هناك رهان غربى على إطاحة “بوتين” وإذلال روسيا نفسها، لكنه شبه مستحيل.
عندما تتوقف الحرب فإن نتائجها السياسية سوف تحسم إلى حد كبير طبيعة النظام الدولى الجديد وموازين القوى فيه، كما مستقبل كل اللاعبين الكبار على مسارح النيران، وأولهم «بوتين».
فى اللحظة الراهنة فإن هناك وجهين متناقضين للكرملين فى إدارة الحرب.
الأول، وجه عسكرى يلوح بالقوة المفرطة لتحطيم الطرف الآخر ودفعه للتسليم بكل ما تطلبه موسكو لوقف الحرب.. وفيه توجه للمضى قدما فى سباق التسلح مع الولايات المتحدة وحلف «الناتو» بالإعلان عن فرقاطة مسلحة بصواريخ فرط صوتية مستعدة للدفاع عن الأراضى الروسية.
الثانى، وجه إنسانى يدعو لهدنة موقوتة فى عيد الميلاد حتى يتسنى للمواطنين الأوكرانيين الذهاب إلى الكنائس بسلام.. وفيه استعداد لوقف إطلاق النيران إذا ما بدأت مفاوضات حقيقية وفق شروط مقبولة.
التناقض مقصود لحلحلة الوضع المأساوى الذى وصلت إليه الحرب الأوكرانية فى إنهاك الأطراف المنخرطة فيها بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، دون استعداد فى الوقت نفسه للتراجع خطوة واحدة حتى لا يكون تسليما بأهداف الطرف الآخر.
الشروط المعلنة من الجانبين لوقف الحرب تكاد تجعل من المستحيل التوصل إلى أية تسوية فى الأفق المنظور.
لا روسيا بوارد التراجع عن ضم أربع مناطق أوكرانية لها، وإلا فإنها هزيمة سياسية تضع «بوتين» فى وضع كارثى أمام شعبه.
ولا الولايات المتحدة وحلف «الناتو» سوف يتراجعون عن طلب إزعاج روسيا على حدودها وإلا فإنها الهزيمة الاستراتيجية.
قرب نهاية العام الماضى كان لافتة للإنتباه التصريحات غير المعتادة فى درجة تشددها وحدة لغتها التى أطلقها الرئيس الروسى السابق «دميترى ميدفيديف» عن مسار الحرب ومستقبلها والاستراتيجية التى ينبغى أن تتبعها موسكو وتنبؤاته لما قد يحدث فى المستقبل.
بالنظر إلى موقعه الحالى نائبا لسكرتير مجلس الأمن القومى الروسى، الرجل الثانى بعد «بوتين»، فى أعلى وأقوى هيئة سياسية وأمنية روسية، فإن تصريحاته تكتسب أهميتها ورسائلها.
خروجه إلى الضوء مجددا بدا مثيرا بذاته وتصريحاته المتشددة استدعت تساؤلا غربيا عن دواعى تحولاته من «تكنوقراطى لطيف ودود مع الغرب إلى صقر حرب مجنون؟»، بتعبير مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية.
أدى “ميدفيديف” دوره بانضباط كامل تحت ظل «بوتين»، لكنه أعطى رسالة للغرب أنه أميل إلى علاقات أفضل معه، وأكثر سماحة وليبرالية. هذه المرة ربما يفكر «بوتين» فى إسناد الرئاسة إليه لكن بصورة مختلفة، تحت سقف «البوتينية» لا بشراكة شكلية كما جرى سابقا
لم يكن من الصعب استنتاج أنه يهيئ نفسه لدور فى المستقبل بعد أكثر من عقدين لـ«بوتين» فى السلطة.
إذا وضعنا فى الاعتبار أن «بوتين» يفكر حسب تقارير أولية فى عدم التمديد لرئاسته بالانتخابات المقبلة عام (2024) واستحداث منصب جديد تعلو كلمته فوق كلمة الرئيس دون أن يكلّف نفسه مهامَّ تنفيذية، فإن «ميدفيديف» هو خليفته المنتظر.
نحن أمام إعادة تأهيل جديدة لـ«ميدفيديف» ودوره والصورة التى يجب أن يكون عليها، صقرا جديدا فى الكرملين يضمن استمرار «البوتينية السياسية» تحت قباب الكرملين.
