الإستعانةُ بالمُقدس تسويقاً للمُدنس.. نموذج رجال الدين!

"أتعلمين ماذا يعني أن يُكفَّر المسلم عبر مكبِّرات الصوت في المساجد؟". سؤال، طرحه عليّ المفكّر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد. خلال مقابلةٍ معه عبر "إذاعة الشرق" في باريس حيث كنتُ أعمل. يومها، في الـ 1993، كان صاحب كتاب "نقد الخطاب الديني" يخوض معركةً وجوديّة مع رجال الدين.

لقد اتّهموه، بسبب أبحاثه العلميّة، بالردّة والإلحاد. ورُفعَت بحقّه دعوى لمقاضاته بالتفريق بينه وبين زوجته، باعتباره مرتدّاً عن الإسلام. إذْ لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم! فكان لهم ما أرادوا. على الفور، حزمت عائلة أبو زيد حقائب الهجرة. رحلوا إلى منفاهم الاختياري في هولندا. وفي مثل هذه الأيّام بالضبط (في الـ 2010)، توفي كاتبنا بعد صراعٍ مع مرضٍ غامض أفقده الذاكرة. هكذا أكّدت زوجته للصحافة. لماذا استرجاع سيرة هذا المفكّر العربي الكبير؟

في الحقيقة، أسترجعُ بعض وقائع ما وُصِف بإحدى أشرس “المعارك الفكريّة” التي عرفتها مصر والعالمان العربي والإسلامي، مع نهايات القرن العشرين، لمناسبة الغزوة الدينيّة التي يشهدها لبنان حاليّاً. غزوة من نوعٍ خاصّ. يتطاول فيها الغُزاة، على حُرمة صرح الحرّيّات الذي شيّده آباؤنا وأجدادنا. لَبِنةً لَبِنة. نعود إلى مصر.

فالمعركة التي خاضها بعض رجال الدين، يومذاك، ضدّ فكر أبو زيد، كانت معركة شخصيّة محضة. بينه وبين زميله الكاتب الإسلامي عبد الصبور شاهين. معركة، دارت رحاها على منابر المساجد. بعدما دقّ نفيرَها “الخطيبُ الدكتور” عبد الصبور شاهين من جامع عمرو بن العاص. فلقد هال هذا الأخير، الهجومُ العنيف الذي شنّه أبو زيد في مقدّمة أحد كتبه. على شركات توظيف الأموال التي ارتبط اسم عبد الصبور شاهين بإحداها كمستشارٍ ديني لها. إذاً، لم تكن تلك “المعركة التكفيريّة” غيرةً على الدين. ولم تكن دوافعها نُصرةً للعقيدة. أو لأحكام الشريعة. كانت مجرّد ردّة فعل “حانقة”. سخّرت الدين خدمةً لمآرب عبد الصبور شاهين الذاتيّة. ولكن، ألا “تنشط” غالبيّة المنظومات الدينيّة في بلداننا العربيّة والإسلاميّة، على الطريقة الشاهينيّة؟ بلى.

رجال الدين في لبنان، ولأيّ طائفةٍ انتموا، عاجزون عن تجسيد القيم الموجودة في الكتب السماويّة. ولا سيّما الجُدد منهم. هم، فقط، امتداد للسياسيّين وأسياد الطوائف. جلّ ما يفعلونه، هو السهر على ما يُظهِره اللبنانيّون من التزامهم بالدين. فـ”الإيمان”، عند مرجعيّاتنا، محصور بالمظاهر. وبإعطاء المؤمنين، على أساسها، صكوك مُلكيّة النطْق بالحقّ

على عتبة القرن الواحد والعشرين، وجد الدين نفسه وسلطته في صميم السجالات. إنْ، على مستوى قاعدة الهرم السكّاني. أو في قمّته. بخاصّة، في فترة مطلع تسعينيّات القرن الماضي. والتي سُمّيت بـ”مرحلة عودة الدين”. بحيث، بلغت الاستعانة السياسيّة بـ”المقدّس” لتسويق “المدنّس” ذروتها. وتفاقمت معها أزمة السلطة. ما أحدث تغيّرات فوضويّة (منحرفة؟)، في أسلوب التعبير عن الإيمان الديني ذاته. وبرزت أوضح تجلّيات هذه الفوضى، لدى رجال الدين. في الديانات التوحيديّة الثلاث، على حدٍّ سواء. كيف؟

