بالأرقام اللبنانية.. “هفوة حاكم” و”بؤس محكومين”!

سُئل حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة "كيف بدأت الأزمة الماليّة اللبنانيّة ومن تسبب بها"، فأجاب: "بدأت الأزمة في أواخر العام 2019، عندما تسبّبت التحركات الشعبية بإقفال قسريّ للمصارف".

ثلاثة أسابيع كانت كفيلة بإعدام الثقة في القطاع المصرفي، “فتحوّل الاقتصاد إلى نقديّ”. إلا أنّ التاريخ الفاصل هو قرار حكومة حسّان دياب وقف سداد ما يتوجّب على الدولة من سندات اليوروبوندز. هكذا وقع الـdefault. ضعفت الليرة أكثر وتهاوت.. فانهارت قدرة الدولة على الإيفاء بديونها.

أما أزمة الودائع، فبدورها بدأت مع توقف الدولة عن تسديد مستحقاتها الخارجية. نتيجة ذلك، خسرت المصارف حوالى 15 مليار دولار من سيولتها بالدولار. كما تكبّدت 35 مليار دولار كانت قد أقرضتها للقطاع الخاص الذي سدّدها شيكات مصرفية أو بالدولار المحلّيّ ففقدت بدورها قيمتها. ولأنّ الدولة لم تُعد إلى المصارف الأموال المقترضة، أضاعت المصارف تقريباً كلّ شيء”.

بهذه التبريرات خلال إطلالة إعلاميّة له في شباط/فبراير 2023، اختزل حاكم مصرف لبنان الأزمة برمّتها. من وجهة نظره، لا أسباب للانهيار غير المسبوق سوى امتناع لبنان عن سداد اليوروبوندز. ماذا عن كل السياسات المالية والنقدية منذ 1993 حتى 2023؟ لا جواب.

هكذا، أعاد الرجل المحنّك إحياء قضيّة اليوروبوندز. أراد رياض سلامة بكلامه نقل المسؤوليّة وتوجيهها إلى حسّان دياب وحكومته للظهور على شكل كبش محرقة. برأيه، الأوضاع كانت جيدة إلا أنّ الـdefault وحده خرّب البلد وأفلس المصارف.

وخلال استجوابه من قِبل الوفد القضائي الأوروبي، أوحى سلامة بأنّ سياساته وقراراته وتعاميمه كلها كانت بتغطية من الحكومات المتعاقبة. تالياً، لا مسؤولية مباشرة عليه أو على المصارف علماً أنّ الإقراض الحكومي بالقانون.. ممنوع.

على عكس ما يوحي به رياض سلامة، كان لبنان مقبلاً على التعثّر لا محالة. فعندما تفوق الأصولُ المجمَّعة للمصارف التجارية أكثر من 4 أضعاف الناتج المحلّي الكلّي، ذلك دليل عدم صحّة للاقتصاد. وعندما تتعدّى قيمة الودائع في المصارف 3 أضعاف هذا الناتج، فذلك يعني مرض الاقتصاد

المسؤوليّة والمحاسبة

للتذكير، اتّخذت حكومة حسّان دياب قرار الامتناع غير المنظّم عن الدفع من دون أي تفاوض جدّي مع الدائنين. اتّبعت نهج الصرف العشوائي للاحتياطي المتبقّي على دعم السّلع الذي استفاد منه المستورد والتاجر، ناهيك عن نشوء فئة إجتماعية جديدة مستفيدة من الأزمة والدعم بأشكاله كافة.

لذا، هي تتحمّل نتائج أيّ ادّعاء من قِبل حاملي هذه السندات ضدّ الدولة اللبنانيّة مستقبلاً. كما تتحمّل حكومة دياب “جزءًا” من نتائج عزلة لبنان المالية دولياً، على اعتبار أنّ وكالات التصنيف الدولية، وقبل ولادة حكومة دياب، خفّضت التصنيف الائتماني للدولة إلى مستويات متدنية من -B إلى -CCC في الفصل الأخير من العام 2019. عليه، لم يعد للدولة اللبنانيّة إمكانية اللجوء إلى الأسواق المالية العالمية لتمويل احتياجاتها. ومنذ ذلك التاريخ، بدأت أسعار سندات اليوروبوندز في الأسواق المالية العالمية تتخّذ مساراً انحداريّاً.

لكنّ الحكومة المذكورة لا تتحمّل وحدها تبعات الفساد المالي، وانهيار القطاع المصرفي وعجز المالية العامة وميزان المدفوعات والحساب الجاري. وهي بالطبع لا تتحمّل مسؤولية سوء توظيف ودائع الناس من قِبل المصارف. كما أنها ليست مسؤولة عن الارتفاع المُفرط في حجم الدَين العام، ولا حتى عن أكلاف أسعار الفائدة وانعكاسها على خدمة الدّين العام والاقتصاد والاستثمارات أو عن توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان (وتلك قضيّة أخرى).

