يُورد القرآن قصّة الملك طالوت/شاوُول في سورة البقرة (الآيات 246-251)، كما يلي:
“ألَمْ تَرَ إلَى المَلإِ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ: ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ؟ قَالَ: هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألاَّ تُقَاتِلُواْ؟ قَالُواْ: وَمَا لَنَا ألاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأبْنَآئِنَا. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً. قَالُوَاْ: أنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ؟ قَالَ: إنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ، وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ: إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلآئِكَةُ، إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ: إنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ، فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. فَشَرِبُواْ مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ. فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ: لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ. قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ: رَبَّنَا، أفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ؟ فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ، وَآتَاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء”.
يُلخّص هذا المقطع القرآني (وباختصار شديد) قصّة الملك شاوُول التي نجدها في التوراة (في سفر ﺻﻤﻮﺋﻴﻞ ﺍﻷﻭﻝ، الإصحاحات 9-17). كل التفاصيل المذكورة في هذه الآيات من سورة البقرة لها ما يحاكيها في النصّ التوراتي. لكن لا يمنع ذلك من القول بوجود فرق واضح بينهما. في القرآن، إصطفى الله طالوت/شاوُول ملكاً على بني إسرائيل ولم يقترف الأخير أي خطيئة، ومن ثمّ اختار الله داوود ملكاً بعده. بينما في سفر صموئيل الأوّل، اختار الله شاوُول، كما يقول (الإصحاح 9، الآية 17): “فَلَمَّا رَأى صَمُوئِيلُ شَاوُولَ، قَالَ اللهُ لِصَمُوئِيلَ: هَذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي أخبَرتُكَ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي سَيَحْكُمُ شَعْبِي”. لكنّ الله ندم على اختياره بسبب تصرّفات شاوُول، فغضب منه ولعنه، كما نجد في النصّين أدناه من السفر:
“ثُمَّ تَلَقَّى صَمُوئِيلُ رِسَالَةً مِنَ اللهِ، قَالَ اللهُ: لَمْ يَعُدْ شَاوُولُ يَتْبَعُنِي، وَقَدْ أسِفْتُ عَلَى جَعلِهِ مَلِكاً فَهُوَ لَا يَحْفَظُ وَصَايَايَ. فَغَضِبَ صَمُوئِيلُ مِمَّا فَعَلَهُ شَاوُولُ، وَظَلَّ يَبكي فِي حَضْرَةِ اللهِ طَوَالَ اللَّيل”.. (الإصحاح 15، الآيتان 10-11).
“وَقَالَ اللهُ لِصَمُوئِيلَ: حَتَّى مَتَى سَتَحْزَنُ عَلَى شَاوُولَ؟ أنْتَ مَا زِلْتَ حَزِيناً عَلَيْهِ حَتَّى بَعْدَ أنْ قُلْتُ لَكَ إنِّي رَفَضْتُهُ مَلِكاً عَلَى إسْرَائِيلَ. فَاملأ قَرْنَكَ بِالزَّيْتِ وَاذْهَبْ إلَى بَيْتِ لَحْمٍ، فَإنِّي مُرسِلُكَ إلَى رَجُلٍ مِنْ سُكَّانِ بَيْتِ لَحْمٍ اسْمُهُ يَسَّى. وَقَدِ اختَرْتُ أحَدَ أبنَائِهِ لِيَكُونَ مَلِكاً. لَكِنَّ صَمُوئِيلَ قَالَ: إنْ ذَهَبْتُ سَيَسْمَعُ شَاوُولُ بِالخَبَرِ فَيَقْتُلُنِي. فَقَالَ اللهُ: اذْهَبْ إلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَخُذْ مَعَكَ عِجلاً وَقُلْ لَهُمْ: جِئتُ لِأُقَدِّمَ للهِ ذَبِيحَةً، وَادعُ يَسَّى إلَى الذَّبِيحَةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ سَأُرِيكَ مَا يَنْبَغِي أنْ تَفْعَلَهُ، يَنْبَغِي أنْ تَمْسَحَ الشَّخصَ الَّذِي أُرِيكَ إيَّاه”. (الإصحاح 16، الآيات 1-3).
ما نستنتجه من النصّ التوراتي أنّه بعد إختيار الله شاوُول ملكاً، غضب منه بسبب خطايا اقترفها وأمر النبي صموئيل أن يكون داوود بن يسَّى (أو “إيْشَا” حسب التراث الإسلامي) ملكاً مكانه.
