تُمثل برلين العاصمة الأولى خارج الإقليم التي يزورها محمد شياع السوداني منذ توليه منصبه في اكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ سبق له أن حطّ في عدد من عواصم دول الجوار العراقي، وتحديداً في إيران والسعودية والكويت والأردن وقطر (نهائي مونديال قطر). وستكون ألمانيا بذلك، النافذة التي سيُطل بها السوداني، بصفته رئيساً للحكومة، على الإتحاد الأوروبي والعالم، حتى قبل زيارتيه الرسميتين المتوقعتين الى كل من باريس وواشنطن، علماً أن إيطاليا كانت أول دولة أوروبية تبادر، مع بدء ولاية السوداني، من خلال زيارة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني إلى بغداد قبل نهاية السنة الماضية.
ومن الضفة المقابلة، تبدو ألمانيا توّاقة لإستقبال ضيفها العراقي الإستثنائي، الخارج لتوه من أتون الأزمة السياسية الأقسى التي تشهدها بلاده في السنوات الماضية، حاملاً الثقة السياسية الكافية من القوى البرلمانية، ليخوض معركة استعادة هيبة الدولة واستقرارها، وإصلاحها أيضاً، بعد سنوات الارهاب الدموية واضطرابات التناحر السياسي.
وهي ألمانيا أولاً، برغم أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كان سبّاقاً في دعوة السوداني في 4 ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى زيارة باريس، بينما وُجّهت الدعوة الألمانية بعدها بعشرة أيام، ما يشير إلى أن رئيس الحكومة العراقية يُدرك أهمية الدخول إلى الإتحاد الأوروبي عبر البوابة الألمانية، إذ لطالما كانت برلين، سواء في عهد أنجيلا ميركل أو جيرهارد شرودر، وما قبلهما، هي الرافعة الفعلية للتكتل الأوروبي، سياسياً واقتصادياً، بل إن البعض يتهمها بأنها المُتحكم الرئيسي بالإتحاد الأوروبي وتوجهاته.
ولهذا، ربما، يذهب السوداني إليها أولاً، مدركاً أن هذه البلاد الأكبر سكانياً داخل الإتحاد الأوروبي (27 دولة)، والمساهم الأكبر في ميزانيته، والأقوى إقتصادياً داخله حيث تحقق وحدها 20% من الناتج القومي لدول الإتحاد مجتمعة، وتستند على قاعدة صناعية قلّ نظيرها في العالم، وهي كلها عوامل تمنح الألمان اليد الطولى في رسم السياسات الأوروبية وتحديد أولوياتها.
يعني ذلك في ما يعنيه، أن السوداني يأتي إلى أوروبا من بابها العريض. وفي ذاكرته وذاكرة العراقيين أيضاً، أن ألمانيا، ليست ملطخة بالدم في العراق، وهي كانت وفي سياق جهودها الدؤوبة من أجل صياغة هوية أوروبية مشتركة ومستقلة عن التجاذبات الدولية، واضحة في اعتراضها على ما أسمته “المغامرة” الاميركية-البريطانية لغزو العراق في العام 2003، وقال المستشار الالماني وقتها جيرهارد شرودر إن “دبلوماسية التوقيع على شيك أبيض ولّت بلا رجعة”، مؤكداً بذلك أن برلين لن تساهم في الحرب، لا بالجنود ولا بالأموال.
السوداني: العراق بمقدوره أن يلبي احتياجات ألمانيا والسوق العالمية بسبب قدراته وخططه المستمرة لزيادة الاستثمارات في قطاع النفط والغاز.. والمباحثات في برلين لن تقتصر على قضية الإستثمار في قطاع الغاز، بل ستطال أيضاً تعزيز حضور الشركات الألمانية، وخصوصا شركة “سيمنز” في قطاع الكهرباء في العراق
ولهذا، يبدو أنه سيكون من الملائم بالنسبة إلى محمد شياع السوداني، وهو يحاول السير بالعراق آمناً من حقول الألغام الاقليمية والدولية، أن يستهل اطلالته الأوروبية-الدولية الأولى، من العاصمة الألمانية، التي لم تتخل عن العراقيين عندما اجتاحتهم موجة الإرهاب الداعشي قبل نحو 9 أعوام.
ينعكس ذلك بوضوح في حضور الشركات الألمانية في الاقتصاد العراقي، حيث تشير التقديرات الألمانية إلى أن هناك نحو 40 شركة ألمانية عاملة بشكل مباشر في العراق، وبالاجمال هناك نحو 250 شركة ألمانية ممثلة بشكل أو بآخر في السوق العراقية.
وفي رده على سؤال من صحيفة “بيلد” الألمانية قبل بدء زيارته للقاء المستشار الالماني أولاف شولتز، وما إذا كان من الممكن للعراق أن يكون شريكاً لألمانيا في الغاز مستقبلاً، قال السوداني إن العراق بمقدوره أن يلبي احتياجات ألمانيا والسوق العالمية بسبب قدراته وخططه المستمرة لزيادة الاستثمارات في قطاع النفط والغاز. ويقول السوداني أيضاً إن مباحثاته الألمانية لن تقتصر على قضية الإستثمار في قطاع الغاز، وستطال أيضاً تعزيز حضور الشركات الألمانية، وخصوصا شركة “سيمنز” في قطاع الكهرباء في العراق.
ومعلوم أن معاناة العراقيين من العجز الكهربائي هائلة، ولهذا فإن إعادة تمهيد الطريق أمام “سيمنز” الألمانية من برلين نفسها، لاقتحام هذا الملف المستعصي على الحلول الحاسمة، يتناغم تماماً مع الزيارة الأولى إلى الخارج التي قادت السوداني إلى العاصمة الأردنية عمان في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث تتواصل خطط الربط مع الشبكات الكهربائية للأردن.
توحي هذه الحركة باتجاه المانيا، كما مشاركته في القمة العربية-الصينية في الرياض، ومؤتمر “بغداد-2” في الاردن، ان السوداني يعول على الورقة الإقتصادية، إدراكاً منه أن الحاجة لتخفيف الآلام العراقية، صارت أكثر من مُلحة.
للزيارة الألمانية للسوداني دلالات رمزية، ذلك أن برلين كانت ساحة لتجاذبات صراع الحرب الباردة طوال عشرات السنين، وانتهى بها الأمر موحدة، وفي الريادة أوروبياً وعالمياً. السوداني في مقابلته مع “بيلد” كمن يستعيد شيئاً من هذا التاريخ، ويختصر أهداف زيارته بالقول “العراق لن يكون طرفاً في سياسة المحاور في المنطقة والعالم، ويعتمد مبدأ العلاقات المتوازنة مع دول الجوار، ويطرح أفكاراً لتحقيق شراكات اقتصادية ليكون نقطة التقاء لدول المنطقة”.