مع هكذا أزمة مالية كبرى، قد لا يكون من المهم البحث النظري، بل يصبح من الواجب التصدي وبقوة لمكامن الخلل وإغلاقها وإصلاح المنظومة التي سيُناط بها مهمة حماية المال العام.
وللوصول إلى هذه النتيجة يقتضي التحري عن كيفية ضياع المال العام في لبنان. وإذا عدّدنا هذه الكيفيات نجد أن من أسبابها ما يأتي:
– الخلل في تحصيل الضرائب والرسوم: حيث نجد أن الزبائنية في هذا القطاع هي الغالبة، إذ يُصار إلى تخفيض إيرادات الدولة لقاء عمولات غير مشروعة يحصل عليها الجابي، من خلال تلاعب بالفواتير أو بالقيم الحقيقية للأشياء مطرح الضريبة أو الرسم.
– الضعف في تحصيل الضريبة على القيمة المضافة، بحيث لا توجد رقابة حقيقية على جباية هذه الضريبة من المكلفين بها والذين يتقاضونها من المواطن.
– الإنفاق غير المُجدي، حيث لا زالت الموازنة مليئة ببنود إنفاق على مواد استهلاكية (أثاث ومفروشات وسيارات فارهة وضيافات وورود وبدل سفر، وهي بنود غير مُجدية ويمكن الاستغناء عنها كلياً).
– دعم مؤسسات وجمعيات لا تستحق الدعم، ورعاية أنشطة خاصة بمبالغ خيالية.
– كثرة المؤسسات العامة والبلديات التي تنفق موازنات ضخمة على أمور غير منتجة.
– دعم أنواع من السلع لم يكن من المُجدي دعمها، وبالتالي أدت إلى إهدار الملايين.
– سياسات مصرف لبنان التي ثبت فشها من خلال النتائج الكارثية للقطاع المالي والمصرفي اللبناني.
– إخراج قطاعات مُنتجة من نطاق الأموال العامة، حيث أن أي مشروع مُربح يُصار إلى تحويله إلى شركة تتولى الإنفاق وفق أحكام القانون الخاص (الميدل إيست، كازينو لبنان، إدارة واستثمار مرفأ بيروت، إدارة منشآت النفط في الزهراني وطرابلس، شركتا الخليوي).
– كثرة التراخيص بإشغال أملاك عامة بأسعار رمزية أو بالمجان (باركميتر – شركات الخدمات الأرضية – شركات خدمات الأنترنت ـ شركات المياه المعبأة) وبصورة عامة كل مشروع منتج يخصخص بصورة مجانية وتخسر الدولة عائداته.
– إهدار الأملاك العامة البحرية ووضعها ببدلات زهيدة بتصرف أصحاب النفوذ.
– إهدار الثروة العقارية الحرجية والمشاعات والتراخي في الحفاظ عليها.
– ضعف الرقابة على الصفقات العمومية بحيث تدفع الإدارات العامة عشرات اضعاف كلفة أي مشروع، وتنفيذه بطريقة غير مناسبة ما يلزم الإدارة على إعادة التلزيم مجدداً لذات المشروع.
– التنازل عن وسط العاصمة لصالح شركة سوليدير.
– الاعتماد على استئجار الأبنية، ما يكّلف الخزينة نفقات طائلة كان بالإمكان الاستغناء عنها.
– التخلي عن استيراد المواد الأساسية لصالح كبار النافذين (لا سيما المواد النفطية والأدوية) بحيث احتكروا هذه المواد وباعوها بأسعار خيالية على حساب مالية الدولة.
– إعفاء مؤسسات دينية وجمعيات من الرسوم والضرائب بالرغم من أنها تملك ثروات فاحشة ولا تحتاج إلى هذا الاعفاء.
– الصرف على مشاريع غير منتجة.
– الإنفاق المُرعب على الدراسات والاستشارات التي بمعظمها لا طائل منها، وهي مجرّد تنفيعة للجهات المكلفة بالدراسات أو سماسرتها.
– إخراج هيئات ومؤسسات العامة عديدة من رقابة ديوان المحاسبة المسبقة.
من المسؤول؟
هذه عينة من وسائل ضياع الأموال العامة، والتي تُظهر أن الدولة ليس لديها أم حنون تبكي عليها، ولا أب صالح يُحسن رعايتها. وبعد كل هذا الخراب فعلى من تقع المسؤولية؟
المسؤولية الأولى تقع على مجلس النواب، للأسباب الآتية:
1- من خلال موافقته المسبقة على الموازنة التي تتضمن كافة بنود الإنفاق، أو من خلال إجازته للحكومة الاقتراض، أو من خلال موافقته على مشاريع قوانين متصلة بالانفاق على إدارة مرافق عامة أو موافقته على سلف الخزينة، أو موافقته على إنشاء مؤسسات عامة غير منتجة.