في القرآن، لا نجد أي ذكر لغضب الله من طالوت/شاوُول. يضع النصّ اللائمة على كامل بني إسرائيل، بينما نجد في القصّة التوراتيّة أنّ معظم بني إسرائيل قبلوا به ملكاً إلاّ “بَعْضُ الأشْرَارِ” (الإصحاح 10، الآية 27). ولا يأتي النصّ القرآني أيضاً على ذكر أن اختيار داوود ملكاً هو جزء من العقاب لشاوُول، بينما نجد هذا الأمر واضحاً جدّاً في النصّ التوراتي.
القرآن لا يُخبرنا لماذا اختار الله داوود مكان طالوت/شاوُول. كلّ ما يقوله النصّ هو الآتي: “وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ، وَآتَاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ”. أسطورة قتل داوود لجالوت (Goliath) هي من الأساطير التي أصبحت مثلاً يُرَدّد كلّما تصارع طرف نعتقده قوي مع طرف آخر نعتقده ضعيفاً. لكن أين ذهب الملك طالوت/شاوُول وما حصل له؟ قفز النصّ القرآني فوق هذا التفصيل المهمّ لكي لا يُحْرِج الله
لماذا هذا الإختلاف بين القرآن والقصّة التوراتيّة في قصّة طالوت/شاوُول؟
في التوراة، ولا سيما في الكتب الأولى منه (بما فيها سفر صموئيل الأوّل)، تُسْرَد لنا القصص من دون وعي مسبق لدلالاتها ومضامينها. هناك سجيّة في طريقة وأسلوب سرد الأحداث يبدو وكأنّها كانت متوقّعةً ومقبولةً عند الجمهور الأوّل للتوراة. لكن هذا الأمر تغير مع الأجيال اللاحقة التي اختلف لديها مفهوم الله، وطبيعته، وتصرّفاته، إلخ.
ففي الكتب الأولى من التوراة، يندم الله على كثير من أفعاله ويتراجع عن كثير من قراراته وكأنّه لا يدري بعواقب الأمور، كما في قصّة شاوُول أعلاه. ويبدو الأنبياء أفطن وأحلم منه، بينما يبدو الله سريع العقاب، قليل التفكير، كما نجد مثلاً في سفر التكوين، الإصحاح 18 عندما قرّر الله تدمير سَدُوْم وعَمُوْرَة، فناقشه إبراهيم ليعفو عن بعض أهلها بأسلوب يشير إلى أنّه أفهم وأوعى من إلهه. بينما في القرآن، الله عليم بكلّ شيء، وحكمته لا تعلو عليها حكمة، وحلمه لا يحدّه شيء، إلخ.
لذلك، نجد أنّ القرآن “يعيد” سرد قصّة طالوت/شاوُول، كما في كل القصص عن الأنبياء القدماء. يقارب القرآن هذه القصص من عقليّة واعية لدلالات الأمور ومضامينها؛ طبعاً نجد الأمر نفسه في الفكر اليهودي والمسيحي من الفترة ذاتها لزمن القرآن. أنا أتحدّث هنا عن عقليّة أصبحت شائعة في القرن السابع للميلاد عند أصحاب الكثير من الديانات، وليس فقط الديانات التوحيديّة. بكلام آخر، ما كان مقبولاً في القرن السابع أو السادس قبل الميلاد أصبح مرفوضاً في القرن السادس والسابع للميلاد. وتطلّب ذلك “إعادة تفسير”، وإذا أمكن “إعادة سرد” القصص التوراتيّة، وهذا ما نجده تحديداً في القرآن.
هناك دليل في نصّ قصّة طالوت/شاوُول في سورة البقرة تشير إلى أنّ القرآن تغاضى عن إشكالية في القصّة الأصليّة لم يرغب الخوض فيها. فالقرآن لا يُخبرنا لماذا اختار الله داوود مكان طالوت/شاوُول. كلّ ما يقوله النصّ هو الآتي: “وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ، وَآتَاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ”. أسطورة قتل داوود لجالوت (Goliath) هي من الأساطير التي أصبحت مثلاً يُرَدّد كلّما تصارع طرف نعتقده قوياً مع طرف آخر نعتقده ضعيفاً. لكن أين ذهب الملك طالوت/شاوُول وما حصل له؟ قفز النصّ القرآني فوق هذا التفصيل المهمّ لكي لا يُحْرِج الله (بأنّه أخطأ باختياره لطالوت/شاوُول ملكاً على إسرائيل واضطراره لاستبداله بداوود)، كأنّ لسان حاله يُردّد: “إذا كان الكلام من فضّة، فالسكوت من ذهب”!