تسمح لحظة الهدن بتخفيف الضغوط التي يتعرّض لها القادة المسؤولون عنها من قبل مجتمعاتهم والمجتمعات الأخرى. ذلك بغية إظهار أنّهم يُعيرون انتباهاً لمعاييرٍ غير القتال والانتصار، وبينها المعايير الإنسانيّة. ولكنّها أيضاً نتيجة تفاوضٍ بين طرفي الحرب، يقيس كلّ منهما موازين قوّته مع الآخر، ولحظةً تتأمّل فيها الأطراف استراتيجيّتها وتستجمع قواها للمعارك القادمة.
لا تخرج هدنة حرب إسرائيل الحاليّة على الفلسطينيين عن مثل هذه السياقات. مواضيعها المُعلَنة تتمثّل في تبادل الأسرى ووصول المساعدات إلى غزّة، حيث يسود الجوع والحاجة. وما كان للقادة الإسرائيليّين القبول بها إلاّ من جرّاء انقلاب أغلبيّة الرأي العام العالمي على أكاذيب تبرير حربهم، بأنّ ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر كان “محرقةً” (هولوكوست) ثانية لليهود. واللافت للإنتباه أنّ التكذيب جاء من إسرائيل ذاتها التي نشرت وسائل إعلامها كيف أنّ فوضى الجيش الإسرائيلي يومها هي التي أدّت إلى مصرع أكثر من نصف الضحايا الإسرائيليين وأغلب المدنيين.
لكنّ انقلاب الرأي العام العالمي شعبيّاً لم يرافقه انقلابٌ مماثل على صعيد كثيرٍ من الحكومات والقوى المهيمنة في الغرب. هكذا ما زالت وسائل الإعلام الكبرى في هذا الغرب تفرّق بين أسرى ورهائن، أطفالاً ونساءً وكباراً بالنسبة للإسرائيليين، مقارنةً مع نساءٍ و”من هم دون التاسعة عشرة” بالنسبة للفلسطينيين، حيث يُنزَع عنهم وصف الطفولة قصداً. الإسرائيليّون رهائن. الفلسطينيّون أسرى، برغم أنّ معظمهم لم يحصلوا على محاكمة ويعودون إلى مناطق أهلهم التي تحتلّها إسرائيل أصلاً، ويمكنها أن تعيد أسرهم في أيّ وقت. خاصّةً أنّ لا هُدنة في حرب الضفّة والقدس. ولا تأخذ مشاهد سلوك المقاومين الفلسطينيين حيال أسراهم قبل تحريرهم سبيلها إلى المُشاهد الغربي، وتمنع القوّات الإسرائيليّة المقابلات مع محتجزيها المحرّرين. هذا في حين يبقى حجم المساعدات الذي تمرّ إلى غزّة أقلّ بكثير ممّا كان يصلها ويمثّل حاجاتها قبل الحرب.
الهدنة هي بالتالي وسيلة لمعركة ٍعلى صعيد الرأي العام بانتظار استعادة القصف والقتال.
ولا تقلّ الأبعاد المضمرة لهذه الهُدنة، أهميّةً عن الأبعاد المُعلَنة. إذ شملت الهدنة أيضاً الأطراف الأخرى المنخرِطة في الحرب، وإن بصيغةٍ مختلفة عن تلك بين إسرائيل وفلسطين، أي لبنان والعراق واليمن. لقد التزم حزب الله أيضاً بالهُدنة. ما يعني أنّ تفاوضاً دوليّاً وإقليمياً أكبر يجري حول مآلات هذه الحرب. هل ستتوسّع أم سيتمّ إيقافها؟ وكيف؟
ما زال قادة الحكومة الإسرائيليّة يُصرّحون أنّهم سيعاودون الحرب حتّى القضاء على تنظيم حماس، ولا عودة لإدارة قطاع غزّة كما كانت عليه قبل 7 تشرين الأوّل/أكتوبر. وهم يمنعون الفلسطينيين خلال الهدنة من معاينة ما جرى من دمار في شمال القطاع. كما يُصرّحون أنّ هدف الحرب هو إبعاد حزب الله بشكلٍ دائم عن الحدود الشمالية، خاصّةً بعد تصاعد ضغوط هذا الأخير على القواعد العسكريّة المتاخمة. وما يعني أنّ القادة الإسرائيليين ذاهبون إلى توسيع مدى الحرب.
بالمقابل، يعمل قادة “كتائب القسّام” (الذراع العسكرية لحماس) على اختيار معظم الأسرى المحرّرين من الضفة الغربيّة والقدس، لكسب دعم الأهالي هناك لقضيّتهم، وكي تصبح حركة حماس لاعباً أساسيّاً في أيّ تفاوضٍ سياسيّ لاحق. هذا في الوقت التي تفقد فيه السلطة الفلسطينيّة وقيادات “فتح” هيبتها ومحوريّتها على الساحة الفلسطينيّة ويبرُز عجزها أمام هول الأحداث. وهذا الأمر يظهر واضحاً في موقف فلسطينيي الأردن. وفي لبنان، يحشد حزب الله قواه وجماهيره، حيث يكسب على صعيد الرأي العام اللبناني في طريقة إدارته للحرب والهدنة، حتّى لدى أغلب مناوئيه التقليديين.
