أوروبا حاربت وصالحت.. متى تنتهي حروبنا؟

انتهت الحرب العالمية الأولى في الدقيقة ١١ والساعة ١١ واليوم ١١ من الشهر ١١ عام ١٩١٨ عندما وقّعت ألمانيا وثيقة استسلامها.

انتهت الحرب هناك وانتهت معها مفاعيل زمن ما قبل الثورة الصناعية والاستعمار. انتهى معها أيضاً مبدأ الممالك والإمبرطوريات ليحل مكانها نموذج الدول القومية أو الدول المستحدثة بلا هوية وطنية في الكثير من بقاع الأرض من خلال إنشاء دول حديثة تحت قبة عصبة الأمم.

بعد أكثر من ١٠٠ عام وبرغم الدمار الذي ألحقته حربان عالميتان أولى وثانية بالقارة الأوروبية، ما زالت فرنسا تقيم احتفالات سنوية للدول والقادة المتقاتلين في الأمس البعيد. احتفالات رمزية لكنها أكثر من عميقة وجدية بمضمونها الذي يحث على طي صفحة الماضي المؤلم، وصولاً إلى تمتين السلام والعمل على تقوية الإتحاد الأوروبي.

تريد أوروبا أن تظهر دائماً قوية ومتجانسة ويريد قادتها التأكيد على بناء أوروبا المسالمة برغم أن طبول الحرب لطالما قُرِعت في العديد من دول الجوار الأوروبية لا بل حتى في قلب القارة الأوروبية نفسها (نموذج البلقان).. ونحن نتحدث عن مرحلة سابقة للحرب الأوكرانية.

لم تكن أبداً احتفالات انتهاء الحرب العالمية الأولى مجرد حدث عابر. بل على العكس كانت دائماً تحمل في طياتها دعوة إلى إعادة الإعتبار إلى مفاهيم المصارحة والمصالحة وتقبل الآخر والاستفادة من دروس التاريخ الصعب بكل ويلاته ومآسيه وصولاً إلى السلام بكل فرصه.

مائة عام من عمر الإنسان والأرض ليست سوى لحظة، لكنها لحظة مفصلية لأوروبا قالت بعدها أن لا حروب في أوروبا بعد الآن.

يمكن للقارئ القول إنه ليس لأوروبا القدرة على شنّ الحروب وتحمل ويلاتها ومآسيها وكل تداعياتها وأن عصر أوروبا القوية قد انتهى وأنها لم تعد سوى قارة عجوزاً. نعم لا يمكن لأوروبا أن تشن حروباً لانها لا تريد أن تُفرّط بمستوى من الرفاهية والحريات والتقديمات الاجتماعية، برغم ما يصيبها أحيانا من طلعات ونزلات (نموذج موضوع زيادة سن التقاعد في فرنسا حالياً). زدْ على ذلك أن احلال السلام وتمتينه والعمل على استدامته أقوى وأصعب من شن الحروب وتحمل تداعياتها.

في السابق، كان شنُ الحروب أسهل من منعها أو حتى وضع حد لها. أما المهمة الأصعب، فتكون عادة في ورشة إعادة بناء ما تدمر من إنسان ومجتمعات وثقافة وعمران جراء الحرب أو الحروب. فمجتمعات ما بعد الحرب غالباً ما تكون مثقلة بالأوجاع ولكن ما فعلته أوروبا في المائة سنة الأخيرة من إعادة بناء الانسان قبل الحجر على قاعدة السلام وتقبل الآخر واحترام حقوق الانسان وفكره وحرياته هو أسمى ما أنجزته. لماذا؟

لأن أوروبا الحديثة، أوروبا ما بعد العام ٢٠٠٠ ليست أوروبا الحرب العالمية الأولى قبل مائة سنة. انها أوروبا الزمن الجميل الذي لا ينتهي. ليست القارة العجوز كما يُصوّرها البعض، إنما قارة الإنسان واحترامه واحترام الدولة ومؤسساتها. إنها أوروبا الإبداع والثقافة والتطور والحداثة. انها بلاد الحريات وحفظ الموروثات والثقافات والتعدديات برغم الاختلافات الجمة.

