ماهيّة الإسلام.. نشأة الشهادة بين السرديات والنقود (16)

التدقيق في نشأة الشهادة وتطوّر نصّها يدلّنا على الدور الكبير للحكّام والفقهاء المسلمين الأوائل في بناء وصياغة أهم أسس الدين الإسلامي، وذلك إستناداً إلى قناعات عقائديّة وإستجابة لتحديات واجهوها مع انتشار الإسلام وإندراج فئة كبيرة من غير المسلمين تحت الحكم الإسلامي.

تُعتبر الشهادة ركن الإسلام الأساسي، ونصّها المتعارف عليه هو “لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله”. السؤال أمامنا هو: متى بدأ استخدام نصّ الشهادة بهذا الشكل، وما كانت وظيفتها؟

تقول السردية الدينية الشائعة أنّ كلّ من أتى النبي راغباً في الإسلام، كان النبي يقول له أن يردّد الشهادة. ووفقاً لهذه السرديّة، الشهادة هي المدخل إلى الإسلام وأصلها من فترة النبي، ونقطة على السطر.

إذا محّصنا في المصادر التي بحوزتنا من القرن السابع (القرن الإسلامي الأوّل)، تتجلّى لنا صورة مغايرة عن هذه السرديّة الشائعة، إذ لا نجد للشهادة أثر فيها قبل سنة 690. السؤال الأول: إذا كانت الشهادة بالأهميّة التي أصرّ عليها علماء المسلمين، لماذا لا نجدها في القرآن؟ هناك سؤال آخر علينا الإجابة عليه: هل يعرّف القرآن شهادة – أو شهادات – مختلفة استخدمها المسلمون في عصر النبي؟

الجواب نجده في الآية 19 من سورة الأنعام: “قُل أيُّ شيء أكْبر شَهادةً، قُل اللّه شهيدٌ بِيْني وَبَيْنَكُم وأوحى إلَيّ هذا القُرْآن لأُنذِركُم به ومَن بَلَغ أئِنَّكُم لَتَشْهَدون أنّ مَع اللّه آلِهَة أُخْرى، قُل لا أشْهَد، قُل إنَّما هُو إلَهٌ واحِدٌ وإنّني بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُون”.

وفي الآية 64 من سورة آل عمران: “قُلْ يا أهلَ الكتاب تَعالَوْا إلى كَلمَةٍ سَواء بَيْنَنا وبَيْنَكُم ألاَّ نَعْبُد إلاَّ اللّه ولا نُشْرِك بِهِ شَيْئاً ولا يَتّخِذ بَعْضُنا بَعْضاً أرْبَاباً مِن دُونِ اللّه. فإن تَوَلّوْا فقُولوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمون”.

يمكن أن نستنتج من هاتين الآيتين وجود نوعين من الشهادة: شهادة الإسلام (أي التشهّد بـ”أنّا مسلمون”) وشهادة التوحيد (أي شهادة أن الله واحد لا شريك له).

ويمكن أن تكون سورة الإخلاص – “قُل هو الله أحَد، الله الصَمد، لم يَلد ولم يُولد، ولم يكن له كُفُواً أحَد” – قد استخدمت كشهادة في زمن النبيّ (وسأعود إلى هذا الأمر في ما بعد).

لننظر أيضاً في مصادر أخرى من القرن السابع (القرن الإسلامي الأوّل) والتي ليس هناك أي لبسّ على أنّها من تلك الفترة، وأعني تحديداً النقود والنقوش.

قبل سنة 685، نجد على النقود الإسلاميّة عبارات مثل “بسم الله” أو “بسم الله ربّي”، هدفها على الأرجح إبراز هويّة إسلاميّة لهذه النقود، مثل الدرهمين أدناه، الأول (إلى اليمين) من سنة 655 أو 656 أثناء حكم عثمان بن عفّان، والثاني (إلى اليسار) من سنة 672، أي زمن معاوية بن أبي سفيان.

 هنا نسأل، هل أضاف المسلمون هذه العبارات على جميع النقود، أم فقط على نوع معيّن منها؟

الجواب هو أنّهم فعلوا ذلك مع النقود الساسانيّة، لا مع النقود البيزنطية. في النقود البيزنطيّة، أزالوا العلامات التي لم يقبلوها، مثل الصليب، كما نجد في المثل المرفق (اليسار)، وهو دينار من زمن الأمبراطور هرقل (Heraclius – حكم 610-641) يظهر فيه محاطاً بولديه وحاملين الصلبان، ويظهر الصليب أيضاً على ظهر الدينار (اليمين).

