“سيكول ميموكاد” (القتل المتعمد).. صار مُنتجاً إسرائيلياً (100)

في كتابه "انهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية"، يروي الكاتب رونين بيرغمان كيف دفعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000) الاستخبارات "الإسرائيلية" الى تجنيد تكنولوجيا الإتصالات لمصلحة سياسة "القتل المتعمد"، أي الإغتيال.

يشرح رونين بيرغمان الآلية التي اعتمدتها الاستخبارات “الإسرائيلية” لتنفيذ تلك السياسة وسلسلة الامرة والسيطرة التي تم استحداثها بأمر من رئيس الوزراء حينذاك ارييل شارون. ولأنه بات من المستحيل على “إسرائيل” ان تنكر علاقتها بعمليات القتل والاغتيال “فقد زادت اجهزة الاستخبارات على كل هذه التقنية العالية بان لجأت الى الحرب الدعائية الى درجة البحث عن تعابير لجعل هذه العمليات تخاطب وجدان المواطن العادي كما الرأي العام الدولي”.

وبعد أن أمر شارون بوضع كل امكانيات سلاح الجو المتطورة بتصرف عمليات الاغتيال وسط معارضة الجيش “الإسرائيلي” الذي كان يخشى كشف انظمة تسلحه الجوية، يقول بيرغمان، “أنشأ سلاح الجو فرقة خاصة لاعادة تحديث المسيرات في امرين اساسيين، الذخيرة وتقنية التهديف. فتحديد دبابة سورية في ميدان المعركة يختلف عن ملاحقة رجل يركب حمارا ويحاول التملص من فرق الاغتيال “الإسرائيلية”، وتدمير الية مصفحة يتطلب نوعاً من الصواريخ يختلف عن ذلك الذي يستخدم لقتل شخص او شخصين من دون تدمير حي كامل. رسا خيار سلاح الجو على رؤوس حربية تنشر المئات من كتل التنغستن (نوع من المعادن) ذات العيار ثلاثة ميلليمتر التي بامكانها ان تخترق المعادن الرقيقة وكتل الاسمنت، ولكن بسبب كثافة هذه المادة فان مدى انتشارها ينحصر بقطر لا يتجاوز الستين قدماً (حوالي عشرين مترا)”.

يتابع الكاتب، “مع السلاح المناسب من المؤسسة العسكرية كان “الشين بيت” بحاجة الى الاستخبارات ايضا، فأمر شارون جهاز “أمان” الذي كان أكبر بمرات عديدة من جهازي “الشين بيت” و”الموساد” ان يضعا كل امكانياتهما بتصرف “الشين بيت” طالما الأمر يتطلب ذلك، وكانت علاقة جهازي “أمان” و”الموساد” ليست على ما يرام مع “الشين بيت”. وهكذا فقد شهدت وحدة سلاح الاشارة في “أمان” (8200) اكبر تغيير لها منذ انشائها، فقد اعتادت ان تتعامل بصورة اساسية مع الاعداء الخارجيين لـ”إسرائيل” وبصورة خاصة سوريا، اما بعد التغيير فقد تحول العديد من هوائياتها ومعدات المراقبة لديها واجهزة كشف الشيفرات واقسام اختراق الكومبيوترات الى التركيز على الحرب ضد “الارهاب” الانتحاري، وتحول دور قاعدة “العمامة” للتنصت التابعة لجهاز “أمان”، التي كانت على شفير الاقفال عند بداية عملية السلام، لتوضع كليا بتصرف “الشين بيت”، واصبحت اكبر قاعدة للوحدة “8200” وبصورة عملية خط الانتاج الرئيسي للقتل المتعمد. الى جانب ذلك، وضع جهاز “أمان” وسلاح الجو اسطولاً من طائرات الاستطلاع والمراقبة ولاحقاً قمراً صناعياً تجسسياً في المدار حول الارض من اجل العمل لدى “الشين بيت”. وقد جرى بناء هذا الاسطول في الاساس ليقدم معلومات بالوقت الحقيقي عن ميدان المعركة الى الوحدات المقاتلة”.

