“11 أيلول السيبراني”.. تقويض ثقة الناس بالجيوش والأسواق (1)

عندما دُقَّ ناقوس الخطر بشأن التهديدات السيبرانية (أو الإلكترونية)، استخدم صانعو السياسات والمحللون عادة مفردات الصراع والكارثة. الكاتبة جاكاين شنايدر (معهد هوفر- جامعة ستانفورد) تركز في مقالة نشرتها في "فورين أفيرز" على تقاطعات التكنولوجيا والأمن القومي والأسواق والحكومات وهذا الجزء الأول منها.

جيمس آدامز، المؤسس المشارك لشركة الأمن السيبراني iDefense، كان قد حذَّر في وقت مبكر من العام 2001، من أن الفضاء الإلكتروني هو “ساحة معركة دولية جديدة”، حيث يمكن الفوز بالحملات العسكرية المستقبلية أو خسارتها. في السنوات اللاحقة، حذَّر مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية من “بيرل هاربور سيبراني”، على حد تعبير وزير الدفاع آنذاك ليون بانيتا، ومن “11 أيلول/ سبتمبر سيبراني”، على حد تعبير وزيرة الأمن الداخلي آنذاك جانيت نابوليتانو. وفي عام 2015، قال جيمس كلابر، مدير المخابرات الوطنية آنذاك، إن الولايات المتحدة يجب أن تستعد لـ “كارثة سيبرانية”، وأقّر في الوقت نفسه بأن ذلك ليس السيناريو الوحيد. ورداً على هذه المخاوف، جادل مسؤولون بأن ينبغي فهم أن الفضاء الإلكتروني يمكن أن يكون “ساحة” للنزاع، وعلى الولايات المتحدة معرفة “التضاريس الرئيسية” فيها والدفاع عنها.

تقوض الثقة.. أكبر الخسائر

كشفت السنوات العشرون؛ التي انقضت منذ التحذير الذي أطلقه آدامز؛ أن التهديدات الإلكترونية والهجمات الإلكترونية لها أهمية كبيرة – ولكن ليس بالطريقة التي اقترحتها معظم التوقعات. لقد حصل تجسس، وسُرقت كميات كبيرة من البيانات الحسَّاسة، حتى أن عمليات إنتخابية في أكثر من بلد تعرضت لخروقات بعدما تمت سرقة معلومات عن طريقة التجسس الإلكتروني. هناك شركات تكبدت خسائر بمئات مليارات الدولارات بسبب هجمات إلكترونية. ولكن في حين أن التهديد السيبراني حقيقي ومتزايد، فإن التوقعات بأن الهجمات الإلكترونية ستخلق آثاراً مادية واسعة النطاق تشبه تلك الناجمة عن التفجيرات، أو أنها ستدفع الدول إلى صراع عنيف، أو حتى ما حدث في مجال الفضاء الإلكتروني سيحدد من ربح أو خسر في ساحة المعركة لم يتم إثباته. ففي محاولاتهم تشبيه التهديد السيبراني بعالم الحرب المادية، فات صُناع السياسة أن الخطر الأكثر فداحة وغدراً الذي تشكله العمليات الإلكترونية هو أنها تتسبب في تقويض ثقة الناس في الأسواق، والحكومات، وحتى القوة الوطنية.

هل نظام الإنذار الإستراتيجي المدعوم بذكاء اصطناعي يستطيع إطلاق صاروخ حقيقي، أم أنه إشارة ضوئية في رمز الكمبيوتر؟ هل صورك خاصة؟ هل المُلكية الفكرية لشركتك آمنة؟ هل أسرار الحكومة النووية بمأمن عن متناول الخصوم؟

التشخيص الصحيح لأي تهديد يمكن أن يشكله أي هجوم سيبراني أمرٌ ضروري، على الأقل لناحية معرفة كيف يمكن للدول أن تستثمر في الأمن السيبراني بشكل صحيح وسليم. التركيز على أحداث فردية، يُحتمل أن تكون كارثية، والتفكير في الآثار المادية المُحتملة أكثر من أي شيء آخر، يعطي الأولوية دون مبرر للقدرات التي ستحمي من “الهجمات الكبيرة”: الاستجابات واسعة النطاق للهجمات الإلكترونية الكارثية، والإجراءات الهجومية التي ينتج عنها عنفٌ جسديٌ، أو فرض عقوبات فقط على أنواع الهجمات التي تتجاوز العتبة الإستراتيجية. هذه القدرات والاستجابات؛ في الغالب؛ غير فعَّالة ولا تضمن حماية الثقة التي تدعم الاقتصادات الحديثة والمجتمعات والحكومات والجيوش.