2- من خلال التراخي في قطع حساب الموازنة، بحيث لا يوجد قطع حساب للموازنة العامة في لبنان منذ العام 1993 بل الغريب العجيب أن يُصار إلى دراسة ومناقشة موازنة العام 2022 دون أن ينتبه أحد أنه لم يُصرّ لا إلى إقرار موازنة العامة2021 ولا إلى قطع موازنتها وذلك بتجاهلٍ كامل للثوابت التي أطلقها المجلس الدستوري حول وجوب إقرار قطع حساب الموازنة قبل مناقشة الموازنة.
3- عدم الجدية في الرقابة على تنفيذ الموازنة، إذ لا يفترض بمجلس النواب انتظار انتهاء السنة المالية لكي يراقب تنفيذ الإدارات العامة للموازنة، بل إن مراقبته لهذا التنفيذ يفترض أن تكون دائمة، فله أن يتدخل من خلال طرح الثقة بالوزير أو بالحكومة، أو يمتنع عن إقرار قوانين القروض أو سلف الخزينة أو ما شابه من قوانين ذات أعباء مالية ضخمة دون التحقق من جدواها ووضع الضوابط لأصول الانفاق. وأذكر أن أحد النواب صرّح بعد إحدى الجلسات التشريعية (من العام 2019) أنه عند الوصول إلى بند الإجازة للحكومة الحصول على قرض بقيمة 150 مليون دولار لتنفيذ أعمال صيانة شبكة الصرف الصحي في قضاء المتن، وقد اعترض النائب بأن الشبكة لا تحتاج إلى صيانة ولا مبرر لهذا القرض في ظلّ الأزمة المالية، فكان جواب رئيس الحكومة “أنا حضرت الجلسة لأجل إقرار هذا القرض، فإذا لم يقرّ سأغادر الجلسة، وبالفعل وافق مجلس النواب على منح قرض لا وجوب له.
الدولة ليس لديها أمٌ حنون تبكي عليها، ولا أب صالح يُحسن رعايتها. وبعد كل هذا الخراب المسؤول الأول عن هدر المال العام هما مجلس النواب ومجلس الوزراء
بحسب ما تقدّم تقع المسؤولية الأولى على مجلس النواب، إن من خلال الإجازة المُسبقة للحكومة بالإقتراض أو الخصخصة غير المُجدية، أو منح التراخيص أو تحويل العاصمة إلى ملك شركة أو دفع سلفات الخزينة للكهرباء وغيرها أو إقرار الإعفاء من الضرائب والرسوم، أو بسبب التراخي في ممارسة وظيفته الرقابية وبالتساهل في مسألة قطع حساب الموازنة.
المُناكفات السياسية مهدٌ للفساد
أما الجهة الثانية التي تقع عليها المسؤولية فهي مجلس الوزراء بوصفه القيادة السياسية والإدارية صاحبة القرار الأول في إطار إدارة المرافق العامة والإنفاق على أمور تسييرها. إلا أننا نعاني من فقدان قدرة هذا المجلس على التقرير لإنشغال معظم الحكومات بالمنازعات والخلافات بين أعضائها، واكتفائها بالقرارات الترقيعية دون التخطيطية والإستراتيجية. وهذا الانشغال بالمُناكفات والصراعات السياسية فتح ثغرة تسلل منها الفساد الذي يحسن استغلال الظروف السياسية المضطربة كبيئةٍ مفضّلة لأنشطته. ولأن مجلس الوزراء ليس على موقفٍ موحد، فلقد أدى ذلك إلى تحوّله إلى مجلس تقاسم منافع بين أعضائه وأطلق أحدهم عليه تسمية “الهيئة الناظمة للفساد”، بل وقالها أحد الوزراء صراحة إن الوزراء متفقون في ما بينهم على مخالفة القانون.
في الخُلاصة، المسؤول الأول عن هدر المال العام هما مجلس النواب ومجلس الوزراء. فأجهزة الرقابة تقف في حدود المساءلة عندهما إذ أنها أداة تطبيق للقانون. فلا النيابة العامة المالية ولا ديوان المحاسبة ولا التفتيش المركزي ولا هيئة مكافحة الفساد قد ينجحوا في الحد من ظاهرة هدر المال العام أو وقفه أو مساءلة المعتدين عليه. هذا عدا عن أن هذه الأجهزة لا تستطيع مساءلة جهة نفّذت القانون أو نفذت قرارات مجلس الوزراء.
ولهذا فإن إصلاح مؤسستي مجلس النواب ومجلس الوزراء وتفعيل دورهما في حماية المال العام سوف يؤدي إلى انتظام عمل الإدارات العامة، وسوف يُسهّل على أجهزة الرقابة القيام بدورها بعد رفع الغطاء التشريعي والتنظيمي عن المرتكبين.