بيرغمان: عمليات الاغتيال التي جرت ادارتها من غرفة  الحرب المشتركة قتلت 24 شخصا عام 2000 وقتلت 84 شخصا عام 2001 و101 عام 2002 و135 عام 2003. وعلى عكس عمليات القتل التي نفذها “الموساد” في الخارج بصورة متقطعة، فقد كان مستحيلا او على الاقل من غير المعقول أن تنكر “إسرائيل” علاقتها بعمليات الاغتيال التي كانت تديرها غرفة الحرب المشتركة

وينقل بيرغمان عن ايزحاك ايالان قوله تعليقاً على ذلك “العديد من الإسرائيليين يدينون بحياتهم الى المعلومات التي قدمتها الاستخبارات المرئية وبنفس النسبة فان العديد من الارهابيين يدينون بموتهم الى المعلومات نفسها”. ويقول موشيه يعالون ان نتيجة هذا “الانصهار الاستخباري كانت اكثر بكثير من مجرد دمج المواد”.

ان وضع كل هؤلاء الناس من كل اجهزة الاستخبارات حول طاولة واحدة في “غرفة الحرب المشتركة” كان المحرك الاساس لخلق المزيد من المعلومات الاستخبارية. ويقول رئيس جهاز “أمان” آفي ديتشر “فجأة، ممثل الوحدة 8200، وهو رجل لا يعمل باللغة اليديشية (احدى اللهجات الالمانية) بات بحاجة لان يعرف اللغة العربية كونه صار مكلفاً بمراقبة هواتف العدو. وذلك بعد ان سمع احد ضباط الحالة من “الشين بيت” يتحدث الى مصدر فلسطيني، ويسأل من تلقاء نفسه بعض الأسئلة ليقول بعدها المراقب الارضي إن الشخص السيء (الهدف الفلسطيني) دخل مخزن ابو حسن للسمانة، ليطرح سؤالاً من هو ابو حسن هذا نفسه، وما اذا كان كان يجب ان يلون اسمه على الكومبيوتر مع الاشخاص السيئين، وهكذا دواليك. وهكذا بدأت غرفة الحرب المشتركة نفسها ومن خلال سير العمليات تصبح مصدرا تتجمع فيها كميات هائلة من المعلومات الاستخبارية”.

ومع هذه التطورات اصبحت التقنية بالوقت الحقيقي تحديدا امرا حيويا، فالاهداف مع الوقت تعلمت دروسها الخاصة واصبحت تتخذ تدابيرها لتفادي الاغتيال، فقد باتوا يتحركون بسرعة كبيرة ويغيّرون سياراتهم واحيانا يلبسون البسة تنكرية، واصبح يطلق على الوقت بين تحديد الهدف المحتمل وتصفيته تعبير “حياة وضع الهدف على الرف”، وهذا الوقت اصبح قصيراً جداً لا يتجاوز في اقصى حد بضع ساعات وفي غالب الاحيان بضع دقائق، وحده النقل السريع لداتا المعلومات كان يمكنه ان يؤدي الى نجاح عمليات الاغتيال لاهداف سريعة الحركة، كما يروي رونين بيرغمان.

يضيف الكاتب: “ابعد من غرفة الحرب المشتركة فقد جمع نظام القتل المتعمد آلاف المشاركين: ضباط الحالة ومحللو النظم وجنود مشاة متنكرين ليقوموا بواجبات المراقبة ومشغلو مُسيرات المراقبة ومشغلو مُسيرات القتل ومترجمون وخبراء متفجرات وقناصون. ولكن هذا النظام الكبير جدا والمعقد كان لديه سلسلة امرة واضحة وصارمة يتربع على عرشها جهاز “الشين بيت” الذي هو كان من يدير العرض بحسب ما تذكر احدى وثائق هذا الجهاز وتضيف الوثيقة “وكالة الامن العام (الاسم الرسمي للشين بيت) تتولى المسؤولية في حفظ امن الدولة.. وواحدة من طرق تحقيق هذا الهدف هي منع وقوع هجمات ارهابية وردع مثل هذه الهجمات عبر وسائل الضربات الاستباقية للهدف”.

