يقول محللون بأن ثمة توجه يحاول جعل النظام الدولي، نظاماً موحداً يُحكم من خارج حدود الدول، يقع صولجان سلطته في أيدي ممن يندر أو ينعدم ظهورهم أمام الكاميرات، ويشح ترشحهم لانتخابات على مناصب سياسية، وغالباً ما يحملون عدة جوازات سفر بجنسيات متعددة، ويتحكمون في رؤوس أموال وأصول يستحيل تجنيسها باسم دولة محددة، لكن تبقى لهم مؤسسات تمثل توجهاتهم أو تخدمها وعملاء ينفذون ويدفعون ويملأون أروقة المؤسسات المالية، خشبات مسارح المنتديات، مواقع بيوت الفكر الإلكترونية، وصفحات الدراسات المالية، ويحتلون مقاعد بمجالس إدارات شركات تعمل في مجالات مالية، صناعية، تجارية، خدمية أو استشارية. أطلقْ عليهم اسم Globalists إن شئت.
يقول هؤلاء المحللون إن قائمة من يصطفون على هذا الجانب، بنك لندن، البنك المركزي الأوروبي تحت إدارة كرستين لاجارد، المنتدى الاقتصادي العالمي بقيادة كلاوس شواب وصحبته، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بقيادة مالباس وجورجييفا على الترتيب، ملاك أصول مثل بلاك روك بقيادة لاري فينك، وبعض البنوك الأمريكية مثل بنك أوف أمريكا، بي إن واي ميلون، وغيرها من البنوك الأمريكية والأوروبية الأصغر التي تتوافق مع هذا الجانب. باستثناء البنوك السويسرية التي تقع في منتصف هذه المواجهة بلا تحيزات.
على الجانب الآخر، يظهر التوجه الذي يتبعه الفيدرالي الأمريكي بفروعه الإثنى عشر، وبصحبة إخوته من البنوك الأمريكية، جولدمان ساكس، جي بي مورجان، مورجان ستانلي، سيتي جروب، ويلز فارجو وغيرهم، توجه تسبب في هذا الانزعاج اللندني، الدافوسي والأوروبي، والذي يترك أو يجعل أوروبا عرضة للصدمات المالية، ويحصن السوق الأمريكي، عكس ما كان يحدث سابقاً، عندما تتخذ قرارات في مجلس إدارة الفيدرالي الأمريكي، مثل زيادة معدل الفائدة، فتتأثر أوروبا وأمريكا. بينما الآن يبدو أن أوروبا ستتأثر وحدها.
تصعيد مستوى التحليل
ربما ببعض المغالاة في التحليل، يقول محللون إن أمريكا طالما ظلت تحت سيطرة النظام المالي الذي ابتدعته بريطانيا العظمى. وها قد بدأت الولايات المتحدة مؤخراً، خاصة منذ 2019، في استكمال عملية استقلالها عن المستعمر البريطاني، التي بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر، وخطوة التحرر الأخيرة التي تقوم بها أمريكا في هذه المرحلة، هي الاستقلال المالي عن أنظمة عفا عليها الزمن، وتسببت في أزمات بالسوق الأمريكي ذاته، وخدمت مصالح “حلفاء” أوروبيين، انقلبت على مصالحهم الآن، وكأنه تطبيق فعلي لشعار لطالما استخدمه الرئيس السابق دونالد ترمب “أمريكا أولاً America first”.
بل إن منهم من قال، بأن روسيا، بقرار حربها ضد أوكرانيا، ربما تكون قد ساعدت في إسراع عملية تحويل الدفة لصالح الفريق الأمريكي الفيدرالي تحت قيادة جيروم باول، الذي عيّنه دونالد ترمب ولم يعزله جو بايدن. وها نحن بالفعل نشاهد ليس فقط الحيرة الأوروبية في ما يتعلق بمجالي الطاقة والاقتصاد، بل أزمة حقيقية حلولها ليست باليسيرة. بينما تزيد أمريكا من سطوتها وحمائيتها المالية، وتمتلئ المحال التجارية الروسية بذات البضائع الوفيرة أثناء الحرب، التي توفرت قبلها، تقريباً بذات الأسعار التي لم يصبها وباء التضخم، وبروبل لم يتأثر كثيراً بالعقوبات.
