2022 بين ديمقراطية أمريكا.. وأنظمة الإستبداد

شكّك الكثيرون من الخبراء والمعلقين والسياسيين فى بداية عام 2022 فى مستقبل واستقرار النظم الليبرالية الديمقراطية الغربية، والتى تأتى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما مع زيادة بريق نماذج الحكم الاستبدادى المنضبط كما فى روسيا أو الصين. إلا أن نهاية عام 2022 جاءت بنتائج عكسية؛ إذ ظهرت متاعب حقيقية أمام النظم الاستبدادية، بينما نجحت النظم الديمقراطية فى الخروج بأمان نسبى من تبعات أزمة انتشار وتفشى فيروس كوفيدــ19، فضلا عن تداعيات الغزو الروسى لأوكرانيا.

حملت بداية العام شكوكا حول نماذج الحكم الديمقراطية الغربية، نبعت بالأساس من الضربة الكبيرة التى تلقتها الولايات المتحدة الأمريكية التى تعد قلب التجربة الديمقراطية الأهم فى عالم اليوم؛ إذ حاول رئيسها السابق عرقلة الانتقال السلمى للسلطة بعدما خسر انتخابات عام 2020، وهو ما شكك فى نزاهة العملية الانتخابية ذاتها، وفعالية التصويت، فضلا عن نزاهة القضاء وسيادة القانون. ودفع رفض الرئيس السابق «دونالد ترامب» قبول نتيجة الانتخابات الآلاف من أنصاره لاقتحام مبنى الكابيتول فى محاولة لعكس نتائج الانتخابات.
إلا أن موقف أغلب الساسة الجمهوريين أنقذ الديمقراطية الأمريكية من محاولة اختطافها، وعاد الاستقرار سريعا للعملية السياسية والانتخابية، وهو الأمر الذى ظهر بوضوح فى السلاسة والروتينية التى جرت بها الانتخابات النصفية فى نوفمبر/تشرين الثاني الماضى. ولا يجب أن يفهم من هذا غياب الاستقطاب الحاد بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى، أو انتهاء الإرث السياسى للرئيس السابق «ترامب»؛ إذ ما يزال مرشحا لانتخابات 2024 الرئاسية.

***

بالمقارنة مع طرق تعامل الأنظمة الاستبدادية فى روسيا والصين مع أزماتها ومشكلاتها التى تندلع بالأساس من طبيعة الحكم المستبد والفردى، ثَبت أن الأفضل للمجتمعات هو التمتع بنعمة سيادة القانون والحريات والشفافية، بالرغم مما بها من عوار

اتبعت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الديمقراطية سياسات شفافة فى مواجهة الفوضى الكبرى التى نتجت عن إغلاقات الاقتصاد والمجتمع بسبب فيروس كورونا؛ إذ إنه بالرغم مما شهدته تلك الدول من ارتفاع فى أعداد الإصابات والوفيات، وما صاحبها من اضطرابات اقتصادية واجتماعية وسياسية، لكنها فى الأخير نجحت فى مواجهة كل هذا، ووضعت نهجا للتعامل مع فيروس كورونا الذى لم يختفِ تماما.. وربما لن يختفى أبدا.
وخلال عدة سفريات داخل الولايات المتحدة الأمريكية أخيرا، وبينما يمكن ملاحظة وجود بعض المسافرين والمسافرات يرتدون كمامة الوجه الصحية احترازا، فإن السفر والتحرك بين الولايات قد عاد إلى طبيعته، وانتظم حضور الطلاب إلى المدارس، وممارسة الأنشطة الرياضية، وعادت الحياة كما كانت عليه قبل ظهور فيروس كورونا.. بحلوها ومرها.
وعلى النقيض مما تشهده الولايات المتحدة الأمريكية والدول الديمقراطية، تشهد الصين حاليا فوضى كبيرة ونسبة إصابات مرتفعة للغاية بسبب اتباع سياسات قمعية لمواجهة انتشار وتفشى فيروس كورونا؛ لا سيما من خلال تبنى الحكومة الصينية سياسة صفر كوفيد Zero Covid الصارمة، التى طالب بفرضها الرئيس «شى جين بينج»، وانتهت بفشل ذريع مصحوب بخروج الآلاف من الشعب الصينى فى مظاهرات غير مسبوقة مطالبين بتغيير تلك السياسات، وهو ما كان.. ولا يوجد تفسيرات حول سبب قيام الرئيس الصينى بتبنى هذه الاستراتيجية لمواجهة الوباء، وهى السياسة التى غيّرتها الحكومة جذريا بعد وقوع الاحتجاجات الشعبية، وأعلنت عن فتح جزئى للاقتصاد ورفع احترازات السفر والحجر الصحى وارتداء كمامات الوجه، فى وقت يتوقع فيه المسئولون الحكوميون وصول الوفيات والإصابات بفيروس كوفيدــ19 إلى أرقام قياسية، قدّرها البعض بموت عشرات الملايين خلال العامين المقبلين!
ومع استمرار امتلاك الصين نظاما صحيا متواضعا فى إمكانياته للتعامل مع 1.4 مليار من البشر، حدث ارتفاع كبير جدا فى إصابات الفيروس، وهو ما جدّد الإغلاقات فى عدد من مراكز البلاد. كما تسبب استكبار الحزب الشيوعى الصينى على الاستعانة باللقاحات التى توصل إليها الغرب وأثبتت فعاليتها الكبيرة، مثل فايزر وموديرنا وأسترازينيكا وغيرها، فى عدم وجود مناعة كبيرة بين الشعب الصينى، وذلك بالرغم من تلقيه اللقاح الصينى والذى ظهرت فعاليته المحدودة.
وبعدما توقع الكثير من الخبراء تخطى الاقتصاد الصينى نظيره الأمريكى خلال العام 2023، أصبح ذلك الآن من أحاديث الماضى.

