القضاء اللبناني بين حدي الإنكسار أو الإنتصار

بالأمس، كان لبنان على موعد مع حدث مهم وخطر جداً. ملف التحقيق مع حاكم مصرف لبنان المركزي، رياض سلامة، بدأ يشق طريقه الصحيح نحو القضاء، وذلك بعد طول مماطلة وتسويف من قبل بعض القُضاة المتواطئين وسلطة سياسية كابحة ومانعة لأي تقدّم أو تسهيل لهكذا خطوات.

هذه التطوّرات مهمة وتاريخية. فقد حصل إذاً الادعاء على سلامة من قبل المحامي العام الاستئنافي رجا حاموش في بيروت، القاضي الذي ادّعى أيضاً على شقيق الحاكم (رجا)، ومساعدته ماريان الحويك، وكل من قد يطاله التحقيق. وسلامة، بحسب حاموش، متهم بجرائم عديدة، من أهمها: اختلاس أموال عامة، التزوير، الإثراء غير المشروع، تبييض أموال، ومخالفة القانون الضريبي. وقد أحال حاموش الملف مع المُدّعى عليهم إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت، شربل أبو سمرا، طالباً استجواب المتهمين وإصدار المذكرات القضائية اللازمة بحقهم.
إن ملف التحقيق مع سلامة هو بالطبع ملف كبير وضخم جداً، ويستدعي التوقف عنده مليّاً، وإطلاق صرخة قوية لإحداث صحوة كبيرة في الجسم القضائي وتنبيه اللبنانيين إلى ضرورة المواكبة والمتابعة. كما يستدعي تحذير أركان السلطة من محاولة الالتفاف على هذه الخطوة أو حرفها عن مسارها الطبيعي، وحثهم على ضرورة استكمالها بإجراءات جدّية وعاجلة.
خطوة المليون
أوَّلاً؛ إننا في هذه المناسبة فرحون جداً بهكذا خطوة. ونُعبّر عن سعادة عارمة بأن القضاء اللبناني تجرأ؛ أخيراً؛ واتخذ هذه الخطوة التي سوف تهزّ عرش المنظومة الحاكمة في لبنان، وتُربك كل المتواطئين. وفي الوقت نفسه ستساعد؛ إن شاء الله؛ في زعزعة عروش كل أهل ورجالات الفساد والهدر والمتورطين بالسطو على المال العام في لبنان. كما ستُجبر أهل الظلم والجَور والتسلّط على مراجعة حساباتهم؛ ولو بعد حين؛ وستدفعهم للتفكير مَليّاً بما جنته أياديهم، وتُنذرهم بما ينتظرهم في حال استمرّوا في ظلمهم وجَورهم وفسادهم وطغيانهم، خاصةً عندما سيشعرون أن حليفهم الأميركي والغربي؛ الداعم الأساسي لهم؛ قد يتخلّى عنهم في أي وقت، وسيرميهم عظمة جرداء للكلاب الشاردة، بعد أن أكل لحم أكتافهم طَوال السنوات الماضية، واستعملهم لظلم أهلهم، وللجَور والطغيان، ولحصار أهل جلدتهم وتجويعهم وتركيعهم وإذلالهم!
مطلوب “عين ساهرة”
ثانياً؛ أمام هذا الادعاء التاريخي، علينا أن لا نُفرّط في التفاؤل. فلبنان بلد المناورات والمفاجآت والتكويعات غير المسوّغة. وفيه يعيش مختلف أصناف أبالسة السياسة وشياطينها الماكرين، الذين قد يجدون سبيلاً للتمييع والتسويف والتعطيل والمماطلة من أجل أن يحولوا دون تحقيق العدالة. لذلك، علينا جميعاً أن نبقى “العين الساهرة” التي تراقب مسار هذا الملف، وتمنع حرفه عن سكَّته الطبيعية المطلوبة. وكما قلنا آنفاً، ما حدث يُعدّ قراراً تاريخياً كنَّا ننتظره منذ أكثر من ثمانية أشهر، تاريخ بدء الحديث في هذه الملفات الخطرة التي تطال سلامة وشقيقه ومساعدته وزوجته الأوكرانية، وذلك في عدة دول أوروبية، خاصة في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ.
ومع ذلك، علينا أن لا نُفرط بالتفاؤل. وذلك لأسباب عدة ومعروفة. صحيح أنها المرّة الأولى في تاريخ لبنان التي يتمّ فيها الادعاء على موظف كبير بهذه الرتبة “حاكم المصرف المركزي”، وبقضايا خطرة جداً (سنفصّلها تباعاً لاحقاً، كما قلنا) سمحت لسلامة بجمع ثروة تُقدّر بنحو ٢ مليار دولار (بحسب تقديرات ألمانية) وذلك من خلال عدّة ملفات فساد أدارها داخل لبنان وخارجه. يجب علينا الحذر من مكر أركان السلطة وتواطؤ بعض القضاة الذين قد يسعون إلى رمي هذا الملف في أدراج النسيان والتيه برغم كل الضغط والإصرار من قبل القضاء الأوروبي.

يستوجب ذلك إستنفاراً وطنياً في مواجهة القضاة المتقاعسين والمتواطئين والمتآمرين على لبنان واللبنانيين، لمنعهم من الانحياز لـ”حزب المصرف” الذي يستقوي بفساد بعض القضاة. فهناك؛ ويا للأسف الشديد، قضاة مُنضوون تحت لواء هذا “الحزب” المتجذّر في الدولة العميقة، والذين قد يعملون على تعطيل سير العدالة في هذا الملف، ويلجأون للمماطلة والتسويف والتباطؤ للحؤول دون التوصل إلى نتيجة، ومن ثَمَّ منع إدانة سلامة.