بينما إذا ما نظرت إلى أقوى الأوروبيين، على رأسهم ألمانيا، إنجلترا ناهيك عن حالة اقتصاد دول القارة الأقل نجاحاً، تجد تشكيلة من الأزمات الاقتصادية، الميزانيات الفاشلة، الأصوات الشعبوية، التكلسات الاجتماعية، وطوابير على مجمعات سلع أساسية. وهي مشاكل لن تساعد في حلها لا أمريكا المتحكمة، ولا روسيا المشاكسة، ولا أوكرانيا المستخدَمة (بفتح الدال)، ولا غيرهم. بل إن المشهد كله يبدو وكأنه مصمم خصيصاً لتدمير مقدرات أوروبا المالية بالفعل، بما فيها سوق اليورو دولار ذاته.
من جهة أخرى، يستمر بنك جي بي مورجان الأمريكي، بامتلاك سندات دين روسية، بما فيها سندات ديون الشركات الرخيصة، دون أن يتهمه أي صوت أمريكي، بأنه يساعد في تمويل العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا على سبيل المثال.
اللعبة الكبرى والاستخفاف المتسرع
كلما تعمقت في التفاصيل واقتربت من الواقع الفعلي، كلما بدا لك ما يطلق من تصريحات، وما يصدقه جمهور المواطنين في جميع الدول، على رأسها الولايات المتحدة، سخيفاً، فارغاً ومصمماً لكي يلتهي به العوام، بينما الحكومات الوطنية، وما يتجاوزها من مؤسسات دولية متخطية لحدود الدول، تتصارع على وضع يدها بشكل أوثق على رأس عصا التحكم، التي تدير دفة سياسة/اقتصاد العالم. وهؤلاء هم من يعلمون حقيقة اللعبة الأكبر.
ربما يرى كلا طرفي هذا الشقاق النخبوي المالي المتحكم باقتصادي العالم، الحقيقي والاشتقاقي، أن كل دولة عليها أن تلتزم وترضى بالدور الذي رُسِم لها. فالصين يجب أن تظل مصنع للعالم يمدنا بالبضائع الرخيصة، بينما على روسيا أن تلتزم بدورها في مدنا بالطاقة الأحفورية الرخيصة. وعلى البرازيل وأخواتها في أمريكا اللاتينية، أن تظل جمهوريات موز، وباحات خلفية لأمريكا الشمالية، وتلتزم بأن تستغل مواردها الطبيعية بأبخس الأثمان، وأن تتبع ما يملى عليها بخصوص تحالفاتها القارية وعبر القارية. وغير ذلك من الأدوار التي لم تترك دولة إلا وحجمتها وحددت لها قوالب يجب عليها أن تتأقلم مع شكلها المحدد.
وإذا ما فكرت إحدى الدول أن تفارق حدود هذا القالب المصبوب خصيصاً لها، تنهال عليها لعنات البروباغندا وأثقال العقوبات وموانع التجارة والتعامل الدولي، لمحاولة إقصائها تماماً خارج هذا النظام الدولي الذي يطلقون عليه في نسخته الأحدث، The rules-based order.
وهذه الـ rules هي بالضبط ما تحاول باستمرار، وتنجح مرات وتفشل مرات في كسرها، دول على رأسها الصين، روسيا، إيران، كوبا، فنزويلا، البرازيل، الهند وغيرهم، بدرجات متفاوتة بالطبع. في حين يتفق البعض مع الجملة الساداتية الشهيرة: “٩٠% من الورق في إيد أمريكا”، بينما يحاول هؤلاء اللاعبون أن يكسبوا بعض الأدوار على طاولة اللعب الدولية، ولو ببضع كروت هي المتاحة في أيديهم.
