حرب أوكرانيا مدخلاً لإعادة بناء أطلسي جديد

يحاول هذا النص قراءة التحولات التي أصابت النظام الدولي، على مدى العقود الثلاثة التي تلت الإنهيار المدوي للإتحاد السوفياتي، وصولاً إلى حرب أوكرانيا، اليوم، وما يمكن أن يُستولد من حروب مستقبلاً، مروراً بالمرحلة الإنتقالية التي تخللتها أحداث عديدة تندرج في خانة محاولة تثبيت نظام دولي جديد.

أولاً؛ بناء نظام عالمي جديد (حول السياق والمقولة):

يُعد تاريخ سقوط الإتحاد السوفياتي، وانهيار دول المنظومة الاشتراكية، نهايةً لحقبةٍ مهمة من تاريخ النظام الدولي المعاصر، لطالما أن هذا الانهيار، كان قد أسّس لتحولات نوعية كبرى، أثّرت بقوة على مصائر الجغرافيا، وعلى مجرى السياسة الدولية وسياقاتها التاريخية (السياسية والاقتصادية والقانونية).

لم تكن نهايةُ النظام القديمِ تشكل في الواقعِ بداية لنظام جديد، إذ سيطرت حالةٌ من الفراغ، تخللها على مستوى النظريةِ والفكرِ، الكثير من مظاهر العجز والارتباك، وعدم القدرة على التنبؤ والاستشراف لمستقبل النظام، الذي لم يُولد بعد. أما في الممارسةِ العمليةِ، وعلى المستويات كافة (سياسياً واقتصادياً وعسكرياً)، فقد اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية، لملء الفراغ الناجم عن سقوط النظام، بواسطةِ استراتيجيات سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة، شابها في الممارسة والتنفيذ، الكثير من التطاول على ثوابت النظام الدولي المنهار، كما شابها التجاوز الكبير لمؤسساته التقليدية، لا سيما مجلس الأمن، وهيئة الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي، والأعراف السياسية الدولية، من كل ذلك إلى التجاوز الكبير لمبادئ حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي كان قد انبثق عن اتفاقية واشنطن، التي شكلت تاريخياً الإطار التكويني العام للحلف.

وفي الواقع إن حالة الفراغ، التي سيطرت طوال سنوات العقود الثلاثة، التي تلت سقوط الإتحاد السوفياتي، يمكن أن تندرج تصنيفاً وتوصيفاً، كمرحلة انتقالية، شهدت وقائع كبرى، وتخللتها أحداث نوعية، بدأت مع غزو العراق للكويت، الذي أُنهي عن طريقِ تحالفٍ دولي، قادته الولايات المتحدة، أرغم العراق على الانسحاب من الكويت، وفرض عليه حزماً متكاملة ومتشددة من العقوبات الدولية، وطوقته بحصار اقتصادي خانق، لتتمَ التسويةَ أخيراً ولدواعٍ (إنسانيةٍ)، بالتطبيق الأممي لبرنامج النفط مقابل الغذاء، الذي كان مدخلاً لسرقةِ نفط العراق ومقدراته، طوال سنواتٍ عشر، أنهكت العراق، واستباحت كرامةَ شعبه، وجعلته طريدة سهلة الاصطياد، عن طريق سيناريو الاجتياح، الذي استند إلى حجج واهية، وتمَّ تحت مسوغات غير منطقية، وذرائع غير مبررة، لم تؤكد الوقائع والمجريات صحَّتها على الإطلاق، كـ (امتلاك العراق لصواريخ بالستية، وأسلحة كيماوية وجرثومية، وعلاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة، ودعم الإرهاب وغير ذلك من ذرائع)، ما أدى إلى إسقاطِ النظام السياسي العراقي، ومن ثمَّ دخول العراق في دوامةِ صراعٍ مركب الأنساقِ متعدد المضامين والأبعاد، يتجدد نزفاً بصورة دائمة ومستمرة، ما عمق من تبعية العراق للخارج وأضعف مناعته، تجاه الأحداث والمتغيرات الإقليمية والدولية، وحوله إلى مصدر تهديد للأمن والاستقرار، وساحةٍ مفتوحة للحرب، ولتصفية الحسابات بالنسبة لجميع القوى، المتصارعة إقليمياً ودولياً.