***

يدعم الكثيرون حول العالم الغزو الروسى لأوكرانيا لأسباب مختلفة، إلا أنها تظل أسبابا غير مقنعة. وتمنى البعض أن يكون الغزو الروسى سريعا وحاسما، يتزعزع معه النموذج الديمقراطى الغربى، خاصة فى الوقت الذى لا يمكن للولايات المتحدة ولا حلف الناتو التدخل عسكريا لنجدة أوكرانيا.
لا يعرف أحد كيف اتخذ الرئيس الروسى قراره بغزو أوكرانيا، أو كيف كانت المداولات حوله، خاصة فى الوقت الذى يُقتل فيه الكثير من معارضى الغزو الروسى بين أبناء النخبة الروسية المالية والاقتصادية، ودفع الغرب لتقديم الدعم لأوكرانيا، بما أطال أمد الحرب التى اقتربت من عام كامل دون وضوح طريق أو آلية لإنهائها..
تصور الخبراء العسكريون أن يحسم الجيش الروسى القتال خلال أسابيع قليلة، إلا أن هذا لم يحدث، بل تطور الأمر إلى مواجهات عسكرية كبيرة أسفرت عن مقتل الآلاف من الجنود الروس والأوكرانيين، لجأ بعدها الكرملين إلى ضرب البنية التحتية الأوكرانية من محطات طاقة وكهرباء ومياه من أجل إذلال الأوكرانيين خلال فصل الشتاء، دون أن يسفر ذلك عن تحقيق انتصارات عسكرية ضخمة فى الوقت ذاته، بل زادت متاعب الشعب الروسى الاقتصادية والحياتية بسبب العقوبات المفروضة على روسيا.

أثبت عام 2022 أن الانتخابات الحرة النزيهة المتكررة هى حجر الأساس للقوة الأمريكية، وذلك على عكس ما يعتقده الحكام المستبدون فى روسيا والصين وغيرهم حول العالم

بالإضافة إلى هذا، دفع الغزو الروسى لأوكرانيا دولتى السويد وفنلندا بتقديم طلب للحصول على عضوية حلف الناتو، ومطالبة ألمانيا بشراء طائرات Fــ35 المتقدمة، مع تعهد ببناء الجيش الأكبر فى أوروبا خلال أربع سنوات.

إقرأ على موقع 180  تل أبيب عن غاراتها السورية: خيارات إيرانية ضيّقة.. و"فرصة أميركية"

***

تتخبط الديمقراطيات، وتمر بأزمات متعددة، ولكنها فى النهاية تثبت جدارة فى مواجهتها، وتتعلم من أخطائها، وتعدل سياساتها. ولكن على النقيض، وبالمقارنة مع طرق تعامل الأنظمة الاستبدادية فى روسيا والصين مع أزماتها ومشكلاتها التى تندلع بالأساس من طبيعة الحكم المستبد والفردى، ثَبت أن الأفضل للمجتمعات هو التمتع بنعمة سيادة القانون والحريات والشفافية، بالرغم مما بها من عوار. وفى الوقت الذى تنظر فيه بكين وموسكو إلى الانتخابات الأمريكية على أنها فرصة لمحاولة تقويض مكانة الولايات المتحدة الأمريكية العالمية، وزرع الشقاق داخل واشنطن، والتأثير على صنع القرار وعلى الناخبين الأمريكيين، أثبت عام 2022 أن الانتخابات الحرة النزيهة المتكررة هى حجر الأساس للقوة الأمريكية، وذلك على عكس ما يعتقده الحكام المستبدون فى روسيا والصين وغيرهم حول العالم.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  العالم يتغير.. من "الإمبراطورية" إلى "كاريش"!