يُمكِن التوجّه نحو وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار يُمهد لمفاوضات كبرى حول السلام والدولة الفلسطينيّة سعياً إلى ترميم صورة إسرائيل وداعميها التي أصبحت راسخة عالميّاً. صورة تشي بأنّها دولة احتلال استيطاني تنتهج الإبادة الجماعية، وأنّ الدول التي تناصرها هي دولٌ استعمارية. هذا يعني أنّ فلسطين تبقى رمزاً عالميّاً لمقاومة الاحتلال ومناهضة الاستعمار
على صعيدٍ آخر، يبرز خلال الهدنة دور وسطاء التفاوض بين حكومة بنيامين نتنياهو وحماس ومع الولايات المتحدة، خاصّةً دولة قطر. هذا الدور يجعلهم أيضاً في موقعٍ يُضْحون فيه هم وسطاء “حلّ” ما بعد الحرب. سواءً إدارة ما سيتبقى من قطاع غزّة بعد تدمير شماله واحتلاله وتهجير أهله أو حتّى الوعود حول “سلامٍ دائمٍ” بـ”حلّ الدولتين”. في حين تغيب عن الساحة دولتا “جوار” كان مفترضاً أن ترميا بثقلهما، وإن كانا على صعيدين مختلفين: السعودية وسوريا. بعد أن فقدت الدول الأوروبيّة الكبرى، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، مصداقيّتها إقليميّاً لما جلب به انقلاب الرأي العام في بلادها من انتقادات على سياسات القائمين عليها وعلى مدى تعديات “دولها العميقة” على حريّة التعبير. القيمة الأساسيّة في الديموقراطيّة هي حريّة التعبير، التي كانت من أكبر الخاسرين في هذه الحرب.
تركيا أيضاً بدت مُحيّدة برغم علاقاتها المميّزة مع كلٍّ من حماس وإسرائيل. وكذلك هو الأمر بالنسبة لروسيا والصين.
الخطاب حول تمديد الهُدنة جزءٌ من إدارتها وإدارة مسار ما بعدها. وفي الوقت الذي تتركّز الأنظار حول مصير المحتجزين الإسرائيليين والفلسطينيين، يستمرّ تدفّق السلاح نحو إسرائيل، بما في ذلك من قواعدٍ عسكريّة أمريكيّة في دول الخليج ومن أوروبا.
التساؤل الكبير اليوم هو حول الولايات المتحدة الأمريكيّة. إلى أيّ مدى ستسمح إدارة جو بايدن باستمرار حرب إسرائيل على الفلسطينيين بل إلى توسّعها إلى لبنان وغيره بعد الهدنة؟ إنّها الوحيدة التي تُعطي الضوء الأخضر لهذا الاستمرار والتوسّع، أو تستطيع في المقابل الضغط على القادة الإسرائيليين وإرغامهم على التوقّف، وتحويل الهدنة إلى وقفٍ لإطلاق النار. لكنّها دخلت في مرحلة انتخاباتها الرئاسية، ما يعني أنّ توسّع الحرب وبالتالي انخراطها بها سيشكِّلان عنصراً أساسيّاً غير مسبوق في هكذا انتخابات. هذا في وقتٍ تبرز أصوات عالية وواسعة لليهود الأمريكيّين تناهض الحرب وجرائم الإبادة الإسرائيليّة، “ليس باسمنا”. أصواتٌ لا مثيل لها في بلادٍ أوروبيّة مثل فرنسا وألمانيا. وفي حين تذهب أصوات المسيحيين الألفيين المناصرين للمستوطنين المتطرّفين في إسرائيل عادةً إلى غريم الرئيس بايدن: دونالد ترامب، أو أي مرشّح ديموقراطي آخر.
بالمقابل، يُمكِن التوجّه نحو وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار يُمهد لمفاوضات كبرى حول السلام والدولة الفلسطينيّة سعياً إلى ترميم صورة إسرائيل وداعميها التي أصبحت راسخة عالميّاً. صورة تشي بأنّها دولة احتلال استيطاني تنتهج الإبادة الجماعية، وأنّ الدول التي تناصرها هي دولٌ استعماريّة تدعم احتلالها أو دولٌ أخرى مغيّبة بسبب ضعف القائمين عليها. هذا يعني أنّ فلسطين تبقى رمزاً عالميّاً لمقاومة الاحتلال ومناهضة الاستعمار.