إستراتيجية إثارة القلق، وجعل الشعور بالخوف حالة قائمة ودائمة لدى أصدقاء أمريكا وأعدائها (عن طريق تفجير الحروب وفتح النزاعات وخلق بؤر التوتر) تعد أحد أهم المرتكزات الإستراتيجية، التي تنطلق منها الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة الشؤون العالمية

لقد انطلق الحديث عن ضرورة بناء نظام دولي جديد، بدايةً من الولايات المتحدة الأمريكية (التي كسبت جولة صراع الحرب الباردة)، المنتصرة كنموذجٍ سياسي واقتصادي وعسكري، وقد دشن الحديث لذلك، خطابٌ وجّهه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى الأمة، من على ظهر إحدى حاملات الجيوش الأمريكية في عام 1990 تحدث فيه بعناوين كبرى من قبيل: (عصرٌ جديدٌ، حقبةٌ للحرية، وزمن للسلام لكل الشعوب). من هنا وفي ضوء ذلك، بدأ الحديث يظهر حول الحق في تقرير المصير، القانون الدولي الإنساني؛ الأنسنة؛ التحالف الدولي للحرب على الإرهاب؛ دعم التحول الديموقراطي، وتمويل برامج مساعدات من أجل التغيير حول العالم.

ثانياً؛ عصر الحرية والسلام لكل الشعوب:

لم يكن خطاب جورج بوش الأب، الذي تحدث فيه عن الحرية والسلام، موجهاً لشعبه فحسب. لقد كان الخطابُ تأسيسياً متقناً بعنايةٍ فائقةٍ، له رمزيته، وموجهاً للعالم أجمع (لشركاءِ النصرِ وللمهزومين معاً). لكن التساؤلات الجوهرية، التي يجب أن تُطرح في هذا الإطار هي: أي عصر جديد، وأي حرية، وأي سلام كان يعنيه الرئيس الأمريكي آنذاك، وهل تحدث بوش الأب عن أشياءٍ لم يكن يحق لأمريكا أن تتحدث بها وعنها؟

إن ما قاله بوش الأب كان يعنيه في الواقع، لأن ما قاله هو ذاته المُبرمج والمخطط له في مراكز صنع القرار في دوائر الدولة الأمريكية العميقة، وما على الرئيس إلا أن يجتهدَ، ويعمل بقوة لأجل تنفيذه، بكل الصيغ والوسائل. العصر هو عصر النموذج الأمريكي للحرية والسلام، وللسياسة والاقتصاد والتقانة والتكنولوجيا. المنتصر بمفاعيل قانون القوة والصراع، الذي يشكل دليل الاسترشاد الأساس للسياسة الخارجية الأمريكية في المحافل الدولية وحول العالم. لكن السؤال المطروح في هذا الإطار هو: هل كان الأمريكيون يعتقدون بأن عصر التفوق الأمريكي، وعصر الحرية والسلام، الذي تحدث عنه بوش الأب، يمكن أن يتحقق بقوةٍ أمريكيةٍ صرفة، بمعزل عن أي دور لحلف شمال الأطلسي؟

ربما اعتقدت بعض الأجنحة السياسية والعسكرية بذلك، وهذا يمكن أن يبرر من الناحية النفسية، عندما يُتخذ القرار تحت تأثير ضغط الحدث (المتمثل بإلحاق هزيمة كبرى بالاتحاد السوفياتي، وإنهاء دوره عالمياً وإقليمياً) ولنتأمل كيف يمكن أن يكون القرار ويصبح التوجه، عندما يقترن الحدث مع الشعورِ بامتلاك فائض من القوة والتفوق، والقدرة على الاستغناء عن خدمات حلفاء الأمس. فقد تحدث كثيرون من قادة أمريكا آنذاك عن أوروبا العجوز (دونالد رامسفيلد، جون بولتون.. وآخرون)، وعن القرن الأمريكي الجديد (المحافظون الجدد)، ولذلك لم يظهر لدى الأمريكان آنذاك، أي شكل من أشكال الحاجة أو الضرورة، لأي دور ممكن لحلف شمال الأطلسي.