إذا كانت الثقة على المحك – وقد تآكلت بالفعل – فإن الخطوات التي يجب على الدول اتخاذها للصمود والعمل في هذا العالم الجديد مختلفة. الحل المناسب لـ”بيرل هاربور سيبراني” محتمل هو بذل الجهود من أجل ضمان عدم حدوثه من الأساس. والسبيل الوحيد للحفاظ على الثقة في العالم الرقمي اليوم؛ برغم حتمية الهجمات الإلكترونية؛ هو بناء المرونة على الصمود، وبالتالي تعزيز الثقة في أنظمة التجارة والحوكمة والقوة العسكرية والتعاون الدولي. يمكن للدول أن تطور هذه المرونة من خلال استعادة الروابط بين البشر وداخل الشبكات، وكذلك من خلال التوزيع الإستراتيجي للنظم التناظرية عند الحاجة، والإستثمار في العمليات التي تسمح بالتدخل اليدوي والبشري. مفتاح النجاح في الفضاء الإلكتروني؛ على المدى الطويل؛ ليس في هزيمة جميع الهجمات الإلكترونية ولكن في تعلم كيفية البقاء على قيد الحياة على الرغم من الاضطراب والدمار الذي قد تسببه.

لم تشهد الولايات المتحدة حتى الآن “هجمات 11 أيلول/سبتمبر إلكترونية”، ومن غير المحتمل في المستقبل حدوث هجوم إلكتروني يتسبب في آثار مادية كارثية فورية. لكن ثقة الأميركيين بحكومتهم ومؤسساتهم، وحتى مواطنيهم آخذة في التدهور وبسرعة. وهذا يُضعف أُسُس المجتمع ذاتها. الهجمات الإلكترونية تفترس نقاط الضعف هذه، وتزرع عدم الثقة في المعلومات، وتخلق الارتباك والقلق، وتزيد من الكراهية وتساهم في إنتشار المعلومات المُضللة. فبينما التتبع الرقمي للأشخاص ينمو، والروابط بين التقنيات التكنولوجية والأشخاص والمؤسسات تصبح أكثر إتساعاً وهشاشة، فإن التهديد الإلكتروني للثقة سيصبح واقعاً لا محال. هذا هو المستقبل البائس الزاحف الذي يجب على صانعي السياسة القلق بشأنه، وعمل المستحيل من أجل تفادي حدوثه.

الروابط الملزمة

الثقة، التي تُعرّف على أنها “الإيمان الراسخ بمصداقية أو حقيقة أو قدرة أو قوة شخص ما أو شيء ما”، تلعب دوراً مركزياً في الاقتصادات (خصوصاً الحديثة) والمجتمعات والنظام الدولي. الثقة هي من يسمح للأفراد والمنظمات والدول بتفويض المهام أو المسؤوليات، وبالتالي توفير الوقت والموارد لإنجاز وظائف أخرى، أو التعاون والعمل الجماعي بدلاً من العمل الفردي. الثقة هي المادة اللاصقة التي تسمح للعلاقات المُعقدة بالإستمرار، وبالتالي تتيح للأسواق بأن تصبح “معقدة” أكثر (أي أكثر دقة من مناطق السوق البسيطة لأنها تستجيب للحواجز المادية والثقافية)، كما تسمح للحوكمة بالتوسع لتشمل عدداً أكبر من السكان أو مجموعة من القضايا. كذلك تستطيع الدول أن تُتاجر وتتعاون وتتواجد ضمن علاقات تحالف أكثر تعقيداً. وكما يقول عالم السياسة مارك وارين “إن إتساع الثقة يُسهل تنسيق الإجراءات على نطاقات كبيرة من المكان والزمان، والتي بدورها تسمح بفوائد للمجتمعات الأكثر تعقيداً وتمايزاً وتنوعاً”.

وقد أدت هذه الملحقات من الثقة دوراً أساسياً في التقدم البشري عبر كافة الأبعاد. تعمل المجتمعات البدائية والمعزولة والاستبدادية مع ما يسميه علماء الإجتماع “الثقة الخاصة” – وهي ثقة الآخرين المعروفين داخل المجتمع الضيق فقط. بينما تتطلب الدول الحديثة والمترابطة ما يسمى بـ”الثقة المُعممة”، والتي تمتد إلى ما وراء الدوائر المعروفة وتسمح للجهات الفاعلة بتفويض علاقات الثقة إلى الأفراد والمنظمات والعمليات التي لا يعرفها الموثق بشكل وثيق. “الثقة الخاصة” تؤدي إلى عدم الثقة بالآخرين، والحذر من العمليات أو المؤسسات غير المألوفة، وحصر الولاء داخل مجموعات صغيرة فقط. أما “الثقة المُعممة” فتتيح تفاعلات السوق المعقدة، والمشاركة المجتمعية، وتعزيز التجارة والتعاون بين الدول.

