شعوبٌ تتكلّمُ وتكتبُ غالباً باللّغة نفسِها، وتشترك أغلبيّتها السّاحقة بالثّقافة والدّين والتّاريخ وأهمّ العادات والتّقاليد. وأراضٍ غنيّة وواسعة، وموارد طبيعيّة استراتيجيّة ليس فقط بالنّسبة إلى العرب، وإنّما أيضاً بالنّسبة إلى العالم بأسْره. وموارد بشريّة وإنسانيّة لا حدودَ لها ولا طريقَ لقياسِها. وتراثٌ روحيّ وحضاريّ وثقافيّ وأدبيّ ووجدانيّ وعاطفيّ وفكريّ عظيم.. ولا يزالُ يتعاظمُ يوماً بعدَ يوم.
هل المشروع القومي العربي ـ بمختلف تجلّياته ـ هو مجرّد “خيارٍ” بالنّسبة إلى شعوبٍ كشعوبنا؟ بالطّبعِ لا: إنّه من صنفِ الواجب والضّروريّ أو يكونُ مصيرُنا أن نبقى متخلّفين حضاريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وروحيّاً.
لا بدّ لنا من السّير في طريقِ نهضةٍ عربيّةٍ وَحدويّة وشامِلة، تتقبّل في داخلها مختلفَ شعوب الدّول العربيّة، مع احترامٍ لخصوصيّاتها وميزاتِها وأبعادِها الجزئيّة المتنوّعة.
العقلُ يقولُ بذلك، والقلبُ يقولُ بذلك، والمنطقُ والدّينُ والأخلاقُ والشّرفُ والمسؤوليّةُ.. والبراغماتيّةُ حتّى: لا بدّ من السّير في مشروعٍ نهضويٍّ وقوميٍّ عربيّ! وهذا ما فهمَتْه نخبةٌ من العَرَبِ في أوائل مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثّانيّة (أو مرحلة تراجع الاستعمار الفرنسي-الإنكليزي القديم). وقد وصلَ الضّابطُ المصريُّ “النّاصرُ”، القائدُ العربيُّ المُخلَّدُ، الرّئيسُ جمال عبد النّاصر، إلى مقامِ الرّمزِ بامتياز لهذه الموجة القوميّة العربيّة (أو العروبيّة) الكبرى.
رأى “النّاصرُ” أغلبَ المشهَدِ المصريّ والعربيّ ـ المعاصر له ـ بشكل صحيح: شعوبٌ وأراضٍ تملكُ طاقاتٍ هائلة كما ذكرنا، وما يجمعها عظيمٌ ومجيدٌ في أغلبه.. وهو أكبر ـ بكثير ـ ممّا يُفرّقها. وفي سَيرِها مع بعضها البعض، ضمن مشروعٍ نهضويّ وقوميّ مشترك، فائدةٌ هائلةٌ لا ريبَ فيها.
ورأى “النّاصرُ” أيضاً أنّ ما يجعلُ دورَ “مِصر” جوهريّاً ومحوريّاً، ويحافظ على وضعيّتها القياديّة، في شمال أفريقيا وفي أفريقيا وفي الشّرق الأوسط هو ذاك المشروعُ نفسُه. “مصر قائدة العروبة” هي مشروع دولة عظمى بامتياز. أمّا مصر من دون قيادةٍ للمشروع العربي، فهي دولة إقليميّة شبه-عاديّة، تعاني الفقرَ والعَوَز.. وتستجدي الفرنجةَ والانكليزَ والأمريكان، وقليلاً من البترو-دولارات وما يجمَعون.
كان لا بُدّ للنّاصرِ “جَمالْ” من تفجيرِ ثورةٍ كُبرى في القلوب العربيّة، وفي العقول العربيّة.. وأيضاً في الدّول والجيوش العربيّة.. ومن زلزلةِ الأرضِ تحتَ المستعمرِ وعملائه، حتّى يندحِروا أو يُوَلّوا الأدبار مُهرولين. وكانت فلسطين، إلى جانب الجزائر، القضيّةَ المركزيّة والأساسيّة
أصابَها الرّئيس الرّاحل جمال عبد النّاصر بامتياز: عاطفيّاً وتاريخيّاً ودينيّاً وسياسيّاً وجيو-سياسّياً. مشروع قيامة مصر مرتبطٌ بمشروع قيادة المشروع القومي العربي.. ومشروع النّهضة القوميّة العربيّة مرتبطٌ بمشروع النّهوض بمصر.
