كتاب “تأمُّلات” للحالم يوسف الحسن: تشاؤم العقل.. تفاؤل الإرادة

كتابٌ اقتحاميٌ.. هذا أقل ما يُمكن أن يوصف به كتاب د. يوسف الحسن الجديد "تأملات في ثقافات رديئة"، برغم أن المكتبة الفكرية الضخمة التي أنتجها المُؤلف (شملت 42 كتاباً) حفلت بـ"حملات حصار كاسحة" ضربها حول العديد من القلاع العنيدة: من معضلة التسامح والإنسانية المشتركة إلى أزمات الهوية والمواطنة، مروراً بسيرورة النهضة، جدل التاريخ، العروبة، ودور الدين في السياسة خاصة الأميركية منها.

لماذا إذاً كتاب “تأمُّلات في ثقافات رديئة” كان اقتحامياً أكثر من غيره من مؤلفات الكاتب يوسف الحسن الغزيرة؟

ببساطة لأنه تضمّن مفاجأة غير محسوبة. فحين يبدأ القارىء بتصفّح هذا الكتاب محدود الصفحات (128 صفحة)، يعتقد أنه أمام مجرد شذرات وجدانية أرادها الكاتب أن تكون لمسات عاطفية تضفي الرقة والبساطة على أعماله الأكاديمية والعلمية المعمّقة. لكن، سرعان ما يتبيّن له خطل هذا الانطباع، حين يُظهر تتالي الفصول وجود” نظام كامن” (وفق تعبير الفيزيائي ديفيد بوهم) وراء هذه الأفكار التي تبدو لوهلة كشذرات، لكنها في الواقع تصب جميعها كجداول في نهر واحد: محاكمة امبرطورية العولمة التكنو رأسمالية في طبعتها النيوليبرالية المُسيطرة (حالياً) على الثورة التنكنولوجية الرابعة. محاكمة قررت تفكيك عناصر الأزمات القيمية والأخلاقية الكبرى التي تُشعلها هذه الامبرطورية، ثم يترك للقارىء مهمة لم شعثها في بوتقة واحدة ربما من دون أن يدري.

بالطبع، لم يحمل الحسن على هذا العصر المادي انطلاقاً من موقع أصولي، إذ هو من أبرز رواد الفكر العروبي التحديثي في منطقة الخليج والمؤمن بعمق بدور العلم والعقل في بلورة الحضارة البشرية. لكنه إيمان يتشابك بقوة مع التزام تام بالقيم الإنسانية والمعايير الأخلاقية التي باتت غائبة، أو تكاد، عن النظام العالمي “الميكانيكي” الراهن.

يوسف الحسن: “تحفزنا منظومات الرداءة والتفاهة والبلادة والفساد والتعالي والتمييز، وأشباهها من أنساق ثقافات ومسلكيات رديئة، على الإغفاء والتشتت بدلاً من التفكير النقدي والتأمل، وتشجّعنا على تقبّل ما هو غير منطقي وغير إنساني وغير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مشين ومقيت وقبيح وفاسد وكأنه ضروري. إنها أنساق “ثقافات” رديئة تُطيل أذاننا وتحيلنا أغبياء”

قارنوا ما يحدث: في الفصل الأول نسبح مع الحسن في “ثقافة التفاهة” الراهنة، (وهو تعبير يجد مصدره، كما يقول الحسن، في كلمة “تَفِه” التي تعني مثلاً تفه الطعام أي أصبح بلا طعم ولا ذوق)، ونكتشف معه أن هذه التفاهة أنتجت نظامها التافه “الذي يُهمّش قيمة الإنسان ويُفكّك منظومة قيمه لتحل مكانها المنفعة والرداءة والابتذال، ويستهدف وحسب “مراكمة الأموال وتسليع الحياة نفسها”.

