بالطبع هذا يجرى بالنسبة لأحداث اليوم، خاصّةً فى ظلّ انتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ. خبرٌ أو تفسيرٌ لحدثٍ معيّن يتمّ تواتره بشكلٍ واسع ويأخذه الكثيرون أنّه «الحقيقة” دون التمحّص فى أنّ وسائل التواصل الاجتماعى لها آليّتها فى جلب المعلومة وأنّها وسيلة للحرب النفسيّة تستخدمها القوى المهيمنة، سواء ضمن البلد المعيّن أو القوى المهيمنة الخارجيّة. كما يجرى الأمر على أحداث التاريخ حتّى فى الكتب الموسومة بالجديّة أو فى مذكرّات بعض الشخصيّات الشهيرة.. بل وأقسى من ذلك فى بعض الأفلام السينمائيّة العالميّة الرائجة.
هكذا صوّر فيلم «لورانس العرب» الهوليودى وصول جيش الحجاز الذى رافق الجيش البريطانى فى مواجهة الجيش العثمانى إلى دمشق على أنّه فوضى قبليّة عربيّة. هذا فى مدينةٍ كانت نظّمت توزيع مياه الشرب («الفيجة») وخدمات الكهرباء و«الترمواى» وغيرها كشركات مساهمة محليّة تؤمّن هذه الخدمات العامّة. كما أسّست مع موظّفين حكوميين قدموا من إسطنبول كما من مصر دولة واستدعت ممثّلين عن مختلف مناطق «سوريا الطبيعيّة» كى يصيغوا دستورا «ديموقراطيّا» و«مدنيّا» بمعنى المواطنة المتساوية للمسلمين والمسيحيين واليهود. هكذا تمّ عبر الفيلم عينه نشر صورة عن العرب أنّهم قبائل متخاصمة لا يعرفون ما هى الدولة ولا الديموقراطيّة.. لتبرير «الانتداب». إنّ السوريّين يكتشفون اليوم كم كان ذلك الدستور حضاريّا فى الوقت الذى ما زالت تروج بينهم قناعاتٌ أنّ الانتداب هو الذى جلب «الحضارة» إليهم.
كذلك لدى لبنانيين كثُر قناعة راسخة أنّ لبنان حصل على استقلاله قبل سوريا. وذلك بواقع أنّهم يحتفلون بالاستقلال يوم خروج رؤساء البلد من احتجازهم فى قلعة راشيّا عام 1943، ولأنّ السوريين لا يحتفلون بـ«الاستقلال» بل بجلاء قوّات الانتداب الفرنسى عام 1946. الواقعة التاريخيّة أنّ البلدين تفاوضا على إنهاء الانتداب منذ 1936 وصادقا فى برلمانيهما على الاتفاقيّة دون أن تتمّ المصادقة من قبل الجانب الفرنسى. ونشبت الحرب العالميّة الثانية وهيمن الفرنسيّون المتحالفون مع ألمانيا النازيّة على البلدين حتّى أتت قوّات الحلفاء عام 1942 لطردهم وأعلن الجنرال كاترو، قائد القوّات الفرنسيّة، موافقة فرنسا على المعاهدة وبالتالى استقلال البلدين رسميّا. لكنّ التفاوض كان بعدها حول انسحاب القوّات الفرنسيّة أو الإبقاء على قواعد عسكريّة. ما كلّف البلدين اعتقال رؤساء مؤسسّاتهم ثمّ قصف المجلس النيابى السورى. ولم ينتهِ الأمر سوى فى أوّلى جلسات مجلس أمن الأمم المتحدة الذى شارك البلدان فى تأسيسه حُكما لأنّهما باتا كلاهما مستقلّين. إنّ «فيتو» من الاتحاد السوفيتى أخرَجَ القوّات الأجنبيّة من سوريا كما من لبنان.. كعلامة على انتهاء الحقبة الاستعماريّة وبداية حقبة «يالطا» لتقاسم العالم بين السوفيت والأمريكان.