عندما يثق الأفراد والكيانات في النظام المالي، تزداد الأجور والأرباح والعمالة.. والاقتصاد الرقمي يزيد هذه الثقة المُعممة أهمية

السوق الحديثة، على سبيل المثال، لا يمكن أن توجد بدون الثقة التي تسمح بتفويض المسؤولية إلى كيان آخر. يثق الناس في أن العُملات لها قيمة، وأن البنوك يمكنها تأمين الأصول وحمايتها، وأن سندات الدين على شكل شيكات أو بطاقات ائتمان أو قروض سيتم الوفاء بها. عندما يثق الأفراد والكيانات بالنظام المالي، تزداد الأجور والأرباح والعمالة. الثقة في القوانين المتعلقة بحقوق الملكية تسهل التجارة والازدهار الاقتصادي. والاقتصاد الرقمي يجعل هذه الثقة المعممة أكثر أهمية. لم يعد الناس يودعون الذهب في خزنة بنكية. بدلاً من ذلك، تتكون الاقتصادات الحديثة من مجموعات معقدة من المعاملات الرقمية التي يجب على المستخدمين أن يثقوا فيها ليس فقط في أن البنوك تقوم بتأمين أصولهم وحمايتها، ولكن أيضاً في أن الوسيط الرقمي – سلسلة من الآحاد والأصفار المرتبطة ببعضها البعض في رمز – يُترجم إلى قيمة فعلية يمكن استخدامها لشراء السلع والخدمات.

إقرأ على موقع 180  دراسة إسرائيلية: بين روسيا والناتو أين تقف تل أبيب؟

الثقة هي أحد المكونات الأساسية لرأس المال الاجتماعي – المعايير المشتركة والشبكات المترابطة التي، كما جادل العالم السياسي روبرت بوتنام، تؤدي إلى مجتمعات أكثر سلاماً وازدهاراً. تسمح الثقة المُعممة في قلب رأس المال الاجتماعي للناخبين بتفويض المسؤولية إلى الوكلاء والمؤسسات لتمثيل مصالحهم. يجب أن يثق الناخبون في أن الممثل المالي سوف يعزز مصالحهم، وأنه سيتم تسجيل الأصوات وفرزها بشكل صحيح، وأن المؤسسات التي تكتب وتدعم القوانين ستعمل بشكل عادل.

أخيراً، تقع الثقة في صميم كيفية توليد الدول للقوة الوطنية، وفي النهاية، كيفية تفاعلها داخل النظام الدولي. يسمح لرؤساء الدول المدنيين بتفويض قيادة القوات المسلحة للقادة العسكريين ويمكّن هؤلاء القادة العسكريين من تنفيذ سيطرة لامركزية على العمليات والتكتيكات العسكرية ذات المستوى الأدنى. من غير المرجح أن تكسب الدول التي تتميز بانعدام الثقة بين المدنيين والعسكريين حروباً، ويرجع ذلك جزئياً إلى كيفية تأثير الثقة على استعداد النظام لمنح السيطرة لمستويات أدنى من الوحدات العسكرية في الحرب. على سبيل المثال، تشير عالمة العلوم السياسية كيتلين تالمادج إلى أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ومن أجل منع وقوع إنقلاب في صفوف جيشه، عمد إلى إتباع مبدأ “التدوير” المتكرر للمهام التي كان يوكل بها ضباطه، وفرض عليهم قيود السفر وحرمهم من فرص التدريب في الخارج، وشدد على عنصر الولاء للنظام.. إلا أن هذا كله كان سبباً رئيسياً ومباشراً لإعاقة الجيش العراقي برغم أنه كان جيشاً مجهزاً بشكل جيد. الثقة تساعد الجيوش أيضاً في تجربة تقنيات جديدة والتدرب عليها، مما يزيد من احتمالية ابتكار وتطوير القوة العسكرية.