لقد نمت السلطة الدينيّة وسطوتها، “بفضل” حاجة المؤمنين (الجاهلين برأي رجال الدين) إلى مَن يُرشدهم. ويُوجِّههم. ويُطلِعهم على محتوى الكتب المقدّسة. ولكونهم “فنّيّي عبادات”، كما يصفهم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير، أُنيط برجال الدين (وأناطوا بأنفسهم لاحقاً) إرشاد الناس إلى سُبل النجاة والخلاص. ولتحقيقهم ذلك، تكفّلوا بالوظائف التعبّديّة والدعويّة والفقهيّة واللاهوتيّة. ليس عبر تحديد موجبات الإيمان الحسّيّة والغيبيّة ولوازمه، فحسب. بل، أيضاً، عبر تحديد السلوكيّات والممارسات الاجتماعيّة الدينيّة للبشر. صاروا يراقبون عقائد الناس وضمائرهم. ويضبطون موازين التقوى والأخلاق والحلال والحرام ومفاتيح الجنّة والنار.. بصيغة مواعظ وفتاوى.

سقط رجال الدين، في بلداننا العربيّة والإسلاميّة، في فخّ الغرور وجنون العظمة. إذْ صاروا يفترضون أنّهم المسؤولون عن عمليّة الإنتاج الثقافي العامّ، ككلّ. وأكثر. اعتقدوا أنّ خطابهم بات قادراً على إزاحة كلّ أنواع الخطابات. وعلى نقدها. وضبْط مخرجاتها. وإصدار الأحكام المبرمة من موقعهم. داخل السلطة أو خارجها. وتذهب هذه الذهنيّة بعيداً، في لبنان. بحيث تؤسّس لعصبيّة الجماعة (المارونيّة، الأرثوذكسيّة، السُنيّة، الشيعيّة، .. أو السياسيّة أحياناً). والعصبيّة، من حيث بُنيتها، تتضمّن دوماً شحنة عدوانيّة. قابلة لأن تتحوّل، متى سنحت الظروف، إلى صراعاتٍ دامية. وتصفياتٍ مع “الآخر المختلف”. وقادرة أن تستحيل إلى “محاكم تفتيش”. نعم. هل تذكرون “محاكم التفتيش الكاثوليكيّة” التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى؟ على الأرجح.

هي المحاكم التي ارتكبت الفظائع، بإسم الربّ، بأفعالها وقراراتها. حتّى اضطرّ البعض للتظاهر باعتناقهم الديانة المسيحيّة ارتياعاً. لم تكن تحتاج تلك المحاكم إلى دليلٍ، لإثبات جرمٍ على “المتّهم”. كانت تكفي وشاية بسيطة، من أحدهم، بأنّ فلاناً ليس مسيحيّاً. لتبدأ عمليّات التعذيب والقتل والإعدامات، فوراً. في بلادنا، تنعقد اليوم محاكمات تفتيش افتراضيّة. وعلى الطريقة اللبنانيّة. تديرها، ما يُسمّى، المرجعيّات الدينيّة. هي، بمعظمها، شخصيّات فشلت في الدراسة. وتنقصها الكفاءات العلميّة والمهارات. فظنّت، أنّ “درب الإيمان” يمنحها اختصاصاً موقَّراً. وجدت فيه فرصتها للارتقاء في المجتمع. ودخول “جنّة” السلطة، من الباب العريض. أي، باب “الطائفة الكريمة”.

من هنا، فإنّ رجال الدين في لبنان، ولأيّ طائفةٍ انتموا، عاجزون عن تجسيد القيم الموجودة في الكتب السماويّة. ولا سيّما الجُدد منهم. هم، فقط، امتداد للسياسيّين وأسياد الطوائف. جلّ ما يفعلونه، هو السهر على ما يُظهِره اللبنانيّون من التزامهم بالدين. فـ”الإيمان”، عند مرجعيّاتنا، محصور بالمظاهر. وبإعطاء المؤمنين، على أساسها، صكوك مُلكيّة النطْق بالحقّ. أو لِنقُلْ، منْحهم براءات ذمّة كتلك التي كانت تخطّها للزبائن عصاباتُ المصارف، أيّام “الزمن الجميل”. مهمّة ثانية لمرجعيّاتنا الدينيّة اللبنانيّة؛ هي التغطية على ارتكابات حُكّام لبنان. ولا سيّما منهم “الستّة الكبار”. أي، أولئك المؤتمَنين على خراب وتخريب البلاد المستداميْن. فغالبيّة البطاركة والمطارنة والمشايخ والأئمّة عندنا، قَوْلَبهم (صنعهم؟) حُكّامنا الأفاضل على مقاسهم. جعلوهم “صُنّاع” فتاوى وتأويلات للنصوص المقدّسة. هدفهم المركزي يتمثّل، في التماس الدين لتأمين الحصانات الشرعيّة لمافيات السلطة. كي يحكموا المؤمنين، بموجبها. وبعد؟