هي ليست المسؤولة عن إقراض المصارف للدولة، ولا عن البيع الكثيف من قِبل المصارف اللبنانية لسنداتها من اليوروبوندز لمصلحة الدائنين الأجانب. ولا عن وهب هؤلاء الدائنين لحق “الفيتو” لحيازتهم أكثر من 25% من الاستحقاق. ولا حتى عن عرقلة مسار إعادة هيكلة الدين من قِبل بعض المستثمرين في التوقف عن الدفع عبر مبادلة مخاطر الائتمان، (الـcredit default swaps CDS).

وعلى عكس ما يوحي به رياض سلامة، كان لبنان مقبلاً على التعثّر لا محالة. فعندما تفوق الأصولُ المجمَّعة للمصارف التجارية أكثر من 4 أضعاف الناتج المحلّي الكلّي، ذلك دليل عدم صحّة للاقتصاد. وعندما تتعدّى قيمة الودائع في المصارف 3 أضعاف هذا الناتج، فذلك يعني مرض الاقتصاد. تمثّل هذه النسب عمليّاً، أرقاماً غير مألوفة في الاقتصادات العالمية، وتحدّ من قدرة الخزينة، للّجوء إلى المال العام، (من إيراداتٍ ضريبية وعائدات مؤسسات إنتاجية وأُصول عامة)، لسدّ فجوة مصرف لبنان المركزي، وإعادة ھیكلة دیون الدولة.

زدْ على ذلك، أنّ المشكلة الحقيقيّة لا تكمن بحجم سندات اليوروبوندز، بحدّ ذاتها. فمع انخفاض سعرها للـ7 سنتات، باتت سندات اليوروبوندز كلها تساوي 2.9 مليار دولار (مع اقتراحات شرائها لتقليص عبء الدين الخارجي).

يمكن حصر واقع الكارثة:

1- بودائع المصارف بالدولار لدى مصرف لبنان (وهي تبلغ بحسب آخر أرقام جمعيّة المصارف 86.6 مليار دولار).

2- بتحويل المصارف الهائل للديون السيادية المقومة بالدولار الأميركي للجهات والصناديق الأجنبية، الامر الذي ساهم الى حدّ كبير في عرقلة إعادة هيكلة منظمة لالتزامات سداد الديون.

فعلى سبيل المثال، ووفقًا لبيانات مصرف لبنان وبنك أوف أميركا، باعت البنوك اللبنانية ما يصل إلى 500 مليون دولار من السندات الأوروبية للجهات الأجنبية بين أكتوبر (تشرين الأول) و31 ديسمبر (كانون الأول) 2019، بينما تم بيع 3 مليارات دولار أخرى في الربع الأول من عام 2020. وبحسب تقارير أخرى، تم بيع 1.7 مليار دولار للجهات الأجنبية بين شهري 1 يناير (كانون الثاني) و15 فبراير (شباط) 2021. وقد حوّلت هذه الأموال الى الخارج من دون أن يُعاد فلسٌ منها للمودعين.

إقرأ على موقع 180  لبنان أمام عام دراسي صعب.. وهجرة جماعية إلى التعليم الرسمي

3- بواقع أنّ الجزء الأكبر من فجوة مصرف لبنان المالية البالغة نحو 77 مليار دولار ذهبت لدعم سعر الصرف والتدخل في سوق القطع، كما ذهبت لتسديد الفوائد الهستيرية (منها الهندسات المالية) نتيجة الاقتراض من المصارف أيضاً لتثبيت سعر الصرف، يُضاف إليها دعم القروض للقطاع الخاص والتسليفات لشراء الفيول لزوم كهرباء لبنان وأكلاف دعم الدواء والكهرباء والقمح وصولاً الى الإقراض الحكومي.

بمعنى أبسط: لم تُخصّص كلّ الأموال المتبخّرة لتمويل الدولة المحظور أساساً في القانون.

من المسؤول بالأرقام؟

سيكون من شبه المستحيل سدّ الفجوة المالية على المديَين القصير والمتوسّط. يتجلّى هول الواقعة لدى مقارنة حقوق المودعين، التي توازي حالياً 93.5 مليار دولار. فيما تُقدّر قيمة الأصول السليمة المتبقية في القطاع المصرفي ككل، بـ21 مليار دولار (هي على درجات مختلفة من السيولة، أي القدرة على التصرف بها فورياً).

تتكوّن هذه الأصول من:

– 10 مليارات دولار من احتياط البنوك الالزامي لدى مصرف لبنان، ما هو أقل من الاحتياط القانوني الذي يجب أن يوازي 13 ملياراً (أي 14٪ من قيمة الودائع).

– 4 مليارات دولار من التوظيفات الخارجية للبنوك (تقابلها توظيفات بمبلغ مماثل من بنوك خارجية (وهي مستحقّة بقيمتها الاسمية، ما سوف يُقلّص من قيمة الأصول السليمة).

