حرب بين دولتين، روسيا وأوكرانيا، دشّنت مرحلة قد تدعى الحرب بالواسطة. الميدان اوكرانيا. روسيا تحارب مباشرة، وأميركا والناتو يحاربون بالواسطة. القوى المتنافسة تخندقت. القتلى بعشرات الآلاف. الخسائر بمئات المليارات من الدولارات، والتداعيات اصابت الفقراء والطبقات الوسطى في العالم. انهم خائفون على اللقمة. يحصل ذلك، وكرم التسلح يتدفق على اوكرانيا، من دول “معسكر الحرية والسلام”!. واشنطن تدير الحرب، ولا حل الا معها. تريد ان تبقى مسيطرة وحدها على العالم. لا ترغب بمشاركة احد، لا روسيا ولا الصين. انها حروب، وليست حرباً. الامبراطوريات القديمة، اليونانية والرومانية، ابادت شعوباً وأغرقت بلاداً واحرقت أخرى. بعدها، عاش المنتصرون سلاماً مريضاً وهشاً. الشعوب تدفع الاثمان والقادة يشربون نخب “حريق روما” بعد كل معركة. الشعوب مجرد أرقام.
كم بدا الحق كذبة! كم كانت الحقائق مزيفة؟ كم كانت القيم حثالة؟ ولا غرابة في ما بعد بإقامة الإحتفالات فرحاً بقيم وحقائق مزيفة! ساحات الدول العظمى راهناً، تستضيف قادة عسكريين. تماثيلهم مبجلة. اسماؤهم موزعة على مؤسسات وشوارع ومشاريع. لا أحد ينظر ويرى اياديهم الغائرة بدم الذين ابادوهم، في القارات الخمس.
القوة والمال آلهان. العالم محكوم بهذه الثنائية. المبادىء مساحيق تجميلية. هندام سياسي. احتفال لفظي. انها خاتم مذهب، وكتب اشادة ومتاحف ذاكرة. وهي ايضاً، مناسبة لتصنيف ابناء البشر والدول، وتأبيدهم في الخضوع والخوف. فالحقيقة الاقوى السائدة، منذ ما قبل الازمنة، هي في ان الحق مع الأقوى. فليذهب الطيبون الى النسيان.
الإنسانية مبدأ سام. إحذفه بسرعة. الانسان ضحية الانسان. الانسانية كذبة مغرية. الانسانيون فعلاً، قلة بريئة ونموذجية، ولكنهم عجزة. فضيلتهم انهم يشكلون الضمير اليقظ، في هذه المسيرة البائسة. انهم الضوء الساطع الصغير، في عتمة العولمة القديمة (الامبراطوريات) والعولمة الصاعدة والاجتياحية. ومن نتائج شموليتها، في انحاء القارات الخمس، ان ثلث البشرية يجوع ويمرض ويموت. والاحياء الغلابى، يعيشون على الفتات. “مللا بشرية”!
أُتحفت البشرية بعدد من الصيغ السياسية. آخرها، كانت الديمقراطية. تُحقق للشعوب فضاء للحرية، وللتعبير عن رغباتهم ومشاكلهم ومطامحهم. باتت الديمقراطية نعمة.
تغلبت الديمقراطية في ما بعد الحرب الكونية الثانية، بينما تحصنت الدكتاتوريات بالعقائد الشمولية، (الشيوعية في الصين والاتحاد السوفياتي) وأشيع ان المعسكر الديمقراطي، نجح في ارساء الحرية والعدالة والسعي الدائم الى السلام. وتحصنت هذه المرحلة، بمؤسسات دولية عملاقة، لمنع الحروب، واحقاق الحق، وعدد هام جداً، من القضايا والقيم. الا أن هذه الديمقراطيات لم توفر مناسبة، لتدخلها السافر وخوض الحروب خارج حدودها. الشعوب الأخرى، هي مرمى “الدول السوبر ديمقراطية”، التي شغلت سنواتها، في عقد تحالفات عسكرية وأمنية واقتصادية ومالية وثقافية، بحيث اصبح من “ليس معها”، في مرمى العزل والحصار والعقاب والعنف، بهدف الاخضاع، على قاعدة “الامر لي”، انا الغرب المنتصر.
الدكتاتوريات الحديثة، في القرن العشرين، كانت اكثر رحمة، من الديمقراطيات الاجتياحية، بالسلاح والعقوبات. سابقاً، عرفت البشرية منافسة دائمة بين الدين والآخرين، وحروباً بين الدين والسلطة.. العقيدة المبطنة هي السيطرة على الثروات. المال إله سياسي. له الامرة وقادر على تيسير البطش. فالحرب عملية تهدف الى توسيع السيطرة. ومن يخرج عنها، مطلوب ان يأتمر بما تقرره، المنظمات الدولية. استطاعت الولايات المتحدة الاميركية ان تنفرد بالقوة والسيطرة، على “حلفائها” في حلف الاطلسي، والتفرد بغنائم النفط والمواد الاولية، ولكي نعدل قليلاً، لم يكن الاتحاد السوفياتي أرحم منها. لقد سوَّر حديقته الشيوعية، بأنظمة مطيعة جداً ومتهافتة جداً ومصغية دائماً “للأخ الأكبر”. هذا الاخ، كان اخو تسلط ودكتاتورية وطحن الانسان بدعوى تعميم “الاشتراكية”. والغريب، ان السلام كان شعاراً مشتركاً بين اميركا الاجتياحية والاتحاد السوفياتي المتحصن، والصين التي كانت تنمو بلا ضجيج.