وإذا عُدنا إلى الدينار الأموي (من سنة 680 تقريباً)، نجد أن التصميم نفسه قد إستخدم، لكن أُزيلت الصلبان منه (الرسم أدناه).

الأمر مخالف مع الدرهم الساساني، إذ استخدم المسلمون التصميم ذاته لعدّة قرون ولم يزيلوا شعارات الدين الزردشتي، وتحديداً رسم الملك الساساني (على وجه الدرهم)، بينما يحيط إثنان من الكهنة بمجسّم للنار (على ظهر الدرهم) وهو شعار النور (جهة اليمين أدناه). كل ما فعله المسلمون في هذه الحالة هو إضافة عبارة “بسم الله ربّي” على وجه الدرهم لإعطائه هويّة إسلاميّة (جهة اليسار أدناه).

وفي كل النقود التي بحوزتنا من تلك الفترة، لا نجد أي ذكر عليها للنبي محمّد قبل سنة 685.

استطراداً، نجد على هذه الدراهم الساسانيّة شعاراً آخر، هو الهلال تتوسّطه النجمة. يمكن للمرء أن يقول أنّه شعارٌ إسلامي. لكن هذا خطأ، كون ذلك شعار الزردشتيّة كما نرى في الدرهم أدناه من ولاية الملك خسرو أنوشروان (حكم 590-627):

اعتاد المسلمون على الهلال تتوسّطه النجمة وأخذوه شعاراً للإسلام (ونجده في يومنا هذا على معظم أعلام الدول الإسلاميّة كالمغرب والجزائر وتركيّا وباكستان وماليزيا، وغيرها).

مع دخول حقبة عبد الملك بن مروان (حكم 685-705)، نبدأ برؤية عبارة “محمد رسول الله” في النقود، مثل الدرهم أدناه من سنة 66 للهجرة (بين آب/أغسطس 685 وتمّوز/يوليو 686) والذي عليه عبارة “بسم الله، محمّد رسول الله” (الدرهم إلى اليمين)، وفي بعض الحالات نجد عبارة “محمّد رسول الله” مقابل وجه الملك الساساني مباشرةً (الدرهم إلى اليسار):

ما يثير الفضول في كلّ هذه الحالات التي أسلف ذكرها هو أنّها أتت من إيران، وتحديداً من ولاية سجستان (اليوم في جنوب شرق إيران وجنوب غرب باكستان وأفغانستان). كذلك الأمر في أوّل حالة نجد فيها اسم النبي مضافاً إلى نصّ يشبه الشهادة المتعارف عليها (كالدرهم أدناه، والنصّ مكتوب باللغة الفارسيّة البهلويّة ترجمته: “الله واحد، لا غيره إله، محمد رسول الله)، وهو أيضاً من سجستان، من سنة 72 هجريّة (بين حزيران/يونيو 691 وأيّار/مايو 692). لم يكن الأمويون من قام بسك هذه الدراهم، بل خصومهم وتحديداً ولاة عبد الله بن الزبير.

إقرأ على موقع 180  يا عالم! يا هو! غزة مذبحتنا.. غزة حُبّنا

ما نستنتجه إذاً أنّ الأمويين (أثناء حكم عبد الملك) تبنّوا ما قام به الزبيريّين (بعد هزيمتهم وقتلهم لابن الزبير) وعمّموه. نجد ذلك في الدنانير التي سُبكت في زمن عبد الملك بن مروان، مثل الدينار أدناه من سنة 75 للهجرة (بين أيار/مايو 694 ونيسان/ابريل 695) والذي عليه رسم لعبد الملك مع عبارة “بسم الله، لا إله إلاّ الله وحده، محمّد رسول الله”.

وفي قبّة الصخرة في القدس، في النقش الذي يعود إلى فترة عبد الملك بن مروان (بنيت القبةّ بعد سنة 692) عبارة “بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له” ستّ مرّات، لكن في حالتين فقط نجد بعدها عبارة “محمّد رسول الله”. وهذا يدلّ على أنّ الأمويين في زمن عبد الملك لم يستقرّوا على نصّ واضح متناسق للشهادة، وكانوا في فترة يمكن أن نسمّيها بفترة “التجارب”.