ثالثاً؛ العودة إلى بناء حلف ناتو جديد:

تساؤلات كثيرة يمكن أن تُطرَح حول مستقبل حلف شمال الأطلسي تتمثل بالآتي: لماذا حلف ناتو جديد؟ ممن يتكون؟ ضد من؟ ما هي شروط إنتاجه؟ من يستهدف، هل يمكن أن تتشكل أقطاب دون أحلاف؟ هل يمكن أن يتحقق أي مشروع (قطب عالمي جديد) بدونِ قوة؟ بمعنى هل يمكن أن يكون هناك عالم متعدد الأقطاب، دون التعدد في الأحلاف؟ ألا يحتاج القطب لقوةٍ تحمي مصالحهِ الإستراتيجية، وتحدد تموضعات القوة، وتمفصلاتها في الساحة الجيواستراتيجية الدولية؟

لم تعر الولايات المتحدة، طوال ثلاثة عقودٍ من الزمن (أي عقود ما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي) أيُّ أهميةٍ تُذكر، لمسألة إعادة بناء حلف شمال الأطلسي (التاريخي)، لا تمويلاً ولا تسليحاً ولا مأسسةً، وذلك لانتفاء الأسباب والضرورة، بحسب ما كان يقدر معظمُ القادةُ الأمريكيين ويعتقدون آنذاك، وكان ذاك قد تمّ إما انطلاقاً من الحالة النفسية لبعض القادة الأمريكيين المنتشين نصراً، أو من حسابات بعضهم الآخر، وتقديراته لحدود القوة، ومدى امتلاكها من قبل جميع القوى الدولية، التي يمكن أن تشكل خطراً حقيقياً، يهدد المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة، كالصين وأوروبا وروسيا الاتحادية، والتي اعتقد معظمهم، بأنها قوى غير مقلقة، ولا تشكل مصدرَ تهديد لقرار أمريكا، ولا لمصالحها مستقبلاً. وعليه، يمكن للولايات المتحدة الأمريكية، أن تفرض مشروع القرن الأمريكي الجديد، بإستراتيجية أمريكية منفردة، دون الحاجة لأحد. ما يعني أن الأمريكيين لم يروا آنذاك، أي حاجةٍ لإعادة النظرِ بواقع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولا ضرورة لنفخ روح القوةِ فيه من جديد. وعليه، تابعت الولايات المتحدة الأمريكية مسارها، وتصرفت بوحيٍ من إرادتها المنفردة، في مناطق عديدة حول العالم، دون أن تُعر أي اهتمامٍ يُذكر لموقف الإتحاد الأوروبي، أو لدول حلف شمال الأطلسي. وكانت المقاربة الأمريكية الجديدة آنذاك، كما الجهود التنفيذية المبذولة، لإعادة صياغة المعادلات الجيواستراتيجية الدولية، طبقاً لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكية الجديد ومتطلباته، قد تمت عن طريق تبني الأطر العامة والتفصيلية، والأدوات التنفيذية لــ (نظرية الفوضى الخلاقة)، التي أعلنت عنها وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية (كوندوليزا رايس) آنذاك، والتي اتجهت في التطبيق (أي النظرية) نحو ضرب الثوابت التاريخية للسياسة الدولية، وتجاوز القانون الدولي، وخلط الأوراق، وإنتاج فاعلين جدد، وزعزعة هيبة الدول، وخلْقِ التشويش حول مفهوم السيادة، وشرعية النظم السياسية. كل ذلك كان قد تمَّ باستخدام معاييرٍ ومؤشراتٍ قياسية أمريكية التصميم، أممية الإخراج والتنفيذ، بصمتٍ مُطبق، أو بمداورة، أو باحتجاج خجول وشكلي، من قبل جميع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تحديداً الصين وروسيا.

تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية في الواقع معظم الشروط والإمكانات، اللازمة لإنتاج حلف شمال أطلسي جديد. إذ لديها الكثير من عناصر القوة والشعور بالتفوق، والقدرة على الاستقطاب، ما يجعلها متفوقة على كل الدول المنافسة لها، في أوروبا وأسيا وأوراسيا

أما وقد تعثر مشروع الهيمنة الأمريكية الجديد، المستند إلى إرادة حرة ومنفردة، في أكثر من ملف بالتزامن مع انطلاق قطار الصين الاقتصادي، بمعدلات نمو قياسية، أسهمت في إنتاج تراكمات مالية كبيرة، ومدخرات مالية هائلة، وفوائض سيولة ضخمة، تجوب الكرة الأرضية، بحثاً عن الاستثمار والتوظيف، ومع بدء مسار استعادة روسيا لدورها الغائب، جراء سنوات طوال من الانكفاء والانشغال بمشكلاتها الداخلية، ومشكلات محيطها الأوراسي، والبحث عن سبل تأمين متطلبات أمنها الإستراتيجي، ومع التوجه الأوروبي نحو التغريد خارج السرب الأمريكي، والتحليق في فضاءات سياسية واقتصادية إستراتيجية مستقلة، انطلاقاً من اعتبارات أوروبية صرفة، متجاهلة هواجس الضفة الأخرى للأطلسي، ومصادر قلقها، فكان لا بد للولايات المتحدة الأمريكية من التوجه بقوة، نحو المراجعة لتدوير الزوايا، وخلق الوقائع والمعطيات الذرائعية اللازمة (كالحرب الدائرة في أوكرانيا على سبيل المثال، وربما تفجير حروبٍ أخرى وشيكة)، لإنتاج روافع إستراتيجية نوعية، يمكن أن تساعد بقوة في توليد بعدٍ إمبرياليٍ جديد، يمنح الولايات المتحدة الأمريكية المزيد من القوة والنفوذ.

إقرأ على موقع 180  خلاف بايدن ـ نتنياهو.. أبعد من رفح وأقل من افتراق

ويقدر الأمريكيون الآن، بعد مراجعةٍ وتقييمٍ للأداء وللإستراتيجيات، واستخلاص الكثير من الدروس والعبر، بأن العمل بإرادةٍ منفردةٍ لا يمكن أن يصب في مصلحة أمريكا، وقد أثّر بصورة غير إيجابية على مصالحها الإستراتيجية. كما يقدرون، بالمقابل، أن أدوات الهيمنة الأمريكية التاريخية وتحالفاتها، لم تعد تفي بالغرض المطلوب، وفي مقدمتها الحلف الذي أصبح إطاراً ضيقاً بالمقارنة مع مساحة واسعة جداً من التهديدات، وبالتالي لم يعد يوفر الشروط والمتطلبات اللازمة، لإنتاج هيمنة إمبريالية أمريكية حقيقية، في ظل مجموعة كبيرة من التطورات الإقليمية والدولية، التي انتهت إلى تشكيل مراكز قوى إضافية، وفوائض قوة نوعية، أثّرت إلى حدٍّ كبير (كما يقدر الأمريكيون) على عملية توزيع القوة، داخل هيكل النظام الدولي التاريخي، ما يتطلب من الولايات المتحدة الأمريكية كحاملة للنظام، وكمصممة للهيكل، وضابطة إيقاع، وتمتلك في الوقت الراهن القدرة والإرادة، أن تتجه للعمل بقوةٍ لإنتاج حلفٍ جديد، يمكن أن يساعد بصورة أكثر فاعلية، في تعزيز قدرة الولايات المتحدة الأمريكية، على التحكم بالمجرى العام، والسياقات الكبرى (السياسية والاقتصادية والعسكرية) الإقليمية والدولية.

رابعاً؛ أمريكا وتحديات تشكل حلف مضاد للناتو:

تسعى أمريكا، الآن، لنفي جميع الشروط الموضوعية ونسف المرتكزات التي يمكن أن تساعد في ولادة نظامٍ عالميٍ متعدد الأقطاب. ولأجل ذلك تتجه ببراغماتيةٍ نوعيةٍ، نحو الاستثمار الدقيق، والتوظيف بمهارة وذكاءٍ، بمجموعة من الصعوبات والتحديات الحقيقية، التي تواجه المساعي (المترددة) الرامية لتشكيلٍ حلفٍ مقابلٍ لحفِ شمال الأطلسي. يندرج في مقدمتها عدم وجود رؤية وإرادة حقيقية، لخلق حلف آخر مضاد، يضم كافة الأطراف المتضررة من الهيمنة الأطلسية، يكافئ ويوازن، تمويلاً وتسليحاً وتجهيزاً، حلف شمال الأطلسي، إضافة لعدم توافر القدرة اللازمة لإنتاج منظومةٍ فكرية وأطرٍ مرجعية للحلف المنشود، أو لإنتاج بنى سياسية واقتصادية وثقافية جديدة، مستقلة عن تلك البنى، التي تنتمي إلى جغرافيا ودول حلف شمال الأطلسي. وهي تحديات موضوعية في الظروف الراهنة، وتبقى إمكانية تجاوزها برسم المستقبل. ويبقى السؤال المطروح: هل تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية، القدرةَ على توفير شروط ومتطلبات بناء ناتو جديد يكرس الهيمنة الأمريكية؟

خامساً؛ أمريكا وإمكانات إعادة البناء:

تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية في الواقع معظم الشروط والإمكانات، اللازمة لإنتاج حلف شمال أطلسي جديد. إذ لديها الكثير من عناصر القوة والشعور بالتفوق، والقدرة على الاستقطاب، ما يجعلها متفوقة على كل الدول المنافسة لها، في أوروبا وأسيا وأوراسيا، وهي وحدها بحسبانها حاملة لميزان القوة من خارجه، تستطيع أن ترجح كفة الميزان، وتؤثر على توازنه، لطالما أنها دولةٌ في قارةٍ وقارةٌ في دولةٍ (تمتلك ميزة الانعزال الجغرافي كعامل قوة)، تمتلك أكبر عدد من القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم، إضافة لامتلاكها البوارج العسكرية والأساطيل الحربية، وحاملات الطائرات، التي تجوب المحيطات وأعالي البحار، ويبقى الأبرز في هذا الإطار هو أنها صاحبة الدولار كعملة دولية، إضافة إلى سيطرتها الواسعة والقوية على جغرافيات البترول، وآليات استكشافه، وعملية بيعه وشرائه وقنوات تسويقه، من كل ذلك إلى عوائد صفقات السلاح الدولية الضخمة، ما يعني أنها تمتلك القدرة اللازمة، والإمكانات المطلوبة لتمويل الإنفاق الكبير، عن طريق برامج تمويل، وموازنات إنفاق ضخمة، يمكن أن تساعد في إنتاج حلف شمالٍ أطلسيٍ جديد، طبقاً للمنظور الأمريكي، يلبي شروط الهيمنة الأمريكية ومتطلباتها في القرن الحادي والعشرين، ويوفر في ذات الوقت الشعور بالأمن والاطمئنان للأوروبيين المخطوفين، القلقين والخائفين، مما يضمره الروس في شرق أوروبا وجنوب شرقها.

إن السيناريو الذي ستعتمد عليه الولايات المتحدة الأمريكية، هو سيناريو التدخل الوقائي، والحرب تحت غطاء حلف شمال الأطلسي، بآليات واستراتيجيات جديدة، وخوض الصراعات بالوكالة، أو بالتدخل الإسعافي المحدود، وربما المباشر من وقتٍ لآخر

سادساً؛ الناتو الجديد (التوجه، الملامح والمضمون):

ينطلق مشروع بناء الناتو الجديد، وعملية إعادة الهيكلة الجارية، من أطرٍ وأهدافٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ واقتصاديةٍ جديدة ومختلفة عن تلك التي كان قد قام عليها الحلف وعمل لأجلها في حقبة الحرب الباردة. يندرج في مقدمتها تبني إستراتيجية عسكرية جديدة، تجمع بين الدفاع والهجوم، بدلاً من المهمة الدفاعية فقط، إضافة إلى أهداف أخرى، كالتوسع نحو الشرق، ليضم دول وجغرافيات جديدة، ورفع مستوى الإنفاق على التسلح، وتحديث البنية العسكرية والتكنولوجية للحلف، تحديداً لجهة ما يتعلق بمنظومات الصواريخ، وأنظمة الضبط والمراقبة والإنذار المبكر، وتمويل الأبحاث العسكرية والدراسات الإستراتيجية، والرهان عليه أكثر في عملية ضمان المصالح الإستراتيجية للغرب الأطلسي (الأمريكي والأوروبي)، وزيادة عدد الفيالق العسكرية، والتشكيلات القتالية (كتائب المشاة والمستشارين الفنيين والتقنيين والخبراء)، وتصميم الخطط الهجومية والدفاعية للحلف، وذلك تحسباً لمخاطر إستراتيجية ستأتي من الشرق الأوراسي، من روسيا الاتحادية تحديداً ومن جنوبها، وصولاً إلى الصين، إضافة إلى مصادر تهديد قادمة من بعض دول جنوب المتوسط وشرقه (إيران وسورية ولبنان، وبعض دول شمال أفريقيا).