العالم يسير دائماً على حافة الهاوية. في هذا الأفق المسدود، في ظل تبخر الآمال، وفي توقع الاسوأ غداً او بعد غد، نسأل عن الفكر وتأثيره وقدرته. الملاحظ ان معظم الكتَاب في الغرب، هم كتبة النظام الرأسمالي المعولم. تضاءل تأثير المفكرين المستقلين. نعوم تشومسكي مثلاً واترابه في العالم، صاروا فاكهة
الحرية اختصاص الأقوى. الأقوى هدف مستدام. السيطرة على الشعب، بالقوة او بالإعلام او بالمال، من أجل تأبيد تأييد التفوق المالي، أو الرأسمالي، حتى بلغنا العولمة. في هذا المسار تراجع الفكر الحر. تقدم عليه الفكر الملتزم بأهداف العولمة . الحقيقة هي مَنْ الاقوى وهي مع الأقوى. إقتضى هذا الاستهداف، السيطرة الكاملة على المعرفة بواسطة الإعلام. الإعلام الذي كان حتى ثمانينيات القرن الفائت، اولاً، من حيث التأثير والنفوذ، خرَ صريعاً امام قبضة المال.. الاعلام الذي كان يُصدق، انتهى. الإعلام صار اداة نقل، لا اداة تنوير وتعريف. قبض الرأسمال العالمي، في الدول العظمى والوسطى والصغرى، على الاعلام كافة وباتت وسائل التواصل متاحة، بشروط المنتج والممول والشركات. النيوليبرالية هي اعطاء السلطة للمال وليس للشعب. لقد أفرغت النيوليبرالية السياسة من اي حقيقة، مضرة بالدول العظمى. لا نتحدث عن وسائل الاعلام في الدول الديكتاتورية، اينما كانت، لأنها ممسوكة بكاملها لمن بيدهم القبضة العسكرية ودفاتر الشيكات. الشعب طرد من المشاركة، يعيش على فيض من الاكاذيب، وفتات الصدق وكِسرة الاخلاق.
يرزح العالم اليوم، تحت نير دكتاتورية عدوانية، ذات عقيدة خطيرة. “لا تعبدوا ربين: الله والمال”. الآية السائدة، لا تعبدوا إلا المال. وقد انتظم في هذا السياق، الدين بكل منابعه، وبات الفكر والدين وحتى الفن والإعلام، خدماً على مائدة السخاء الرأسمالي.
من الأكاذيب التي سادت بين الحربين الكونيتين: الحرية لكل الشعوب. هذه خرافة دموية كاذبة. لم تعرف الشعوب قهراً يوازي انماط الارتكاب. النظام الاقتصادي والمالي والسياسي، هو في صدد اخضاع الجميع، وبالتدرج، لسلطة “حكام الرأسمال”، في الدولة، او في عدد من الدول.
العالم يسير دائماً على حافة الهاوية. في هذا الأفق المسدود، في ظل تبخر الآمال، وفي توقع الاسوأ غداً او بعد غد، نسأل عن الفكر وتأثيره وقدرته. الملاحظ ان معظم الكتَاب في الغرب، هم كتبة النظام الرأسمالي المعولم. تضاءل تأثير المفكرين المستقلين. نعوم تشومسكي مثلاً واترابه في العالم، صاروا فاكهة. لا يقربها احد من الملتزمين بالفلسفة الرأسمالية المتنامية. لقد ألحق الفكر بالإعلام، وأعدم الفكر، وخصيت الافكار. إعلامنا اللبناني والعربي برمته، هو اعلام يتقن فن الكذب. هو يعرف ذلك ويتمادى. انه اعلام يخون الحقائق المادية. يستطيع الاعلام في العالم، ان يقنع المقتول، أنه القاتل. نعم. وألف نعم. فلسطين نموذج. الفلسطيني قاتل. والعفو الدائم لإسرائيل. تاريخ “اسرائيل”، هو تاريخ ارتكاب. والإعلام العربي راهنا، هو الى جانب اسرائيل. لا يهم، ان كان الفلسطيني في العراء الانساني. ليس هناك كارثة اخلاقية توازي هذا المنحدر الساقط الى اسفل السافلين. لا قضايا عربية نبيلة. وحدها فلسطين المقاومة، تملك حقاً، وتصنع من الضعف قوة.