وكل هذه المعطيات تشير إلى أرجحيّة أن عبارة “محمّد رسول الله” تمّت إضافتها إلى الدراهم الساسانيّة بهدف الردّ على زعم أتباع الديانة الزردشتيّة أنّ أهورا مَزدا هو الإله الذي يمثّل الخير وشعاره النور (بعكس أهريمان وهو إله الشرّ) وأنّ زرادشت هو نبيّه. فكان جواب المسلمين التأكيد على وحدانيّة الله وأنّ محمّداً هو نبيّه. لكن العبارتين لم تصبحا جزءاً واحداً، بل بقيتا في معظم الحالات جزئين منفصلين، يمكن ذكرهما معاً أو فصلهما، وهذا ما يؤكّده أيضاً الاسم الرسمي للشهادة المتعارف عليها: “الشهادتين”.

الأرجحيّة الأخرى لنشأة الشهادة في هذه الفترة المتأخرّة من القرن السابع هي ضرورة تفريق الإسلام عن اليهوديّة والنصرانيّة. بمعنى آخر، عبارة التوحيد – مثل “لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له” – يوافق عليها اليهودي والمسيحي والمسلم. إذاً ما هو الشيء الذي يفرّق المسلمين عنهم؟ إضافة “محمّد رسول الله” تُعطي المسلمين هويّة حصريّة بهم، لا يوافق عليها غيرهم. لذلك نجد الاستخدام الكثيف لها في النقوش من بعد سنة 692، وهذا يتطابق مع ما نعرفه عن الاصلاحات الدينية والادارية التي اجراها عبد الملك بن مروان اثناء خلافته.

حتّى في كتب الحديث والعقيدة، نجد تناقض حيال نصّ الشهادة. مثلاً، الحديث عن النبي أنّه سمع رجلاً يقول: “اللهُمّ إنّي أسْألُك ِأَنّي أشْهد أنّك أنت الله لا إلَه إلاّ أنت، الأحد الصمد الذي لم يَلِد ولم يُولد ولم يَكُن له كُفُواً أحد”. فقال النبي: “لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سُئل بِه أعطى وإذا دُعيَ بِه أجاب” (سنن أبي داود).

وفي حديث آخر: “مَن قال أشْهد أن لا إله إلاّ الله وَحْده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً صمداً، لم يَتّخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يَكن له كُفواً أحدٌ، عشر مرّات كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة” (سنن الترمذي).

ما نجده في هذين الحديثين هو نسخة عن سورة الإخلاص، وهذا يشير إلى أرجحيّة استخدامها في فترة النبي كشهادة، خصوصاً أنّ أوّل كلمة فيها هي “قُل” (قُل: “هوَ اللهُ أحَد..).وهناك مسألة أخرى عن الشهادة، تحديداً الشهادة الشيعيّة (كما نرى في الدرهم الفاطمي أدناه): “لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، علي وليّ الله”، وحقيقة أنّ الشيعة هم الذين سمّوها الشهادة الثالثة.

صحيح أنّه برز خلاف حول إدخالها في الأذان، كما يقول ابن بابويه في كتابه “من لا يحضره الفقيه”: “ولا شكّ أنّ عليّاً وليّ الله وأنّه أمير المؤمنين حقّاً وأنّ محمّد وآله صلوات الله عليهم خير البريّة، ولكن ليس ذلك في أصل الصلاة”. لكن لم يكن هناك شك حول ضرورتها، وذلك من أجل توضيح الهويّة الشيعيّة وتفريقها عن الهويّات الإسلاميّة الأخرى.

إذاً، الشهادة المتعارف عليها لم تكن موجودة في فترة النبي ومعظم القرن السابع. في حوالي سنة 690، بدأ بعض الولاة المسلمين بإضافة عبارة “محمّد رسول الله” إلى شهادة التوحيد بهدف توضيح الهوية الإسلامية مقارنةً بالزردشتيّة. فأخذها الأمويون وعمّموها للتفريق بين المسلمين وبين المسيحيّن واليهود. ومن ثمّ أخذها الفقهاء وجعلوها ركيزة الإسلام الأساسيّة.. وما زالت حتى يومنا هذا (يتبع).

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  أوباما لعبدالله: جلالة الملك، كيف توفّق بين 12زوجة؟ (2)