سابعاً؛ الإدارة بالخوف وآليات الاستهداف الأمريكية:

يزداد بقوة لدى الولايات المتحدة الأمريكية الشعورُ بالقلق، وتتعاظم لديها الهواجس، جراء المخاطر الناجمة عن تعاظم دور كلٍّ من روسيا والصين وإيران. بمقابل ذلك، ولمواجهة تلك المخاطر اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية، نحو استدراج أوروبا وجميع القوى الحليفة بالخوف والقلق وتعبئتها لمواجهة أدوار روسيا والصين وإيران، التي تهدد أمن أوروبا، ومستقبل مصالحها الإستراتيجية في القرن الحادي والعشرين (بحسب الأمريكان). وقد تفهمت أوروبا [القلقة والخائفة] واستجابت للمنظور الأمريكي، الذي جعل عملية المواجهة مع كلٍّ من روسيا وإيران هدفاً استراتيجياً، وضرورة تاريخية، ليس لأمريكا فقط، بل لجميع دول حلف شمال الأطلسي، الذي فتح الباب، ومن باب التعبئة والحشد، وبتوجيه أمريكي ودعم كامل لجميع الدول التي ترغب بالانضمام للحلف. ويبقى السؤال المطروح: هل المطلوب بالنسبة للولايات المتحدة الهزيمة الكاملة لروسيا وإيران؟ وما هي طبيعة سيناريو المواجهة؟ بالتأكيد لا، نظراً لحاجة أمريكا لروسيا ولإيران (أصحاب المشاريع البديلة حسب الأمريكان) لاستمرار الصراع والمواجهة، وخلق بؤر التوتر وتفجير الحروب، وفتح النزاعات وإغلاقها عند الضرورة، كذريعة لضمان الهيمنة الأمريكية. وفي كل الأحوال، إن السيناريو الذي ستعتمد عليه الولايات المتحدة الأمريكية، هو سيناريو التدخل الوقائي، والحرب تحت غطاء حلف شمال الأطلسي، بآليات واستراتيجيات جديدة، وخوض الصراعات بالوكالة، أو بالتدخل الإسعافي المحدود، وربما المباشر من وقتٍ لآخر. من كل ما تقدم إلى العمل بقوة لإسناد دور أكبر لإسرائيل في عملية الهيمنة على الشرق الأوسط، واحتواء إيران واستهدافها أحياناً بمواجهات مباشرة (محدودة)، وغالباً بمواجهات غير مباشرة (مفتوحة)، غايتها الاستنزاف الهادىء والبطيء. كل ذلك بالتوازي مع مسار المضي قدماً بإستراتيجية التشدد والتوسع في فرض حزم العقوبات، وتحويلها إلى عقوبات إستراتيجية طويلة الأجل، على كلٍّ من روسيا وإيران، وبطبيعة الحال على سورية.

مما تقدم يتبين لنا بصورةٍ واضحةٍ، أن إستراتيجية إثارة القلق، وجعل الشعور بالخوف حالة قائمة ودائمة لدى أصدقاء أمريكا وأعدائها (عن طريق تفجير الحروب وفتح النزاعات وخلق بؤر التوتر) تعد أحد أهم المرتكزات الإستراتيجية، التي تنطلق منها الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة الشؤون العالمية.

Print Friendly, PDF & Email
مدين علي

كاتب وباحث في العلاقات الدولية، سوريا

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  بايدن بين سندان الكونغرس.. ومطرقة إيران