***
سوريا كما مصر صادرتا وأمّمتا حينها المصالح الفرنسيّة والبريطانيّة إثر “العدوان الثلاثي” وقطعتا علاقاتهما مع البلدين التى لم تعُد سوى فى الستينيات.. بعد استقلال الجزائر. فلمَا أتى إذا قانون السريّة المصرفيّة اللبنانى؟
وفى السياق الحالى، يحتلّ قانون السريّة المصرفيّة فى لبنان صلب النقاشات حول سبل الخروج من الأزمة المالية العاصفة بالبلد. فى حين تسود سرديّة حول الأسباب التاريخيّة لإقراره، أنّه أتى بهدف استقطاب الأموال خاصّة من سوريا نظرا لاضطراباتها السياسيّة. لكن تمّ إقراره عام 1956 فى حين كانت سوريا تعيش حكما ديموقراطيّا برلمانيّا منذ 1953 وكانت الأمور فى صميم الخلاف السورى ــ اللبنانى بين الدفاع عن رؤوس الأموال الصناعيّة السوريّة (ما مثّله خالد العظم رئيس الوزراء) والدفاع عن حريّة التجارة الخارجيّة المطلقة (ما مثّله ميشيل شيحا فى لبنان). والواقع أنّ المجلس النيابى اللبنانى أقرّ قانون السريّة المصرفيّة هذا فى 26 يوليو/تموز 1956، أى بالضبط يوم تأميم قناة السويس. حدثٌ جلل ليس على المنطقة وحدها بل على المستوى العالمى. انتهى بـ«توريط» فرنسا وبريطانيا لإسرائيل فى «العدوان الثلاثى» مقابل منحها وسائل إنتاج القنبلة الذريّة وبإنهاء هذا «العدوان» بإنذارٍ سوفيتى بتوجيه ضربة نوويّة تستهدف باريس ولندن مقابل صمت أمريكى. لقد أوقِفَ العدوان وانسحبت القوّات خلال أياّم وليس أشهر. سوريا كما مصر صادرتا وأمّمتا حينها المصالح الفرنسيّة والبريطانيّة إثر “العدوان الثلاثي” وقطعتا علاقاتهما مع البلدين التى لم تعُد سوى فى الستينيات.. بعد استقلال الجزائر. فلمَا أتى إذا قانون السريّة المصرفيّة اللبنانى؟!
لن يعرف من لم يشهَد «نكسة» 1967 فى حياته ما أحسّه من ذاقَ مرارتها كبيرا أو صغيرا.. كما من «نكبة» فلسطين. لا يكفى أن تُحلِّل أسباب حصولها بعد عقود، بل الأهمّ من ذلك آثارها على «الحُلم» الجمعى فى جميع البلدان العربيّة. وما كان المقصود من حدوثها فى إطار «لعبة الأمم». لكنّ النكبة كما النكسة خلقتا فى زمانهما وعيا جماعيا.. وعيا نقديا وقاسيا على الواقع.
مرارات أحداث اليوم، من الصراع السورى وتقسيم البلاد الفعلى، إلى الأزمة اللبنانيّة وتدهور أحوال معظم البلدان العربيّة – اللهمّ إلاّ دول الخليج نسبيّا – لم تجلَب وعياً جمعيّاً نقدياً حولها، بقدر مرارتها. ما زالت قوى الهيمنة، المحليّة والخارجيّة، تنشر سرديّاتها والإعلام يروّج لها ووسائل التواصل الاجتماعى تخلط الأوراق. ويكتبُ كلٌّ تاريخه الخاص، ليس كوجهة نظر، وإنّما كوقائع وحقائق يجب تصديقها دون تمحيص.
إنّهم يطالبون المجتمع أن يتقبّل بواقعيّة.. ما يسمّونه واقعاً. وكأنّه ليس هنالك أسباب وتاريخ. وكأنّه يُمكِن تشييد المستقبَل على أرضيّة تمحى إرث المجتمع بكلّ ثرائه وتناقضاته ونجاحاته وإخفاقاته.