– 6 مليارات دولار تمثّل محفظة قروض القطاع الخاص غير المتعثرة.

– سندات اليوروبوندز بقيمة سوقية ضئيلة لا تتعدى المليار دولار.

تُقدّر فجوة القطاع المصرفي، بـ 71.2 مليار دولار بين مصرف لبنان والمصارف التجارية.

 في مصرف لبنان، يلامس مجموع الخسائر الـ58.2 مليار دولار منها:

– 53 مليار دولار معظمها نتيجة سياسة دعم الليرة.

– 2.8 مليار دولار بسبب تخلّف الدولة عن تسديد سندات اليوروبوندز وهبوط قيمتها السوقية.

-2.4 مليار دولار خسائر أُخرى.

أما في المصارف التجارية، فيُقدّر مجموعُ الخسائر بـ 13 مليار دولار منها:

– 6 مليارات دولار نتيجة انهيار سعر الصرف.

– 2 مليار دولار نتيجة التخلّف عن تسديد سندات اليوروبوندز وهبوط أسعارها.

– 5 مليارات دولار نتيجة تعثُّر محفظة قروض القطاع الخاص، وخسائر أخرى.

الجزء الأكبر من فجوة مصرف لبنان المالية البالغة نحو 77 مليار دولار ذهبت لدعم سعر الصرف والتدخل في سوق القطع، كما ذهبت لتسديد الفوائد الهستيرية (منها الهندسات المالية) نتيجة الاقتراض من المصارف أيضاً لتثبيت سعر الصرف، يُضاف إليها دعم القروض للقطاع الخاص والتسليفات لشراء الفيول لزوم كهرباء لبنان وأكلاف الدعم، فضلاً عن الإقراض الحكومي

ذلك فيما خصّ الخسائر. أمّا في تحديد توظيفات المصارف التجارية ووجهة استعمال أُصولها، فقد ساهمت عوامل وإجراءات عدَّة في استنفاد الودائع المصرفية المقّومة بالدولار، كان من الممكن تفادي مفعول الجزء الأكبر منها لا سيّما في الشقّ المتعلّق:

  • بانكشافُ البنوكِ المُفرِط على المخاطر السيادية. وقد تعدّى انكشاف المصارف التجارية على المخاطر السيادية اكثر من 5 أضعاف قيمة رساميلها (حوالي 22 مليار دولار قبل الأزمة)، في حين تُحدّد المعايير الدولية سقفاً للانكشاف على مدين واحد لا يفوق 20٪ من رأس المال. بتعبير أبسط، تجاوز هذا الانكشاف الحدّ الاحترازي بـ25 ضعفاً.
  • بسياسة البنك المركزي بالاستحواذ غير المقيّد على الودائع بالعملات الأجنبية لتمويل نظام الربط الثابت بين اللّيرة اللبنانية والدولار الأميركي. بالإضافة الى الاستمرار بسياسة دعم العملة الوطنية برغم نضوب التدفقات المالية، خصوصاً بعدما غدا ميزان المدفوعات سلبياً منذ العام 2011.

 بلغ مجملُ انكشاف المصارف التجارية لدى البنك المركزي 85.2 مليار دولار، استعملها الأخير على النحو الآتي:

– 10 مليارات دولار من الاحتياطي الإلزامي مُتوفِّرة كسيولة.

– 35 مليار دولار لدعم سعر الصرف.

-10 مليار دولار تمويل الدولة (بما فيه كهرباء لبنان).

– 20 مليار دولار كلفة فرق فوائد دائنة ومُدينة (هوامش سلبية) بما فيه وقع “الهندسات” المالية.

– 5 مليارات دولار للقروض المدعومة من سكنية وغيرها.

– 5.2 مليار دولار سندات يوروبوندز.

كلّ هذه الأرقام تبيّن أنّ الترويج لما مفاده أنّ “الدولة”، مسؤولة عن ديون مصرف لبنان وعجوزات ميزانياته.. هالكٌ. أولاً لأنه في الأساس محظور على البنك المركزي إقراض الدولة. وثانياً لإنّ ميزانيات البنك المركزي كانت تمرّ من أمام أعين كل الوزراء والمدراء العامين المتعاقبين في وزارة المال، من دون أن يتّخذ هؤلاء إجراءات تصحيحيّة. وثالثاً لأنّ الفجوة الماليّة ليست كلها نتيجة التخلف عن سداد اليوروبوندز. ورابعاً لأنّ السياسات المالية منذ العام 1993 كانت تتمّ بالتواطؤ مع الحكومات، وبذلك يكون الوزراء كأشخاص متواطئين مع حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف. هم المسؤولون عن الأزمة. هم مختروعها. أما المعالجة فلن تكون ببيع أصول الدولة، وهي ملك للشعب، لتغطية الخسائر بل بالحجز على الأموال والأصول الخاصة لهؤلاء.

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  بيروت.. ستنهض