إقرأ على موقع 180  السياسة بالعربي.. في "مانيفستو" العرب اليوم

في بلدٍ يلوّح بالموت ولا يموت. ويلوّح باستعادة الحياة ولا ينجح. تحوّل معظم رجال الدين فيه، إلى ناشرين أساسيّين لثقافة العنف. في محاولةٍ منهم لإبقاء مكوّنات المجتمع اللبناني عند حدود الانفجار، في مواجهاتٍ بَيْنيّة. هم يتفاعلون غبّ الطلب. وغالباً، عندما تُمَسّ توازناتٌ غير مرئيّة للعيان (طائفيّة وسياسيّة). فإذّاك، يُطلقون قنابلهم الدخانيّة. للتذكير بمشهديّة جَيَشان عُجاج المعارك، حين يغطّي الميدان. إحدى هذه القنابل رموها قبل أيّام. عندما خرجت حفنة من رجال الله وجنود الربّ، “ليبشّروا” اللبنانيّين بدنوّ الفتنة وكلّ مشتقّاتها. متى؟ إذا تجرّأ “الكَفَرة” في مجلس النواب، وشرّعوا الزواج المدني. واعترفوا بالمثليّة الجنسيّة. يا إلهي.. أيُعقَل؟ نعم.

نسي “حُماة الدين” اللبنانيّون كلّ الجزّارين في الوطن. وتذكّروا، فقط، “الجزّارين المنحرفين”، كما نعتوا المثليّين الذين كانوا ينوون التظاهر (لإحياء ذكرى المواجهات بين المثليّين والشرطة في نيويورك في 28 حزيران/يونيو سنة 1969). عجباً! لمحوا في هذه الجماعة (المسالمة عادةً) سمات الإجرام، ولم يلمحوها في أيٍّ ممّن يحويهم البلد من فاسدين. ومرتشين. ومحتكرين. وقنّاصين. وقَتَلة. وسفّاحين. وإرهابيّين. وميليشياويّين. وعصابات. وتجّار سلاح وكبتاغون. وعنصريّين. ورجال معنِّفين. ومتحرّشين. ومغتصِبين. ومعذّبي الحيوانات. ومخرّبي الطبيعة. و..! أبدااااااً. المثليّون هم، حصراً، سبب مأساتنا وانهياراتنا المتوالدة! والمطالبة بالزواج المدني الاختياري، كذلك الأمر.

غالبيّة البطاركة والمطارنة والمشايخ والأئمّة عندنا، قَوْلَبهم (صنعهم؟) حُكّامنا الأفاضل على مقاسهم. جعلوهم “صُنّاع” فتاوى وتأويلات للنصوص المقدّسة. هدفهم المركزي يتمثّل، في التماس الدين لتأمين الحصانات الشرعيّة لمافيات السلطة. كي يحكموا المؤمنين، بموجبها

ولكن، ما هو الدافع الأساسي لغضبة رجال الدين الأخيرة؟

هناك أكثر من دافع. أوّلاً، لأنّهم لا يريدون قيام دولة حقيقيّة واحدة وشعب واحد في لبنان. وثانياً، لأنّ سلطة المرجعيّات الدينيّة على الناس نابعة من قانون الأحوال الشخصيّة الطائفي، تحديداً. هذا عدا المنافع والمكاسب والامتيازات الماديّة التي يستحصلون عليها، من وراء تطبيق هذا القانون. ما يعني، أنّ مصالح تلك المرجعيّات بعيدة كلّ البعد عن الحفاظ على معتقدات الناس. فهي لا تهتمّ سوى بمصالحها الشخصيّة التي تضمنها لها القوانين الطائفيّة (الخلفيّة إيّاها للحرب على نصر حامد أبو زيد). ثالثاً، لإراحة الطبقة السياسيّة الحاكمة، عبر إضاعة الوقت وتشتيت اهتمام اللبنانيّين عن هموم يوميّاتهم. لذا، تراهم يروّجون لمعارك وهميّة مُلفّقة. يدّعون أنّها تُخاض ضدّ الدين وتعاليمه وقيمه. معاركهم، يا أيّها الأصدقاء، تتناسل كلّها في الممارسة. شكوكاً واتّهاماتٍ وأنواعاً قاتلة من التعصّب. و”التعصّب مرضٌ خطير ودائم ومقدّس”، بحسب فيلسوف اليونان هرقليطس.

كلمة أخيرة. يقول الكاتب اللبناني أمين معلوف: “أتساءل، أحياناً، عمّا إذا لم يكن سيّدُ الظلمات هو الذي يوحي بالأديان. لا لشيءٍ، إلاّ لتشويه صورة الله!”. إقتضى التنويه.

 

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  فرص إسرائيل المتوسطية 2022: المغرب وتركيا ولبنان...