لذلك لا أرى أية قيمة مضافة في تأكيد سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي؟ ما الجديد؟
إذا كان المقصد هو تشخيص للحالة الدولية، وهو تشخيص سليم، فلماذا يشعر الكثير منا أن محاولات المشاكسة، لعب أدوار أكبر، أو حجز رقعات أوسع تؤمن مصالح من هم في مواجهة أمريكا أحياناً، هي مدعاة للسخرية، أو الشماتة حينما لا تنجح إلا بنسب؟ لن يخترع أحد عالماً بديلاً، هذا هو عالمنا، وما تستخدمه هذه الدول من وسائل، هو المتاح على طريقها في هذا الكفاح. هذا أمر لاحظته بالفعل، وصعب عليّ تفسيره.
فهذه الدول سارت بشكل متدرج في برامج طويلة الأجل، ونجحت في كسب أرض، وتحقيق أهداف، وحماية مصالح، وفرض نفسها كطرف جدير بأن يجلس معه على مائدة مفاوضات. ما هي المتعة في عدم رؤية هذه الحقيقة، أو الاستخفاف بها؟ لا أعلم. بل إن ما تفعله هذه الدول، هو بالضبط ما نتمنى أن تقوم به دولنا التي تنتمي لأدغال بوريل. فكيف ندعو أنفسنا لاحترام مصالحنا والصمود في سبيل الدفاع عنها، وحين يحاول غيرنا فعل ما نتمنى، نلومه أو نستخف به؟ تناقض يستحق التأمل!
أمريكا، السوبراناشيونال والمشاكسون
لكن وعلى الجانب الأهم، حين تحتدم المواجهات المالية بين نخب النظام المالي الدولي، لم لا نتعمق في تحليل هذه السطوة الأمريكية المالية، لكي نفهم منابع هذه القوة ومدى هذا التحكم. ربما يساعدنا أيضاً التعمق على فهم المواجهات الدولية، هل هي فعلاً مقتصرة على مواجهة أمريكا وحلفائها للمشاكسين، أم أن المواجهة الأهم تجري ما بين من يسمون بالحلفاء، وهي مواجهة متخطية لحدود الدول والجنسيات Supranational.
يبدو أن الصراع يتأجج بين أصحاب مشروع The Great Reset وأعوانهم من جانب، والدافعين نحو مشروع America First على جانب آخر، مع رقعة ثالثة، محجوزة للمشاكسين الذين يحاولون حجز موقع أكبر لدولهم في هذا الشطرنج الدولي الاستراتيجي، كالصين وروسيا.
يظهر أن الكفة تميل ناحية شعار “أمريكا أولاً” حتى الآن. فهل يستمر تغلبها على النخب المالية المنافسة في هذه المرحلة من الصراع الذي تتقارب سطوة وقوة طرفيه؟
يظهر اللاعب الأوروبي في حالة يرثى لها حالياً، بينما المشاكسون، أحدهم يجري تحجيمه مؤقتاً في مجال صناعة الميكروشيب ومشروعه التصنيعي 2030، بينما يتمترس هو داخلياً ويعزز دعائم نظامه السياسي. وفي المواجهة تجد شركات مثل nVidia وAMD الأمريكيتين تتأثر بمحاولات أمريكا عرقلة هذا المنافس، وعلى المدي الطويل لا فكاك من أنه سيتوصل محلياً لتصنيع المكونات المرنة software الصلبة manufacturing components والذكية AI Chips التي حرمته منها أمريكا في مجال صناعة الميكروشيب، وتستمر المواجهة، برغم محاولات العرقلة والتعطيل الأمريكية. هذه هي الصين.