إما السير في خيار الانتحار والسقوط، وهو درب المتآمرين والمتواطئين والمتخاذلين الذين سيلعنهم التاريخ، وسينالون أقسى أنواع العذاب في الآخرة؛ لأنهم سهّلوا وتآمروا وتواطأوا مع من أوصلنا إلى هذا الحضيض؛ وإما سلوك طريق الأحرار والشرفاء ونهج الدفاع عن المظلومين والمقهورين والمحرومين في هذا الوطن، عبر الانحياز إلى هؤلاء الفقراء المُعدمين

“حارس قضائي”
كذلك ندعو الحكومة اللبنانية لاتخاذ جميع الإجراءات الضرورية واللازمة، وبسرعة، من أجل تسهيل كل الإجراءات القضائية المطلوبة لا تعطيلها، واستكمال التعاون مع القضاة الأوروبيين الذين حضروا وسيحضرون في الأيام المقبلة لاستكمال التحقيق مع رياض سلامة وغيره من المعنيين بهذا الملف.
كذلك ندعو الحكومة للإسراع في اتخاذ كل الإجراءات التي من شأنها أن تساعد السلطات اللبنانية في استرجاع كل دولار من الأموال التي من المُمكن استرجاعها، والتي تسعى الدول الأوروبية لوضع اليد عليها ومصادرتها قبل تحرّك السلطات اللبنانية التي عوّدتنا أن لا تتحرك إلَّا تحت الضغط.
ونطالب الحكومة أيضاً بضرورة تعيين حارس قضائي على مصرف لبنان، وبسرعة، من أجل تسيير أمور هذه المؤسسة الأساسية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان، والسعي قدر المستطاع لوقف التدهور الحاصل على كل المستويات، المالية والنقدية، وتصحيح مسار العمل في هذه المؤسسة بعد كل ما ارتكبه “الحاكم” من جرائم بحقّ لبنان وشعبه. ونطالب كذلك؛ إذا أمكن؛ بتعيين “حاكم بديل” للحاكم الحالي، الذي لا ينبغي أن يستمرّ في منصبه بعد الادعاء الذي تقدم به المحامي العام الاستئنافي (حاموش).
نقول بضرورة تعيين “حاكم بديل” إذا كان ذلك ممكناً. وهم سيقولون لنا: إن ظروف البلد وتعقيداته ومشاكله السياسية لا تسمح بذلك.
هناك الكثير من الشخصيات المارونية الكريمة المؤهلة والمُستعدّة للقبول بهكذا منصب بالرغم من كل هذا الانهيار والانحدار الذي وصلنا إليه، فلماذا لا يُصار إلى اختيار أحدهم والسعي للاتفاق على اسم مرشح بديل عن سلامة ابتداءً من اليوم؟
مساندة القضاء
ندعو كذلك إلى تعجيل اتخاذ كل الإجراءات التي من المُمكن من خلالها السعي لاسترجاع الثروة المنهوبة، التي هي من أموال الشعب اللبناني وخزينة الدولة؛ وهي ليست قطعاً أموالاً خاصة لهذا المتهم. إن حجم الاتهامات الموجودة في ملف الادعاء على رياض سلامة ضخم جداً، واللبنانيون سيتفاجأون بها وبالتفاصيل التي تكمن في خبايا الجرائم التي ارتكبها بحقّ هذا الوطن وشعبه.
كذلك ندعو اللبنانيين كافَّة للوقوف صفاً مرصوصاً قوياً خلف القضاء الوطني النزيه، وتنظيم حملة لدعم القاضية غادة عون في عملها الدؤوب في تفكيك سلطة عصابات “حزب المصرف”، وفي وضع حد للتمرّد الذي تمارسه “جمعية المصارف” من خلال امتناعها عن التعاون مع القضاء. فتحت ستار الشمَّاعة السرّية المصرفية، تتعمد هذه “الجمعية” إخفاء معلومات قيّمة وخطرة خاصة بملفات فساد تطال مصارف كبيرة، وهذا إمعان في التعسف بحق اللبنانيين ويعيق إحقاق العدالة.
من هنا، فإن كل الجسم القضائي مدعو اليوم إلى وقفة مع الضمير الحيّ، وإلى اختيار المسار الأفضل الذي يحكمه العقل والمنطق والقيم. فإما السير في خيار الانتحار والسقوط، وهو درب المتآمرين والمتواطئين والمتخاذلين الذين سيلعنهم التاريخ، وسينالون أقسى أنواع العذاب في الآخرة؛ لأنهم سهّلوا وتآمروا وتواطأوا مع من أوصلنا إلى هذا الحضيض؛ وإما سلوك طريق الأحرار والشرفاء ونهج الدفاع عن المظلومين والمقهورين والمحرومين في هذا الوطن، عبر الانحياز إلى هؤلاء الفقراء المُعدمين، وعبر سلوك خِيار وقفة العزّ والكرامة والانتفاض على كل الفاسدين والضالين، والتي ستؤدي حتماً إلى استعادة الثقة بالجسم القضائي الذي لوّثه بعضهم، ولطّخ أياديه بالفساد والمال الحرام، وعندها سينبعث الأمل الكبير بإعادة بناء لبناننا الجديد العزيز والقوي والخالي من الأشرار والفجّار وعبدة الدولار!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  لقاحات كورونا ليست مؤذية.. الخرافات تدمّر المجتمعات
د. طلال حمود

رئيس ملتقى حوار وعطاء بلا حدود وجمعية ودائعنا حقّنا

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  ها أنذا أعترف أمامكم.. لبنانكم لا يكفيني!