كما أن الثقة تُملي إستقرار النظام الدولي. والدول تعتمد على ذلك في بناء اتفاقيات التجارة والحدّ من إنتشار الأسلحة. والأهم من ذلك، تعتمد عليها للشعور بالثقة في أن الدول الأخرى لن تشن هجوماً أو غزواً مفاجئاً. إنها تمكن التعاون الدولي وتحبط سباقات التسلح من خلال تهيئة الظروف لتبادل المعلومات. فعندما تختار الدول الصراع فهي تفعل ذلك عندما تكون غير قادرة على مشاركة المعلومات المطلوبة للتعاون. وكما يقول  المثل الروسي “الثقة مهمة، لكن إثباتها أكثر أهمية”. والثقة هي التي وجهت مفاوضات واتفاقيات الحد من التسلح منذ الحرب الباردة.

باختصار، لقد أصبح العالم اليوم أكثر اعتماداً على الثقة من أي وقت مضى. هذا، إلى حد كبير، بسبب الطريقة التي انتشرت بها المعلومات والتقنيات الرقمية عبر الاقتصادات الحديثة والمجتمعات والحكومات والجيوش. طبيعتها الافتراضية تضخم الدور الذي تلعبه الثقة في الأنشطة اليومية. يحدث هذا بطرق عدة:

أولاً، يتطلب ظهور الأتمتة والتقنيات المستقلة – سواء في أنظمة المرور أو الأسواق المالية أو الرعاية الصحية أو الأسلحة العسكرية – تفويضاً للثقة حيث يثق المستخدم في أن الآلة يمكنها إنجاز المهمة بأمان وبشكل مناسب.

ثانياً، تتطلب المعلومات الرقمية أن يثق المستخدم في أن البيانات مُخزنة في المكان المناسب، وأن قيمها هي ما يعتقده المستخدم، وأن البيانات لن يتم التلاعب بها.

بالإضافة إلى ذلك، تنشئ منصات الوسائط الاجتماعية الرقمية ديناميكيات ثقة جديدة حول الهوية والخصوصية والصلاحية. كيف تثق في منشئي المعلومات أو أن تفاعلاتك الاجتماعية مع شخص حقيقي؟ كيف تثق في أن المعلومات التي تقدمها للآخرين ستبقى سرية؟ هذه علاقات معقدة نسبياً مع الثقة، وكلها نتيجة لاعتماد المستخدمين على التقنيات والمعلومات الرقمية في العالم الحديث.

الاقتصاد المعتمد على التكنولوجيا الرقمية معرض بشكل خاص لتدهور الثقة

تفشي الشكوك

كل الثقة اللازمة لإجراء هذه التفاعلات والتبادلات عبر الإنترنت تخلق هدفاً هائلاً. بأكثر الطرق إثارة، تولد العمليات السيبرانية عدم ثقة في كيفية عمل النظام. على سبيل المثال، يُمكن للاستغلال، وهو هجوم إلكتروني يستفيد من ثغرة أمنية في نظام الكمبيوتر، اختراق جهاز تنظيم ضربات القلب والتحكم فيه، مما يتسبب في عدم ثقة المريض الذي يستخدم الجهاز. أو يمكن أن يسمح الباب الخلفي للرقاقة الإلكترونية للأشخاص السيئين بالوصول إلى الأسلحة الذكية، مما يؤدي إلى عدم الثقة بشأن من يتحكم في تلك الأسلحة. يمكن أن تؤدي العمليات السيبرانية إلى عدم الثقة في سلامة البيانات أو الخوارزميات التي تجعل البيانات منطقية. هل سجلات الناخبين دقيقة؟ هل نظام الإنذار الإستراتيجي المدعوم بذكاء اصطناعي يستطيع إطلاق صاروخ حقيقي، أم أنه إشارة ضوئية في رمز الكمبيوتر؟ بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي العمل في عالم رقمي إلى عدم الثقة في ملكية المعلومات أو التحكم فيها: هل صورك خاصة؟ هل المُلكية الفكرية لشركتك آمنة؟ هل أسرار الحكومة النووية بمأمن عن متناول الخصوم؟

أخيراً، تخلق العمليات الإلكترونية حالة من إنعدام الثقة من خلال التلاعب بالشبكات الاجتماعية والعلاقات وتدهور رأس المال الاجتماعي. الشخصيات التي نقابلها عبر التقنية الافتراضية، والروبوتات، وحملات التضليل تؤدي إلى تعقيد ما إذا كان بإمكان الأفراد الوثوق بالمعلومات وببعضهم البعض. كل هذه التهديدات الإلكترونية لها آثار يمكن أن تقوض الأسس التي بنيت عليها الأسواق والمجتمعات والحكومات والنظام الدولي.

* النص الأصلي بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  عقيدة السياسة الخارجية لبايدن عالقة في القرن العشرين