كذلك يحاول المشاكس الاستراتيجي الآخر وهو روسيا، عبر محاولة فرض واقع عسكري في محيطه، وفرض شروطه في مجال الطاقة، لكن أمريكا بالمرصاد له وبشكل غير مباشر، عبر تحريك دمى مثل أوكرانيا، بينما تحاول معاقبته اقتصاديا، محاولة منعه من سداد ديونه لحملة سنداته، وتحويل اعتمادية الطاقة عن اتجاهه، بإيجاد بدائل هنا وهناك، وهو ما لا يسهل تحقيقه، وتتضاعف تكاليفه. في وقت لا تقدر أوروبا على تحمل ذلك، خاصة عندما تجد نفسها مضطرة أن تشارك أمريكا في حربها بالوكالة، بينما تنهار مؤشرات اقتصادات الدول الأعضاء في اتحادها الذي يحتاج لإنعاش، ولا يجد إلا ضربة ثقيلة في صورة سندات أمريكية مغرية للمستثمرين بزيادة فوائدها من ناحية، وعملية تحول محيرة في مؤشرات المعاملات من ليبور إلي سوفر، الذي يقوم بتضييق مساحة التلاعب، ويفيد سوق المال الأمريكي على حسابها، مع قرارات تضعف أسواق اليورو دولار من ناحية ثانية، بينما لا تجد روسيا نفسها في عجلة من أمرها. خطوة للأمام، خطوة للخلف. حشد قوات إضافية، َاستبدال قوات رسمية، بمرتزقة فاجنر أو شيشانيين وغيرهم من مسلحي الدونباس المحليين. بينما تطنطن كل الأصوات القادمة من الغرب عكس اتجاه الواقع بما يسمونه “هزائم روسية”. لكن الحقيقة هي أن ما يستنزف في حقيقة الأمر هو “أدواتهم”، في مواجهة بلا طائل.
وبينما تسمع بعض اصوات تكرر ما قرأته من خطط أمريكية لتقسيم روسيا إلى خمس دول. ومن هم وراء هذه الخطط يدركون كما يرى محللون ممن لا يكررون كلام الأماني وخطط التقسيم، أنهم لو خسروا أمام روسيا، هذه المرة على الساحة الأوكرانية، كما يحدث مرة بعد الأخرى منذ ٢٠٠٨، ستكون بمثابة أقوى ضربة استباقية لمثل هذه الخطط الحالمة.
لا يسعنا أن ندعو من يكتفي بنصف الحقيقة، أو يعتقد امتلاكها في جيبه، إلا إلى مزيد من التواضع، قليل من التسرع، وكثير من تنويع المصادر. ربما يقربنا ذلك جميعا من معرفة حقيقة الأمور.
زيارة أخيرة لحديقة بوريل
لنترك كل هذا جانبا، فالصراع الأهم في هذه اللعبة، ليس مواجهات تنافسية واضحة ومفهومة، وستنتهي بالتفاوض والتعاون المؤقت في مآلها، ثم نعود إلى مرحلة جديدة من المواجهة لاحقاً، مثل تلك التي تدور بين أمريكا و الصين، أو روسيا، أو حتى إيران، أو فنزويلا بأوزان نسبية أقل.
إنس الصين وروسيا لدقائق، فربما يجب أن يكون اسم اللعبة الحقيقية: صراع نخب السوبراناشيونال. وكلمة خاسر، تظهر حتى الآن فوق رأس اللاعب الأوروبي، الذي يعتقد أن حديقته مهددة من جهة “الأدغال” على حد قول جوزيب بوريل، بينما يكون التهديد الحقيقي لحديقته، قادم من جهة حديقة أخرى أكبر، وأخطر. واسمها ليس روسيا ولا الصين. ورقعة الصراع الأكبر ليست في أوكرانيا، وبالطبع ليست في تايوان.
الأمر يبدو أكبر من ذلك بكثير. ومنبع التهديد الذي تشعر بوطأته “الحديقة”، لا يخرج عن المسافة ما بين نيويورك وواشنطن.
لنستمر في مشاهدة اللعبة الكبرى إذن.. لكن في صورتها الحقيقية.
(*) الجزء الأول من هذه المقالة؛ فضيحة ليبور: هزالة أوروبا.. والحصون المالية الأمريكية (1)