وهكذا فان عمليات القتل المتعمد “كانت تبدأ مع العملاء الميدانيين يجمعون المعلومات ويحددون الهدف، وبصورة اعتيادية يكون الهدف شخصية مرموقة في منظمة “ارهابية”، كما يصفه ديتشر بأنه “شخص يستحق بطاقة على قطار التصفية”، او شخص يستحق استثمار المصادر المطلوبة لقتله. يتم مراكمة ملف للهدف ليتم بعدها تحويل الملف الى نائب مدير “الشين بيت” الذي يقرر حينها ما اذا كان هذا الهدف مناسبا ليكون مرشحا للتصفية، واذا ما وافق نائب المدير على ذلك ووافق بعده المدير على التصفية يتم تقديم الصفحة الحمراء الى رئيس الوزراء. وبعد ان يوقع الاخير على الورقة يتم توجيه الذراع الاستخبارية التي تتعامل مع المنطقة الجغرافية للهدف او مع المنظمة “الارهابية” التي ينتمي اليها بايلاء اهتمام خاص لكل المعلومات التي من شأنها تسهيل عملية الاغتيال. هذه المعلومات كانت مختلفة عن المعلومات عما كان يخطط له الهدف، مثلا عمن كان مساعدو الهدف، ففي السابق كان الامر حبيس المعلومات التي تحدد ما اذا كان هناك “جدوى عملياتية” لقتل هذا الهدف وكان جمع المعلومات يتم على مدار الساعة. وما ان تحين فرصة التنفيذ يتم الاتصال مجددا برئيس الوزراء ليأذن بالقتل في الوقت المحدد، وما ان يصدر الامر بالمباشرة بالتنفيذ تقوم مديرية العمليات في هيئة الاركان العامة للجيش بتحديد “الجهة المنفذة وطريقة التنفيذ ونوع  الذخيرة التي ينبغي ان تستخدم”. وما ان يقر رئيس هيئة الاركان الخطة فان غرفة الحرب المشتركة تحتاج تحديدا ايجابيا للهدف من مصدرين مختلفين على الاقل قبل الانتقال الى مرحلة “التأطير”، عندها يتم نقل العصا الى الجهة المنفذة وعادة ما تكون هذه الجهة سلاح الجو.

إقرأ على موقع 180  أوباما لعبدالله: جلالة الملك، كيف توفّق بين 12زوجة؟ (2)   

من الناحية التخطيطية فان الكثير من نظام القتل المتعمد الجديد لم يكن بصورة اساسية جديدا، يقول بيرغمان، تراتبية الاستخبارات تجمع المعلومات، رئيس الوزراء يعطي الاذن بالتنفيذ، والقوى الميدانية تنفذ الضربة تماما كما في السبعينيات والثمانينيات (من القرن الماضي) في اوروبا ولبنان، ولكن الآن باتت هناك اختلافات مهمة جدا بحسب ما يقول ضابط استخباري في تلك المرحلة مفسرا كلام مارشال ماك لوهان “التوسع هو الرسالة، وهذا يعني ان استخدام التقنية المتطورة خلق حقيقة جديدة، بضمّ كل عالم الاستخبارات، والى جانب التطور التكنولوجي العسكري الحديث زاد بصورة هائلة عدد عمليات الاغتيال التي بامكان النظام الجديد تنفيذها وبصورة متوازية احياناً”، ويقول ضابط في “الشين بيت”: “حتى ذلك الوقت كان الامر يتطلب من “الموساد” اشهرا ان لم نقل سنوات لتخطيط وتنفيذ عملية قتل واحدة ولكن الآن من غرفة الحرب المشتركة يُمكننا ان ندير اربع او خمس عمليات في اليوم الواحد”.

يتابع بيرغمان، “ان عمليات الاغتيال التي جرت ادارتها من غرفة  الحرب المشتركة قتلت 24 شخصا عام 2000 وقتلت 84 شخصا عام 2001 و101 عام 2002 و135 عام 2003. وعلى عكس عمليات القتل التي نفذها “الموساد” في الخارج بصورة متقطعة، فقد كان مستحيلا او على الاقل من غير المعقول أن تنكر “إسرائيل” علاقتها بعمليات الاغتيال التي كانت تديرها غرفة الحرب المشتركة.