وعليه، هذا العالم اليوم يعيش لحظات “عولمة الرعب”. اوكرانيا، ظهَّرت صورة القوى العظمى. انهم يلوحون بالنووي الصغير، وهو نووي بأذى كبير، ولكنه لم يصل الى النووي الأصيل. هناك تصور ابوكاليبتي اذا حدثت المواجهة، او اذا كبس احدهم على الزر. إن ثورة الوسائل، وتكنولوجيات المديات البعيدة، وحجم القوى العسكرية السلاحية والمالية، وانتشار اسلحة الدمار الشامل، تهدد البشرية برمتها. العالم في خطر الإبادة، اذا تم الكبس على الازرار.
هل هذا نتاج عصر النهضة؟ لا. ابداً هذا هو نتاج طبيعي لفلسفة الخيارات البشرية: كي تكون، يجب ان تتسلح بالقوة، بكل أبعادها. يجب ان تعبد القوة، ولكي تكون قوياً، عليك ان تكون ذخيرتك المالية وافرة. الرأسمالية عقيدة حرب، بالدولار، او بالدمار. العدالة وهم. السلام كذب. التقدم فضيحة. “القرية العالمية” لا تحتضن الا من هم على دين الرأسمالية في جموحها وانتشارها الدائم. لا أحد أقوى من المال. انه مال لا يشبع ابداً.
العدالة وهم. القوة هي القانون. واميركا الأقوى، هي التي لا تستأذن احداً، لشن حروبها. علينا ان نتذكر، ان الولايات المتحدة الاميركية تحاسِب ولا تحاسَب. لا تطيع ابداً ما يصدر عن مجلس الامن، ان كانت على وشك ارتكاب حرب. أميركا، لا تستأذن احداً. حرب على العراق. حروب متفرقة. تغذية ثورات تخريبية.
انه قرن سيادة العنف. زمن هجرة المبادىء، ووداع الاخلاق، وطلاق القيم. انه زمن بلا قوانين. يحاسب الضعفاء، اذا عاندوا، ولو لم يرتكبوا. يريدون الدول قطعانا في زرائبها. يحصل ذلك، والثورات التي كانت تقض مضجع الكثيرين، باتت احلاماً ذات صيف. واهم ما نبت في هذه الخمسينية الارهاب المنظم. الارهاب الشرق اوسطي، يدين الى رد الفعل الديني والمذهبي، على الاستهتار الاميركي بهذه المنطقة. على هذه المنطقة، ان تسجد لـ”إسرائيل”، ولقد بدأت قوافل عربية في امتطاء الحالة الاسرائيلية، والمضي معها، الى حيث تشاء، لا حيث يشاؤون. اميركا واسرائيل والغرب، اعداء، لكل من يعادي “اسرائيل”.
ثم لا ثم أهم منها، انفجار الجماعات والاثنيات والاقليات والاديان والمذاهب. تنامي الارهاب، وتحديداً عندنا ومن عندنا، الى حيث الدمار والخراب. لم تحل اي مشكلة ابداً. العالم مكتظ بالحروب. السمة الغالبة لهذا العصر، هو الخوف من.. والرعب من..
“القرية العالمية” فضيحة. هي دولة بلا قيم. وأهالي القرية هذه، ليسوا مسؤولين إلا تجاه واشنطن. السلطات المالية التوتاليتارية، هي اشد اجتياحية من اي قوى فالتة.
ما هي الخيارات المتاحة؟ تقريبا منعدمة. روسيا تريد ان تكون نداً رأسمالياً لأميركا. غير مسموح. الصين تريد ان تكون شريكا. طلبها مرفوض. اننا نتقدم بواسطة الاكتشافات العلمية التي باتت سلاحاً لاستجلاب المال من كافة انحاء الكرة الارضية. وبرغم القبضة العالمية الرأسمالية فان العالم فالت. والمجتمعات انفجرت بحروب الاقليات والهويات والأرومات والاديان والـ..
هذاعصر الاذلال. لبنان نموذج. “الطغمة التي حكمت وتحكَمت”، الفلتان، الخسائر، التفتت، التشوه، الفوضى، الانهيارات، اليأس، الاستباحة، الانعدام، الخ. لم يحصل كل ذلك، إلا برعاية سامة من الولايات المتحدة. لبنان معاقب، لأن فئة من فئاته المكونة، منحازة لفلسطين، وهذا اثم عظيم، ومحتضنة من ايران “ثالثة الأثافي”.
كل القيم والافكار والعقائد، باتت “فالصو”. قيم السوق الخسيسة مقدسة. اننا نشهد عصراً، يتم فيه تدمير الانسان، ليصبح آلة تُدار بـ”الروموت كونترول”.. اسمعوا الاخبار واكتشفوا التدمير.
احزروا، كم خسر لبنان، وكم مرة لعب بدمه، وماذا كان دور اميركا والغرب. تذكروا حلف بغداد وما تلاه.. صدقونا، لبنان غير قادر على الشفاء، والسبب، القوتان المتنافستان متعادلتان، والشعوب اللبنانية، منتظمة في هذين الفسطاطين. الشرق والغرب.
العالم يتعسكر، والشعوب الضعيفة، تتعكز على فتات المنظمات “الانسانية”.
“مللا عالم”. والآتي أعظم.