في هذا السياق، تندرج محاولة إيران تكريس نفسها قوة إقليمية، عبر تدخلها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وسعي تركيا، عبر سياسة الخروج من الأسوار، إلى التدخل في نزاعات عدة مثل سوريا وليبيا وأوكرانيا. ثم روسيا التي سال لعابها بعد تدخلها في سوريا، فزاد طموحها وتدخلت في ليبيا، ثم شنّت حربها العبثية على أوكرانيا لفرض نفسها قطباً عالمياً. ثم جاء دور الصين التي وجدت نفسها مدفوعةً دفعاً لأن تتخذ من استفزازها في مسألة جزيرة تايوان، فرصةً لتغيير استراتيجياتها السابقة، والاستعانة بالقوة العسكرية لدعم امبرياليتها الناعمة وتسليحها، مقدمةً لتغيير نهجها السلمي في السياسة الدولية.
غير أن الأيام القليلة الماضية جلبت معها تطوراً لافتاً للإنتباه وخطيراً لمنطقة جنوب شرق آسيا، تمثَّل بقرار اليابان تغيير استراتيجيتها السلمية وعقيدة التسلح التي تبنتها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فقرّرت زيادة الانفاق العسكري وضخ القوة في عروق جيشها الذي تبنَّى التوجه السلمي وعدم العسكرة وعدم التدخل في النزاعات منذ وضعت طوكيو دستوراً سلمياً قبل 75 سنة، حدَّ من قدرتها على بناء جيشٍ قوي، وهي السياسة الجديدة التي سبقتها إليها ألمانيا بعد فترة قصيرة من غزو أوكرانيا. وفي هذا الإطار، ستزيد اليابان إنفاقها الدفاعي ليصل إلى نسبة 2% من اقتصادها، من أجل مواجهة التحديات التي ظهرت قرب حدودها بعد تزايد نشاط الجيش الصيني قرب تايوان، وفي مواجهة الصواريخ الروتينية التي تطلقها كوريا الشمالية فوق بحر اليابان، كما قال مسؤولوها.
وتقتضي استراتيجية اليابان الجديدة التي يقول المسؤولون اليابانيون إنها استراتيجية “هجوم وقائي”، بأن تضخ طوكيو حوالي 300 مليار دولار، عبر شراء أنظمة صواريخ قصيرة وبعيدة المدى، وغيرها من الأسلحة الهجومية، وهو ما سيزيد سوق السلاح الأميركية اتساعاً، علاوة على دخول اليابان في حلف “كواد” الرباعي مع الولايات المتحدة واستراليا والهند، وهدفه “الحد من سعي الصين لمد نفوذها” ووجودها العسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادىء. وفي السياق نفسه، نظّم الأميركيون، نهاية يوليو/تموز الماضي، في سيدني، اجتماعاً لوزراء دفاع 26 دولة واقعة في منطقة المحيطين، هدفه، كما صرح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي “دراسة الوضع في ظل صعود الصين”.
بالنسبة للصين، فإنها ترى في خطوات واشنطن، وبينها إبرام صفقة أسلحة مع تايوان بقيمة 1.1 مليار دولار، في 2 سبتمبر/ أيلول الماضي، وقبلها زيارات مسؤولين غربيين (نواب فرنسيين وأميركيين) إلى الجزيرة، وبينهم رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، “محاولةً لتقويض قرارها بإعادة الجزيرة إلى الحضن الصيني”.
لم يكن نيكسون يعرف أنه بعد عقود من التطور التكنولوجي والصناعي، ستضيق الأسوار التي تحيط بالصين على هذه القوة التي اكتنزت التطور في كل أوجه النشاط الإنساني المتاح. كما تغيرت ملامح النظام فيها، حتى بدا أقرب إلى النظام الرأسمالي منه إلى الاشتراكي. كما لم يكن ليتخيل أن تتحول تلك الرأسمالية إلى منافس للرأسماليات في عقر دارها
هذه المناخات سرّعت وتيرة اندفاعة الصين لإستعراض قدراتها العسكرية البحرية والجوية والصاروخية، عبر سلسلة مناورات هي الأولى من نوعها حول الجزيرة. وإذ قال محللون إن الأمر “يتجاوز المناورات التقليدية”، تشي الوقائع أنه جرى خلال المناورات إطلاق ذخيرة حية، تحاكي إمكانية فرض حصار بحري وجوي على الجزيرة، وذلك للتأكيد على جاهزية الصين لفرض سيطرتها التامة عليها عندما ترى أن سعي واشنطن لمزاحمتها على ما تعده أرضاً ومناطق نفوذ لها، تجري محاولة ترجمته عملياً على الأرض.
