صادق مجلس شورى الدولة على قرار ديوان المحاسبة الصادر بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 2020 والذي شكّل أساساً لهذه السابقة، وألزم فيه وزير الأشغال العامّة والنقل الأسبق محمد الصفدي بدفع غرامة بقيمة مليونين و500 ألف ليرة لبنانية، بالإضافة إلى غرامة تساوي راتب ثلاثة أشهر تحتسب بناء على الراتب الذي كان يتقاضاه عندما كان وزيراً. وللتذكير، كانت المخالفة تتعلّق بتلزيم مشروعِ إقامة جسور في منطقة البحصاص – طرابلس، بناء على خرائط أوّلية وقبل استكمال الدراسة العائدة له، مع علم الوزير المسبق بعدم إمكانية تنفيذ المشروع.
بعد قرار ديوان المحاسبة، تقدّم الصفدي بطلب نقض للقرار أمام مجلس شورى الدولة. تذرّع بعدم صلاحية الديوان في محاكمة أيِّ وزير ماليّاً، على أساس أن مثل هذه الصلاحية تبقى منوطة حصراً بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
من المتوقع أن يُشكّل قرار “شورى الدولة” مرجعاً في محاسبة وملاحقة كلّ فاسد تولّى وظيفة عامّة، وهدَرَ المال العامّ، أو سوّلت له نفسه السمسرة بصفقات عمومية ومناقصات وعقود تلزيم
في القانون، قرار “شورى الدولة” القضائيّ هو قرار تاريخيّ. لماذا؟ لأنه أصبح من الممكن محاسبة “وزير” أمام الهيئات القضائية من خارج مجلس النواب. هذه هي السابقة. وهنا تكمن أهمّية الاجتهاد. أكانت المحاسبة من قِبل ديوان المحاسبة أو القضاء العدلي.
يتقاطع هذا القرار مع نظرية وجوب محاكمة الوزير إن كان مرتكباً كأي مواطن عاديّ.
إلا أنّ إثبات هذه النقطة تحديداً لم يكن مهمّة سهلة. فالمادّتان 70 و71 من الدستور تنصّان على أنّ رئيس الحكومة والوزراء يحاكَمون أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء (“لمجلس النواب أن يتّهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء لارتكابهم الخيانة العظمى أو لإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم، ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس (الأعلى)، على أن يُحاكَم الوزير المتّهم أمام المجلس الأعلى”).
لذا، كان يقتضي البحث في مدى صلاحيّة ديوان المحاسبة في مساءلة “الوزراء” على ضوء الأحكام القانونية النافذة. وهو ما قدّمه قرار مجلس شورى الدولة.
فصحيحٌ أنّ قانون تنظيم ديوان المحاسبة، ينصّ على:
– أنّ ديوان المحاسبة محكمة إدارية تتولّى القضاء المالي، مهمتها السهر على الأموال العمومية والأموال المودعة في الخزينة العامة.
– مراقبة استعمال هذه الأموال ومدى انطباق هذا الاستعمال على القوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء.
– محاكمة “المسؤولين” عن مخالفة القوانين المتعلّقة بها.
إلا أنّ الدستور يتقدّم على القوانين. وهو يُلزم ملاحقة ومحاكمة الوزراء من قِبل محكمة خاصّة.
تقنيّاً، هذه المعضلة في تفسير النصّ الدستوريّ، توضح سبب عدم قيام ديوان المحاسبة بمساءلة وزير أخلّ بواجباته، وتغريمه سابقاً، أي قبل تغريم الوزير محمد الصفدي، لعدم تأكّده من قانونيّة هذه الخطوة. إلا أنّ “الشورى” حسمها. وقال في قراره صراحةً: أصبح من الممكن ملاحقة أي وزير مالياً واعتباره مسؤولاً عن أمواله الخاصة (عملاً بقانون المحاسبة العموميّة). والأهمّ، اعتبر أنه لا يوجد أيّ نصّ خاصّ يمنع محاكمة رئيس حكومة أو وزير أمام القضاء العدلي أو الماليّ المختصّ.
عليه، يكون ديوان المحاسبة صالحاً لفرض الغرامات على الوزراء. أكثر من ذلك، وسّع “شورى الدولة” رقابة ديوان المحاسبة إلى حدّها الأقصى لتشمل أعمال الوزير، حتى ولو كانت الأحكام القانونية قد منعت أي ملاحقة ماليّة للوزير، أو إذا كانت أجازت أو لا تجيز مثل هذه الملاحقة أمام ديوان المحاسبة. كما كرّس هذا الاجتهاد نهجاً جديداً في محاسبة كلّ متهم بهدر الأموال العامة.
هذا الامر يتماشى مع النهج المتّبع في دول القانون والديمقراطيات المتقدّمة والتي تحدّ من الامتيازات والحمايات لمن يتولون السلطات السياسية والعامة خصوصاً الوزراء، وتجعل موجباتهم بمرتبة أي مواطن عادي، فيُخضَعون لنظام المحاسبة
ومن المتوقع أن يُشكّل قرار “شورى الدولة” مرجعاً في محاسبة وملاحقة كلّ فاسد تولّى وظيفة عامّة، وهدَرَ المال العامّ، أو سوّلت له نفسه السمسرة بصفقات عمومية ومناقصات وعقود تلزيم.
هذا القرار، معطوف عليه قراران سابقان للهيئة العامة لمحكمة التمييز، يجيز للقضاء العدلي ومعه بقيّة الأجهزة القضائية الحق بمحاسبة الوزراء على أفعالهم الجزائية والتقصيرية خلافاً للمنحى القديم. هذا الامر يتماشى مع النهج المتّبع في دول القانون والديمقراطيات المتقدّمة والتي تحدّ من الامتيازات والحمايات لمن يتولون السلطات السياسية والعامة خصوصاً الوزراء، وتجعل موجباتهم بمرتبة أي مواطن عادي، فيُخضَعون لنظام المحاسبة والمحاكمات.
وفي ما يلي أدناه النص الكامل للقرار الصادر عن مجلس شورى الدولة بتاريخ 27 نيسان/أبريل 2023.