لكن، حين نظن أننا أمام نسخة أخرى مُطوّرة من نظرية الفيلسوف الكندي د. ألان دونو “نظام التفاهة” (صدر بالعربية العام 2022) والذي أدرجه الحسن من ضمن مراجعه، سرعان ما نجد أنفسنا في الفصول التالية مع سيل من المحاكمات المتلاحقة التي ترسم لوحة شاملة (وقاتمة) للعالم الذي تبنيه الآن العولمة التكنو رأسمالية، والتي تتجاوز بكثير حتى هذه السقطة الكبرى المُتمثّلة بواقعة التفاهة.

مثلاً، في الفصل الثاني، “ثقافة الاستبداد” يُطل الكاتب على الجانب غير المرئي من إيديولوجيا العولمة التكنو رأسمالية التي تتدثّر بشعارات الحرية والديموقراطية والتقدم التكنولوجي بلا حدود “لتحقيق سعادة الإنسان، وهو الاستبداد: الاستبداد الرقمي بالتحديد” الذي يُخضع البشر وعقولهم للأيادي الثقيلة من رقابة وسيطرة وتسليع”. ويضيف: “على الرغم من انتهاء عهود الاستعمار التقليدي، إلا أنه برزت استبدادية مُستترة في بيئة العلاقات الدولية المعاصرة لها أساليبها المستجدة في انتهاك حقوق الشعوب الضعيفة، وفي ممارسة الاستغلال المتوحّش والمدمّر للبيئة والتنمية الإنسانية المستقبلية”. الأمر بالنسبة إلى الكاتب يحتاج إلى جهود مكثفة لـ”فضح دور الإعلام التقليدي والحديث في برمجة “اللاوعي الجمعي” وفي نشر القبح والرداءة وصناعة المُغايَرة وأدلجتها والترويج لمكر الإيديولوجية المتعولمة وخبثها” (ص 32).

ومن التفاهة والاستبداد نقفز مع الكاتب إلى ظاهرة الفساد المريعة التي تكلّف العالم خسائر فلكية تقدّر بنحو 3 في المئة (أي تريليونات الدولارات) من الناتج العالمي الإجمالي، والتي وصفها الكاتبان اليساريان نيغري وهارت (في مؤلفهما “الامبرطورية”) بأنها تشكّل أسّ نظام العولمة ونسغه ومحرِكه الأول. ثم نصل بعد الفساد إلى “ثقافة الاستعلاء الهستيرية دائمة السعار” التي مارسها الغرب في الحقبات الاستعمارية ودمّر خلالها حضارات الشعوب الأصلية في القارتين الأميركية والإفريقية، والتي تجسّدت أيضاً في نظام الانتداب الذي كان الغطاء الأخلاقي والقانوني لنظام الهيمنة، وبعدها إلى العولمة الثقافية الراهنة المستندة في عمقها إلى العنصرية الثثقافية (بدل البيولوجية).

ومن بطون ثقافة الاستعلاء، تولد ثقافة الكراهية “وهي مشاعر انفعال سلبية تزدهر في مجتمعات تسودها الريبة وضعف الثقة المتبادلة وقيم التسامح والعيش المشترك، وتأويلات شاذة لمعتقدات دينية تدير ظهرها لحقيقة وحدة الأصل الإنساني”. وهنا يعالج الكاتب مسألة في غاية الأهمية تتعلّق بكيفية جبه آفة الكراهية، فيدعو إلى “قراءة التاريخ بنظرة “التاريخ الحافز” وليس “التاريخ العبء”، وهذه مقاربة يمكن أن تشكّل بالفعل أحد المفاتيح الرئيسة لإحلال الوئام والتعاون في الدول التعددية، كلبنان وسورية وغيرهما، التي قامت فيها النخب الحاكمة بالترويج لتاريخ الحقبات الدموية القصيرة بين مكونات المجتمع، وأسقطت من الاعتبار مئات السنين من التعايش والتفاعل الإيجابي بينها.

