، والحرب عادت إلى أراضيها كما صرّح إيمانويل ماكرون، وهو الذي خسر معركة سياسية كبرى في الانتخابات التشريعية مؤخرًا. تفكّر ألمانيا جدّيًا بالعودة إلى الفحم الحجري لإنتاج الكهرباء، وتقف واضعة يدها على رأسها بسبب صداع الغاز، وروسيا لم تقطعه عنها كليًا بعد، يدعو وزير اقتصادها الى التقشف، وإلى الخروج من الحمامات سريعًا، خوفًا من وصول الحرب إلى ألمانيا. والماكينات الألمانية قد يتوقف جزء وازن منها عن العمل، وسيشعر الألمان ببرد الشتاء كما لم يشعروا به من قبل. رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون المأزوم داخليًا أيضًا، يقول إن روسيا ستحاصرهم إذا كسبت الحرب. وهو يمارس هوايته في تحريض الأوكران على الاندفاع أكثر نحو الجبهات، ونحو الموت. إضافة إلى الانقسام الواضح في خيارات الدول الأوروبية.
بين الطفرة النفطية والاتفاق النووي
تعيش دول الخليج طفرة نفطية، وهي ليست بحاجة إلى الدخول في حروب عسكرية على أراضيها، بعد التخلص المؤقت من الصداع اليمني، حرب ستكون نتيجتها تدمير كل ما يتحقق اليوم، حتى أنّها فاجأت العالم بوقوفها على الحياد في الحرب الروسية الأوكرانية، ولكنّ ذلك لا يغنيها عن مشاغلة إيران سياسيًا، ومحاولة إضعافها من دون الوصول إلى صدام عسكري معها.
وفي إنتظار تلمس ما ستأتي به زيارة بايدن المرتقبة إلى المنطقة، لا سيما بعدما كثر الحديث عن إنشاء تحالف عربي إسرائيلي يحفظ أمن الكيان العبري ومصالح واشنطن، ما زالت إيران تتطلع إلى العودة الاتفاق النووي، ورفع العقوبات عنها، وإلى ضمانات لا تعيدها إلى فخ العقوبات والحصار.. وحكومة إبراهيم رئيسي تعاني أيضًا من أزمات داخلية، وتحاول حماية برنامجها النووي، وتتهيأ في الوقت نفسه لمواجهة أي تهديد خارجي.
بالانتقال إلى روسيا، فإنّها لن تكون حزينةً، إذا اشتعلت الحرب في منطقة بالغة الحساسية كمنطقة الشرق الأوسط، لعدد من الاعتبارات، منها تخفيف الضغط عن موسكو، وجنون أسعار الطاقة، ومحاصرة أوروبا، والضغط عليها بشكل أكبر، وغير مباشر، من أجل إخضاعها، وفتح الطريق نحو ولادة نظام دولي جديد تستعجله موسكو. وقد يكون تغاضيها بشكل واضح عن الاعتداءات الاسرائيلية على سوريا المحاصرة بقانون قيصر، وبالميليشيات في إدلب والشرق، وفي احتلال آبار النفط من الأميركي، ودلع موسكو الزائد لتل أبيب؛ أحد دلالات هذه المصلحة في الحرب.
لبنان قائد خط الهجوم
أما لبنان الذي يتجه نحو ما يسمى “الارتطام الكبير” بسبب حصار غير كليّ، ومعاناة من انهيار اقتصادي هو الثالث في القرن ونصف القرن الماضيين بعد انهياري تشيلي وإسبانيا، بحسب البنك الدولي، بسبب أوليغارشية حاكمة مغرقة في الأنانية والإنكار، ينتقل بعضها من طاولة الحكم إلى المعارضة بخفّة سعادين ثقيلة الدم، فما زالت الكثير من القوى السياسية فيه تتناتش مصالحها الضيقة على جثة الوطن، والأسوأ أنّ هذه الأوليغارشية لا تطرح حلولًا إلا على مقاس مصالحها، ولم تتفق إلا على حماية المصارف، ساعيةً إلى تحميل المواطنين والمودعين مسؤولية الانهيار وكلفته فقط.