 ***

علمتنا أوروبا ان نُصارح ونُسامح ونُصالح برغم قساوة التاريخ وفظاعة جرائمه. علمتنا أشياء لا نعرفها نحن الآتين من دول العالم الثالث. علمتنا أن الحياة بقساوتها وصعوباتها تبقى جميلة وتستحق أن نعيشها. علمتنا أوروبا وبكل بساطة معنى الحياة ومعنى الانسان، وقدّمت بالتالي نموذجاً ناجحاً لكيفية إعادة إعمار الدول

وماذا عن أوروبا اليوم بعد ١٠٠ عام على حرب عالمية دمّرتها؟

برغم ما أصابها ولا سيما في اللحظة الراهنة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، وما تتركه من تداعيات على مجمل حياة الأوروبيين وربما البشرية بأسرها، ما زالت تُشكّل الحلم للبعض والملجأ للبعض الآخر والوطن للكثير ممن خسروا أوطانهم أو خسرتهم أوطانهم.

ولو قيّض للأوروبيين أن يُقرروا لما كانت حرب أوكرانيا أساساً، لكن قوة الدفع الأميركية البريطانية جعلت القارة تذهب في هذا الإتجاه وتدفع كل هذه الأثمان.

إن أوروبا التي كانت “أم المعارك”، وأرض الكراهية والقتل والخراب، في حربين عالميتين خيضتا على أرضها، أصبحت بعد عقود من الزمن أكثر نضجاً. باتت تفهم جيداً أن تنمية الانسان أساس قوتها. وأن الحرب لا قيمة لها سوى في إستجلاب دمار الحجر والبشر. لقد علمتنا أوروبا أن نُحبّ الانسان ونحترم الدستور ونُمجّد الاخلاقيات. علمتنا أوروبا ان نتعالى على انقساماتنا وتاريخنا الدموي وان نتطلع بكل فرح وامل الى المستقبل. علمتنا أوروبا ان نُصارح ونُسامح ونُصالح برغم قساوة التاريخ وفظاعة جرائمه. علمتنا أشياء لا نعرفها نحن الآتين من دول العالم الثالث. علمتنا أن الحياة بقساوتها وصعوباتها تبقى جميلة وتستحق أن نعيشها. علمتنا أوروبا وبكل بساطة معنى الحياة ومعنى الانسان، وقدّمت بالتالي نموذجاً ناجحاً لكيفية إعادة إعمار الدول.

***

رُبّ قائل إن هذا النص وظيفته تنزيه أوروبا على طريقة “الرجل الأبيض” الخارج عن كل الشبهات. نعم أوروبا، ومن موقعها الإستعماري القديم كانت مُقررة في صياغة خرائط العالم الحالي. في تقسيم القارات والدول. وبالطبع، لم نسلم نحن في الشرق الأوسط من خيار التقسيم. فالدمار الذي لحق بنا كان كبيراً لا بل كبيراً جداً.

إقرأ على موقع 180  مسرحية "النسر الساقط" تعرض على مسارح البلقان وشرق أوروبا

لن أغوص في الحديث عن الضرر الذي أحدثه التقسيم لأن كثيرين غيري كتبوا ما يكفي من نصوص حول الأسباب والنتائج. ولكن يُسجل لهذه القارة أنها احترمتنا برغم اختلافاتنا. أخطأت واعتذرت (ليس من الجميع). وها هي الآن تعمل جاهدة لإعادة بناء ما تهدم من خلال المساعدات والتقديمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

غداً ستنتهي الحرب في أوكرانيا، كما إنتهت الحرب الأولى والحرب الثانية، ولكن سؤالي متى تنتهي الحروب الأهلية الدامية في عالمنا العربي وكل هذا الشرق الدامي وأي مستقبل ينتظر ساكني هذا الشرق؟

للأسف، لم نتعلم من أوروبا أن القيادات تتصالح وأن ندوب الحرب يمكن شفاءها وأن التعلم من الماضي والاستفادة من أخطائه أبرز سمات الإنسان المعاصر، أي أوروبا اليوم.

***

بالأمس وعلى أنقاض الحرب العالمية الأولى، أرسل الرئيس الأميركي توماس وودرو ويلسون في العام ١٩١٩ لجنة كينغ كراين إلى سوريا ولبنان وفلسطين لتقصي الحقائق ودعم الشعوب في تقرير مصيرها ومستقبلها بعيداً عن التدخلات الأجنبية، ولكن توصياتها بقيت حبراً على ورق. فما أحوجنا اليوم في هذا الشرق الدامي إلى هكذا لجان لربما تتقصى الحقائق المُرّة التي نعيشها وتغير في أحوالنا، طالما نحن أعجز من أن نغيّر ما بأنفسنا وما في بلادنا.

Print Friendly, PDF & Email
هاني عانوتي

باحث، أستاذ جامعي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "خوذ بيضاء" وأعلام صفراء... نهاية حملة "جيرة حسنة"