وكان لافتاً للإنتباه خلال تلك المناورات، إطلاق الصين صواريخ بالستية متوسطة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية. وفي هذا رسالة مفادها إن الصين المسالمة يمكن أن تتحول إلى قوة عسكرية قادرة على مقارعة خصومها.
في أي خانة إستراتيجية يمكن وضع هذه الخطوات الأميركية؟
إذا عُدنا إلى زيارة الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، إلى الصين سنة 1979، فإن مواقفه تعكس نظرة الولايات المتحدة إلى الصين في ذلك الوقت. حينذاك، قال نيكسون إنه ليس ممثل امبراطورية تُفتش عن عوالم أخرى لتحتلها، “بل رجل دولة يسعى للحفاظ على توازن عالمي للقوة، بحيث تكون بقية الدول الأخرى بأمانٍ كدولته”. وأضاف نيكسون في كتاب “مذكرات الرئيس نيكسون: الحرب الحقيقية” (دمشق، 1983): “فإذا ما سادت هذه النظرة خلال القرن المقبل، ستكون الصين في الواقع (دولة عظمى ومتقدمة)، وقوة سلام عظيمة القدرة في العالم، وإذا ما أظهرنا بأننا شركاء أقوياء، ويمكن الوثوق بنا من أجل الحفاظ على الأمن، ستكون هناك فرصة أفضل بأن تلك النظرة ستسود”. يومها، كان اهتمام قادة الصين منصبّاً على الأمن، كما أفاد نيكسون.
لم يكن نيكسون يعرف أنه بعد عقود من التطور التكنولوجي والصناعي، ستضيق الأسوار التي تحيط بالصين على هذه القوة التي اكتنزت التطور في كل أوجه النشاط الإنساني المتاح. كما تغيرت ملامح النظام فيها، حتى بدا أقرب إلى النظام الرأسمالي منه إلى الاشتراكي الذي يرفعه الحزب الشيوعي الحاكم فيها شعاراً. كما لم يكن ليتخيل أن تتحول تلك الرأسمالية إلى منافس للرأسماليات في عقر دارها، وعلى أسواقها ومصادر ثرواتها وموادها الأولية. وإذ قال نيكسون في أحد فصول الكتاب: “القوة هي المقدرة على جعل الأمور تأخذ مجراها، والتأثير على الحوادث لرسم مسار التاريخ، فبعض أنواع القوة يمكن أن تطبق بفاعلية على المدى القصير، وبعضها الآخر يحتاج لأجيال من الزمن كي يفعل ذلك”، ويضيف: “فالصينيون، بصورة تقليدية، يفكرون على أساس عصور ألفية”. إلا أنه ومهما بلغ به الخيال، لم يكن ليتخيل أن تتحول هذه البلاد إلى قوة امبريالية، تسيطر على أسواق كبيرة في أنحاء العالم، وتستغل ثروات دولٍ، وتتحكم في أنظمة دول أخرى، من دون أن تطلق رصاصة واحدة، إنسجاما مع نهجها السلمي في علاقاتها الدولية.
غير أن عروض القوة الأميركية في الآونة الأخيرة تشي بأن إمكانية وثوق الصين بالأميركيين “من أجل الحفاظ على الأمن”، الذي تحدث عنه نيكسون، لم تعد موجودة. وإذا كان الغرض من هذه النشاطات الأميركية المحمومة حول الصين وتايوان هو التحرش بالصين ومحاولة إخافتها لفرض بعض الشروط الأميركية عليها، أو حتى دفعها لتقديم تنازلات، من المرجح أن تفشل تلك المحاولات. على العكس، قد تتخذها الصين ذريعةً لتسليح امبرياليتها التي تمخضت عن احتكاراتها وشركاتها القابضة عابرة القارات. فإذا انتقلت الصين إلى استغلال تطورها التكنولوجي في صناعة السلاح، قد تصبح قوة تخشى أميركا وباقي حلفائها من مد أياديهم إلى وكرها، اتقاء للسعاتها. حينها يكون المرتجى من زيارة نانسي بيلوسي وإنشاء التحالفات الأميركية قد أعطى مفعولاً عكسياً، لا سيما إذا كرّس الصين قوة عسكرية مُهابة.