تتقاسم المشهد المأساوي نفسَه معارضةُ هشّةُ ومائعة، تفتقد إلى مهارة تركيب جملة سياسية مفيدة في نصٍّ سياسي يزداد تعقيدًا. أمام هذا الواقع الخطير، تستثمر واشنطن في الانهيار، لتحقيق مكتسبات سياسية لها، ولحماية الكيان الصهيوني، ومحاصرة الشعب اللبناني ومن اجل إخضاع لبنان لشروطها. وهي تمارس ذلك بشكل مريح أمام مجموعة مستسلمة لها، لا تلتفت إلا إلى مصالحها، وتتحكم فيها فوبيا وضعِها على قائمة العقوبات الأميركية. ولا تخفي واشنطن انها تمنع لبنان من قبول عرض إيران أو غيرها في بناء محطات للكهرباء تغنيه عن تسوّل بضع ساعات منها من الأردن ومصر وسوريا، التي ما زال لبنان ينتظر منذ سنة، صدور عفو عن هذا الاستجرار. وتمنع واشنطن لبنان أيضًا من استخراج الغاز والنفط من مياهه، عبر تهديدها الشركات التي تعاقدت معها الدولة اللبنانية، ففرّت شركة توتال خوفًا من العقوبات، وعزفت أخرى عن التقدم للمناقصات المعروضة لتلزيم البلوكات الجديدة للسبب عينه.
لأنّ الأطراف المعنيّة بالصراع اليوم ليس لها مصلحة في نشوب حرب كبرى، وتحاذر الوصول إلى لحظة الانفجار الكبير؛ فإنّ المقاومة أمام فرصة الضغط الأقصى على الكيان وواشنطن، في ملف النفط والغاز، وفي فك الحصار عن لبنان في موضوع التنقيب والكهرباء، فهل تستغل هذه اللحظة التاريخية لكسر المعدلات الجديدة المفروضة على لبنان؟
بعد معاينة المشهد الأوسع، لا يحتاج القارئ إلى كبير جهد للوصول إلى خلاصة مفادها أنّ لبنان أمام طريق مقفل، وأنّ الأزمة الاجتماعية مرشّحة للانفجار الكبير، وأنّ التضخم بدأ يمس المحفظة النقدية حتى للمواطنين الذين يتقاضون معاشاتهم بالدولار الأميركي، أو الذين يعتمدون على المساعدات من ذويهم في الخارج، بعد رفع الدعم، والارتفاع الجنوني في أسعار المحروقات، وهجرة الطحين الأبيض إلى السوق السوداء، والضغط الكبير الذي يفرضه وجود مليون ونصف المليون لاجئ سوري على الواقعين الاقتصادي والاجتماعي. ويبقى الحل الوحيد المتاح اليوم هو استخراج النفط والغاز، وهذا ممنوع أميركيًا.
ماذا عن خيارات المقاومة؟
كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، واضحًا في الخطاب الأخير، من أنّ اعتداءً يُمارَس على لبنان، وأنّ المقاومة لن تقف متفرجة على سرقة حقوقنا من النفط والغاز، وأنّ هدف لبنان المباشر هو منع إسرائيل من استخراج النفط والغاز من حقل كاريش، مؤكدًا أن لبنان يملك الحق وقوة الجيش والمقاومة لمنع إسرائيل من استغلال الحقل النفط، وأنّ قضية الثروة النفطية والغازية في المياه اللبنانية لا تقل أهمية عن تحرير الشريط الحدودي المحتل، وفق تعبيره. وأنّ هذا الأمر له تبعات كبيرة، وعلى الشركة اليونانية أن تسحب السفينة سريعًا وفورًا، وعليها أن تتحمل المسؤولية الكاملة من الآن، عما قد يلحق بهذه السفينة ماديًا وبشريًا.
الأسئلة المطروحة اليوم: ماذا لو لم تنسحب سفينة التنقيب اليونانية، وماذا لو بقي لبنان ممنوعًا من التنقيب، وبقيت المماطلة في مفاوضات الترسيم، وتستمر تل أبيب في التنقيب ولاحقًا في استخراج الغاز في كاريش بغطاء أميركي.. والشعب اللبناني يتجه نحو الجوع والمجاعة، والانفجار الاجتماعي والأمني؟ كيف ستتصرف المقاومة، بعدما تجاوز حزب الله مرحلة غضّ النظر عن ملف الغاز والنفط وبدأنا نسمع منه خطابًا جديدًا. والأكثر إحراجًا، أنّ الحلول البديلة لانتشال الغاز من مياهنا معدومة؟
ماذا عن الحرب؟
وللأسباب التي سقناها أعلاه، ولأنّ الأطراف المعنيّة بالصراع اليوم ليس لها مصلحة في نشوب حرب كبرى، وتحاذر الوصول إلى لحظة الانفجار الكبير؛ فإنّ المقاومة أمام فرصة الضغط الأقصى على الكيان وواشنطن، في ملف النفط والغاز، وفي فك الحصار عن لبنان في موضوع التنقيب والكهرباء، فهل تستغل هذه اللحظة التاريخية لكسر المعدلات الجديدة المفروضة على لبنان، وتثبّت معادلات جديدة في السياسة وفي المياه تفاديًا للحرب الكبرى، في عالم يتغيّر على وقع الاهتزازات الكبرى للنظام الدولي القائم؟ أم أنّ لديها رأيًا آخر؟
بانتظار صافرة الحكم لانطلاق المنازلة الكبرى.