وكلّ ذلك لا يستقيمُ، طبعاً، مع وجود الاستعمار وأدواته، وعلى رأس هذه الأدوات: العدو المسمّى عدواناً وطغياناً “دولةَ إسرائيل”. لذلك، كان لا بُدّ للنّاصرِ “جَمالْ” من تفجيرِ ثورةٍ كُبرى في القلوب العربيّة، وفي العقول العربيّة.. وأيضاً في الدّول والجيوش العربيّة.. ومن زلزلةِ الأرضِ تحتَ المستعمرِ وعملائه، حتّى يندحِروا أو يُوَلّوا الأدبار مُهرولين. وكانت فلسطين، إلى جانب الجزائر (المُسلمة و”إلى العروبةِ تنتسِبْ”.. كما أوصى “ابنُ باديسِها” الحبيب) القضيّةَ المركزيّة والأساسيّة.
اقتنَعَ “النّاصرُ” سريعاً ألّا قيامةَ لعرَبِنا (ولإسلامِنا ولمسيحيّتنا) إلّا بالتّخلّص من هذا الكيان “الإستكباري” السّرطاني الخطير الذي زُرعَ عندنا ظُلماً وبَغياً وإفساداً في الأرض، وبهدف زعزعة استقرار المنطقة وتقسيمها وإضعافِها إلى يومِ يُبعثون.. وبقصدِ منع أيّ مشروعٍ نهضويٍّ سليمٍ فيها. رآهُ ثكنةً عسكريّةً عُنصريّةً استعماريّةً على أرضنا. وفهمَ أنّ مشروعَيْ مِصر والعرَب لا يقومان إلّا باستعادة ما نهبهُ الصّهاينة من أرضٍ ونفوذٍ وكرامة.
عملَ الرّجلُ ليلاً ونهاراً. جاهدَ في سبيل هذا المشروع جهادَ كرامِ المصريّين وكرامِ العرب، وجهادَ أئمّةِ المسلِمين وحماةِ المستضعَفين وأمراءِ المؤمنين. لا أُفاجأ أبداً بنظريّةِ أنّهُ ماتَ بسبب الإرهاق والإجهاد. لا يفاجئني الأمرُ أبداً: إذْ كان “النّاصرُ” ناصراً بكلّ معنى الكلمة.. ناصراً لأهل بلده، ولأهل قوميّته، ولأهل منطقته ودينه.
أخطأ “النّاصرُ” أيضاً، لا ريب، كأغلبِ البشر. ربّما تسرّعنا في مسألة التّبنّي المستعجل للاشتراكيّة الأوروبيّة في بلادنا. ربّما ذهبنا بعيداً في استنساخ الأنظمة ذات الطّريقة السّوفييتيّة القمعيّة. ربّما بالغنا قليلاً (أو كثيراً) في الأمنِ والعَسكَرة ومشروع الوحدة. ربّما “زدناها” قليلاً في الشّخصنة.. أو لربّما كان علينا أن نتحالفَ بشكل واضحٍ وصريحٍ أكثر مع موسكو.. أو أن نحاور التّيّارات الإسلاميّة بشكل أكثر ليناً وبراغماتيّة.
لا شكّ في أنّ “النّاصرَ” قد أخطأ، وفي كثير من الأشياء، كغيرهِ من القادة والبشر. ذكرنا بعض الأخطاء هذه، ولم نذكر بعضها الآخر. ولكنّ الحبيبَ “جمالْ” ـ لا جَرمَ ـ قد أصابَ جُلَّ القضيّةِ كما لمْ يُصبْهُ أحدٌ من صفّه ربّما، وعرفَ مربطَ الفرسِ بالنّسبة إلى مصر وبالنّسبة إلى العرب.
سارَ جمال عبد النّاصر ـ بلا أدنى شكّ ـ في الاتّجاه الصّحيح؛ وكان يُسافرُ بشعوبِ منطقتنا نحو مستقبلٍ أفضل بالتأكيد.
لكن، ماذا حدثَ بعد ذلك إذن؟ أين ذهبَ هذا العمل وكيف نامَ هذا الحلمُ مع النّيّام؟ في الجزء الثّاني من هذا المقال، سنحاول الدّفاع عن فكرةٍ مفادُها أنّ هناك توجّهاً مركزيّاً خاطئاً حصلَ في مصر ـ بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ ـ وهو المسؤول الأساسي عن تراجعٍ وسباتٍ عربيَّين طاغيَين إلى يومنا هذا.. في مصر وفي منطقتنا العربية كلّها.
أختم بهذا المقطع من أغنية “الوطن الأكبر” الذي غُنيَّ بصوت من لا صوت كصوته؛ أي الفنّان العظيم عبد الحليم حافظ:
“وطني، يا مالكْ حبكْ قلبي
وطني، يا وطن الشّعب العربي!
يا اللي ناديت “بالوحدة الكبرى”
بعد ما شفت “جمال” الثـورة!
إنت كبير… وأكبر كتير…
من الوجود كله… من الخلود كله
يا وطني…!”