أجمل حلقات المحاكمات في “تأملات” الحسن، برزت في فصل “ثقافة الوعي الزائف” التي تُعتبر الآن، بحق، في عصر ثورة المعلومات ووسائط التواصل الاجتماعي وصناعة الحقيقة الافتراضية والروبوطات الذكية الإعلامية، أخطر ظاهرة في القرن الحادي والعشرين.

الحسن من أبرز رواد الفكر العروبي التحديثي في منطقة الخليج والمؤمن بعمق بدور العلم والعقل في بلورة الحضارة البشرية. لكنه إيمان يتشابك بقوة مع التزام تام بالقيم الإنسانية والمعايير الأخلاقية التي باتت غائبة، أو تكاد، عن النظام العالمي “الميكانيكي” الراهن

صحيح، كما يقول الكاتب، أن مسألة الوعي الزائف إشكالية قديمة جسّدتها، مثلاً، خطب البابا أوربان التي سعت إلى خلق وعي زائف حول ما يفعله المسلمون بالمسيحيين وبالأماكن المقدسة بهدف إطلاق العنان للحروب الصليبية المدمّرة، وما قام به الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن من تزوير لتبرير غزوه واحتلاله للعراق، إلا أن الثورة التكنولوجية الرابعة ستكون أعمق ما يتعرّض إليه الوعي في كل التاريخ البشري قاطبة. وهذا، مثلاً، ما حدا بمخطط استراتيجي كهنري كيسينجر (وزير خارجية أميركا الأسبق)، لم يُعرف عنه قط اهتمامه سوى بالحروب والصراعات والقوى وموازينها، إلى القول: “في عصر التنوير، احتّل العقل البشري موقعاً مركزياً. لكن الآن، ومع النهاية الجزئية لتفوّق العقل البشري مع انتشار الآلات التي تتجاوز قدرات ذكائنا، سنكون أمام تحوّلات أعمق بكثير مما أفرزه عصر التنوير، من شأنها تغيير مفهوم البشرية عن “الحقيقة” وبالتالي عن نفسها. نحن نتقدّم نحو انجازات ضخمة، لكننا نحتاج إلى تعمّق فلسفي، لأن أدواتنا البشرية (أي الآلات) باتت تصبح شريكة لنا، ما سيُغيّر المجتمعات البشرية والتاريخ البشري”. ويضيف: “يستطيع الذكاء الإصطناعي الوصول إلى استنتاجات وتوقعات وقرارات، لكنه لا يملك الادراك الذاتي أو القدرة على التفكير بدوره في العالم، وليس لديه نوايا أو حوافز أو أخلاق أو عواطف. ومع ذلك يُحتمل أن يطوّر وسائل مختلفة وغير متصوّرة لتحقيق الأهداف المنوطة به. وهو حتماً سيغيّر البشر والبيئة التي يعيشون فيها. وهذه ثورة لا يبدو أن مفاهيمنا الفلسفية ومؤسساتنا مستعدة لها”.

إقرأ على موقع 180  "طوفان الأقصى" يُغرق إسرائيل في "سبت أسود"

بعد أن يفتح الكاتب بوابة الوعي هذه، يسارع إلى إشراع النوافذ لتحديد الظواهر السلبية الضاغطة التي تساهم في تشويه أو تزييف الوعي وهي على التوالي “ثقافة البلادة السياسية”، و”ثقافة طغيان الوهم على الواقع”، و”ثقافة غفلة العقل” (اكان على الكاتب أن يضمه إلى فصل “الوعي الزائف”)، و”ثقافة الأساطير اللاهوتية المتعصّبة وتفريخ التكفير”.