«ميدفيديف» آخر غير «ميدفيديف» القديم.. مخالب الصقر لا أجنحة الحمام.
فى المرة الأولى، التى تولى فيها الرئاسة الروسية بين عامى (2008 ــ 2012) بدا خيارا مأمونا للزعيم الروسى لتجاوز العائق الدستورى الذى لم يكن يسمح فى ذلك الوقت برئاسة ثالثة على التوالى.
أدى “ميدفيديف” دوره بانضباط كامل تحت ظل «بوتين»، لكنه أعطى رسالة للغرب أنه أميل إلى علاقات أفضل معه، وأكثر سماحة وليبرالية.
هذه المرة ربما يفكر «بوتين» فى إسناد الرئاسة إليه لكن بصورة مختلفة، تحت سقف «البوتينية» لا بشراكة شكلية كما جرى سابقا.
نحن أمام صقر جديد، يتحدث بأكثر مما هو معتاد من رجال الكرملين الآخرين، يرسم خطوطا عريضة فى إدارة الصراع على وجهيه العسكرى والسياسى، ولم يكن ذلك ممكنا دون أن تكون هذه هى أفكار «بوتين» نفسه.
مالت تصريحاته عن صورة العالم (2023) إلى التشاؤم المفرط فنحن «على شفا حرب عالمية ثالثة، أو كارثة نووية».
كان ذلك تلويحا جديدا بالخيار النووى، بعدما توقفت موسكو عن الإشارة إليه تصريحا أو تلميحا.
التلويح به من جديد رسالة إلى الغرب، أن روسيا لن تتراجع تحت أى ظرف وأيا كانت العواقب، إلا إذا حصلت «على ضمانات أمنية تناسبها» ــ كما قال نصا.
الكلام فيه تشدد غير معتاد من صاحبه وطلب ضمنى بالتهدئة للتوصل إلى حلول سياسية وأمنية، لكنه أكد حتى لا تفهم رسالته على نحو خاطئ أن أهداف العملية العسكرية الروسية، التى أطلقت قبل نحو عام، «سيتم تحقيقها».
«النظام الحالى فى كييف لن يكون له وجود».
كان ذلك التصريح داعيا للتساؤل عما إذا كان ورقة تفاوضية أم خيارا استراتيجيا.
«الاتصالات مع أوكرانيا عبثية»، بدا ذلك التصريح كأنه يغلق باب التفاوض.
هذا استنتاج متسرع، فموسكو المنهكة تحت ضغط الحرب وخسائرها والعقوبات المفروضة عليها تطلب التسوية، لكنها لا تريد أن تتراجع عن مطالبها الأمنية التى دعتها للتدخل.
الأمر نفسه على الجانب الآخر، فالولايات المتحدة غير مستعدة لأى تراجع عن مطالبها الأساسية لكنها تحت ضغط ما يتعرض له تحالفها من إنهاك سياسى واقتصادى وعسكرى تريد وضع نهاية للحرب.
«أوكرانيا بلد ضائع يبحث عن هويته، وقياداتها أشخاص لا يتمتعون بهوية ذاتية مؤكدة».. «يجهلون أصولهم التاريخية ومن أى أعراق انحدروا، حائرون أمام احتمالات أن يكونوا أوكرانيين أم أوروبيين أو تتار أو مجريين أو يهود».
«أوكرانيا سوف تختفى».
كان ذلك توقعا أقرب إلى نوع من التعسف فى قراءة التاريخ الأوكرانى وتعقيدات الموقف الحالى.
أراد بتصريحاته أن يثير قدرا من الرعب الفكرى والسياسى والاستراتيجى متوقعا فى السياق انهيار الاتحاد الأوروبى ودخول الولايات المتحدة فى حرب داخلية.
هناك أساس ما يسند توقعاته، لكنه حملها على أمنيات مفرطة.
يتوقف الصعود المحتمل لـ«ميدفيديف» على تطورات الحوادث فى الحرب الأوكرانية.
إذا ما صبت نتائج الحرب بدرجة أو أخرى لصالح «بوتين» فإن صعوده سوف يأخذ مداه تحت سقف «البوتينية السياسية».
(*) بالتزامن مع “الشروق“