وينقل بيرغمان عن رئيس قسم الابحاث في جهاز “أمان” حينذاك العميد يوسي كوبرفاسر قوله “لم يكن بامكاننا ان نزعم ان تلك العمليات نفذتها حكومة فنلندا” بالاضافة لذلك فقد كانت هناك ادلة مادية، اذ جمع الفلسطينيون عددا من الصواريخ التي لم تنفجر لعطل فني وعليها اختام باللغة العبرية تحمل كلمة “ميخولت” (الفرشاة) وهي ترمز الى صاروخ مضاد للافراد رديف لصاروخ “ميخول” المضاد للدبابات.

ويواصل بيرغمان، ان الانتقادات لعمليات القتل المتعمد في “إسرائيل” وخارجها جعل من الضرورة تبرير كل عملية عبر نشر معلومات مفصلة عن الاعمال الشريرة التي كان يقوم بها الضحية وذلك للقول ان “إسرائيل” تملك سببا كافيا لان ترد على هذه الاعمال، ومع الوقت اصبح ما كان يعتبر سببا لاضرار عالية – أي الاقرار بالمسؤولية عن عمليات الاغتيال – اصبح سياسة رسمية. وينقل الكاتب عن دوف ويسغلاس قوله “مواصلة المحاولة بنفي المسؤولية كان يمكن ان يصبح مهزلة، فبعد دقائق قليلة من الضربة كان الفلسطينيون يجمعون من داخل سيارة الهدف شظايا صاروخ تحمل اسم شركة إسرائيلية. وفوق ذلك كنا نريد (من خلال الاعلان عن المسؤولية) ان ننشر تأثيرا رادعا. فمع كل ازيز في سماء غزة كنت ترى الآلاف يفرون في كل الاتجاهات. لم يعد لديهم لحظات من السلام ووصل الامر بسكان غزة ان كل شيء يحتوي على اشعاعات الكترونية، من الهاتف الخليوي الى حماصة الخبز، بدا لهم كانه شيء يجذب الصواريخ الإسرائيلية. انه الخوف المطلق”. وبدأ الجيش “الإسرائيلي” ينشر بيانات بعد كل ضربة، وبصورة موازية كان “الشين بيت”، الذي حتى بدء الانتفاضة يتجنب بصورة كبيرة بناء علاقات مع وسائل الاعلام، بدأ يوزع  على عدة وسائل اعلام مقتطفات من الورقة الحمراء – تتضمن تلخيصا عن اعمال الرجل المستهدف – اي ان “إسرائيل” باتت حينها تعيد ترتيب سياستها الاعلامية وتخوض عمليا حربا اعلامية ودعائية.

ان تسليط الضوء وشرح ما كان يعتبر على مدى زمني طويل اسرار دولة بات يتطلب لغة جديدة وتسميات جديدة، ومثالاً على ذلك كلمة “انتفاضة” التي تعني انتفاض شعب استبدلت بتعبير “حرب المفجرين الانتحاريين”. ومقتل مدنيين ابرياء خلال عمليات الاغتيال اصبح يعرف بـ”نيزيك اجافي” اي “الضرر العرضي” الذي بات يستخدم له اختصارا كلمة “نازا”. وينقل بيرغمان عن ضابط رفيع المستوى في مكتب رئيس الوزراء قوله “اغتيال او تصفية او قتل او فكرة الموت قتلا كانت كلها تعابير منفرة وغير مناسبة لنا لاستخدامها لذلك بحثنا عن تعابير تشكل خطوة ابعد من الشعور الحر والعقيم، تعابير تصف الشر الذي نحاول منعه من خلال ما نقوم به”. في البداية استخدموا تعبير “بامون” اي “الجرس” ولكن هذا ايضا كان تعبيرا عن “عمل وقائي” ولكن هذا التعبير لم يكن جذابا بما فيه الكفاية، بعد ذلك جرى استبعاد عدة اقتراحات من ضمنها استخدام كلمات درج عالم الاستخبارات على استخدامها مثل “التعامل السلبي”. اخيرا وقع الخيار على تعبير “سيكول ميموكاد” وهو يعني “القتل المتعمد” وهي شبه جملة لها وقع لطيف وعالي التقنية ونظيف باللغة العبرية وتتضمن الرسالة التي تريد المؤسسة الدفاعية توصيلها الى العالم الخارجي”، كما ينقل بيرغمان عن ضابط “إسرائيلي” كبير.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "نيويورك تايمز": لا يمكن إحياء جثة إتفاق نووي ميت!