ربما بدا واضحاً للعيان الآن ما أشرنا إليه في البدء عن الترابط العميق بين “التأملات” المبعثرة على الفصول الـ17 في الكتاب، والتي ترسم في الواقع لوحة واحدة متكاملة عن حالة الفوضى الشاملة التي يخلقها علم منفصل عن الضمير، وتكنولوجيا تدير ظهرها للقيم والأخلاق. وهذا كما بات معروفاً نمطُ حياة جلب لنا التلوّث وتدمير توازنات الطبيعة، والطفرة العشوائية في تعداد السكان، والفوضى السياسية والاقتصادية في طول العالم وعرضه. كما خلق بيئة غير صحية، لا مادياً ولا عقلياً ولا سايكولوجياً، لمعظم الناس الذين يعيشون في إطارها. الفردية الأنانية باتت هي السجن الجهنمي الحقيقي الذي تصوّره الإيديولوجيا الغربية الميكانيكية على أنه الجنّة المرتجاة على الأرض.

هنا، يوضح الحسن من دون لبس أن معركتنا الكبرى والتاريخية الحاسمة الراهنة التي ستحدد مصير جنسنا البشري، تتمحور برمتها حول مسألة وحيدة: من يجب أن يُسيطر ويُدير ويُوجّه مسيرة وتطور العلم والتكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين؟ ولمصلحة من؟ وبأية أهداف؟

الفردية الأنانية باتت هي السجن الجهنمي الحقيقي الذي تصوّره الإيديولوجيا الغربية الميكانيكية على أنه الجنّة المرتجاة على الأرض

أما لماذا هذه هي المعركة الكبرى الحاسمة، وليس مثلاً الصراع الجيو- استراتيجي بين الدول الكبرى حول النظام العالمي الجديد، أو حتى الحروب الكبرى والإقليمية، أو صدام الحضارات، أو التنازع بين الديموقراطية والرأسمالية والديكتاتوريات، فلأن الثورة التكنولوجية الرابعة باتت ليست فقط المحرّك الأول للتاريخ بل أيضاً لأنها على وشك تغيير طبيعة الإنسان وحتى طبيعة جيولوجيا كوكب الأرض. وهذا ما يجعل هذه المعركة ذا بعد كوني هائل، ونقطة تحوّل مصيرية ضخمة.

يقول الكاتب في الخاتمة:

“تحفزنا منظومات الرداءة والتفاهة والبلادة والفساد والتعالي والتمييز، وأشباهها من أنساق ثقافات ومسلكيات رديئة، على الإغفاء والتشتت بدلاً من التفكير النقدي والتأمل، وتشجّعنا على تقبّل ما هو غير منطقي وغير إنساني وغير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مشين ومقيت وقبيح وفاسد وكأنه ضروري. إنها أنساق “ثقافات” رديئة تُطيل أذاننا وتحيلنا أغبياء. تقول أسطورة صندوق باندورا أن شيئاً جميلاً ظل في قعر الصندوق بعد فتحه. إنه الأمل كترياق شافٍ لتلك الشرور (حروب، أمراض، جشع، كراهية، غطرسة، فساد، قبح) التي انطلقت من الصندوق. إنه الأمل الذي نحتاج إليه. فلنُرب الأمل وننعش الوعي ولنطرد التفاهة والرداءة، وننقذ الثقافة ونطهرها لتسمو بها حياتنا ومجتمعاتنا. هلموا نحارب الرداءة في عقول البشر” (ص 128).

لكن، هل ثمة أمل بعد أم فات الأوان وقُضي الأمر؟ وهل يوسف الحسن مجرد حالم يريد السباحة في بحيرة لا ماء فيها؟

ربما. بيد أن غرامشي كان على حق حين تحدث عن “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”، ومعه أيضاً من قال إن “من يفكّر يكون متسّولاً، ومن يحلم يكون إلهاً”، وأن لا انجازات عظيمة من دون أحلام عظيمة.

Print Friendly, PDF & Email
سعد محيو

كاتب سياسي، مدير منتدى التكامل الإقليمي

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لبنان: إنتهى زمن المعجزات.. إنه زمن العجز