حذار من “ثورة الزعيم”..

لم يكن ممكناً للمنطقة أن تشهد ما تشهده مؤخراً من متغيرات سياسية وأمنية، لولا قرار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بالشروع في اطفاء نيران الجبهات الاقليمية الملتهبة، وصولاً إلى اعادة لم شمل العرب، وذلك ما يمنح ولي عهد المملكة صفة الريادة أو الزعامة العربية.

على الصعيد الإقليمي، وبعد ست سنوات عجاف من اندلاع “عاصفة الحزم”، نجح ولي العهد السعودي في تبريد جبهة اليمن الملتهبة، والحد من النزف المالي المستمر للخزينة السعودية والمقدر بعشرات مليارات الدولاراتالتي صُرفت على تلك الحرب، الأمر الذي سينعكس ايجاباً على مستقبل إقتصاد المملكة وإطلاق مشاريع تنموية واقتصادية وتكنولوجية.. وصولاً إلى تنفيذ كامل رؤية 2030 الطموحة.

ثمة واقعة سياسية ـ أمنية لا يُمكن تجاوزها. أبرز هجوم المُسيرات اليمنية على منشآت شركة “أرامكو” السعودية، في حقلي بقيق وخريص في شرق المملكة، مدى انكشاف عمق الأمن القومي السعودي برغم وجود ما تسمى “المظلة الامنية الاميركية” على أرض المملكة وفي سمائها، وبالتالي إتساع الشرخ بين واشنطن والرياض.. وصولاً إلى رح هواجس لم يسبق أن تم طرحها منذ توقيع إتفاقية كوينسي الشهيرة بين القيادتين الأميركية والسعودية في العام 1945.

يصح القول إن هجوم المُسيرات كان بداية الصحوة السعودية، حيث وجد ولي العهد نفسه عند مفترق طرق هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات السعودية الأميركية، وهذا ما يفسر خلفية القرار السعودي في “أوبك بلس” برفض الطلب الأميركي بضخ كميات اضافية من النفط بهدف توفير كميات أكبر وخفض الأسعار، غداة إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

هذا التراكم الخارجي معطوفاً على الورشة التي أطلقها الأمير الشاب في المملكة ولا سيما لجهة الإنفتاح الثقافي والإجتماعي والديني وتنفيذ سلسلة إصلاحات وبرامج إقتصادية وتنموية وتكنولوجية ضخمة، لا يعني أن ولي عهد المملكة قرر إدارة ظهره للأميركيين

إنكسرت معادلة تدفق النفط مقابل ضمانة الأمن، وراح ولي العهد السعودي يبحث عن صياغات جديدة للأمن القومي السعودي، فأطلق مقاربة قد تؤدي إلى تغيير ملامح المنطقة، من خلال توقيعه اتفاقاً تاريخياً بين السعودية وإيران بضمانة بكين، أفضى إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ووضع اليمن على سكة الحل السياسي، تزامناً مع العودة عن قرار تجميد عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وصولاً إلى دعوة الرئيس السوري بشار الأسد إلى قمة جدة، فضلاً عن تقديم طلب إنضمام المملكة إلى قمة “البريكس” والسعي الى جمع طرفي النزاع في السودان والاعلان عن وقف لاطلاق النار بين المتحاربين هناك. كما اطلقت المملكة سراح معتقلي حركة “حماس” بعد أن كان قد تم اعتقالهم تنفيذاً لرغبة واشنطن.

وكان اللافت للإنتباه في قمة جدة أنها أعادت للقضية الفلسطينية وهجها، فاعتبرتها قضية العرب المركزية. وإلى جانب ذلك، اعاد بن سلمان طرح المبادرة العربية للسلام، التي أقرت في بيروت 2002. هذه كلها تجعل عملياً المملكة نقطة ارتكاز وقاطرة للنظام الرسمي العربي، مع بداية تشكل نظام عالمي جديد، لا يريد للمملكة أن تغرّد خارجه، بدليل الوثيقة التي كشفتها صحيفة “واشنطن بوست” في الساعات الأخيرة، وتتضمن تهديداً سعوديا بإلحاق “ألم إقتصادي كبير” بالولايات المتحدة في حال قررت الإنتقام من مجموعة “أوبك بلاس” على خلفية قرار خفض الإنتاج النفطي.

هذا التراكم الخارجي معطوفاً على الورشة التي أطلقها الأمير الشاب في المملكة ولا سيما لجهة الإنفتاح الثقافي والإجتماعي والديني وتنفيذ سلسلة إصلاحات وبرامج إقتصادية وتنموية وتكنولوجية ضخمة، لا يعني أن ولي عهد المملكة قرر إدارة ظهره للأميركيين، وهذا ما يفسر التبرع السعودي السخي مرتين لأوكرانيا، وهذا أيضاً ما يفسر دعوة الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى حضور القمة العربية في جدة، فضلاً عن إبرام صفقة طائرات “البوينغ” لشركة “الرياض” للطيران الناقل الرسمي للسعودية.

في مواجهة هذه المتغيرات ومحاولة اطفاء النيران الملتهبة وصولاً الى ما بات بعرف بـ”تصفير المشاكل الإقليمية”، تُطرح أسئلة جوهرية: هل أن محمد بن سلمان يتحرك وصولاً إلى تزعم المنطقة العربية بمعزل عن الإدارة الأميركية، أم أن كل ما قام ويقوم به في الداخل السعودي كما على صعيد الإقليم إنما يتم بالتنسيق المسبق مع الإدارة الأميركية؟.

ليس خافياً أنه قبل قمة جدة وبعدها لم ينقطع أبداً التواصل الأميركي السعودي، وآخر فصوله سلسلة زيارات لكل من مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان ومدير الـ”سي آي إيه” مايكل بيرنز وصولاً إلى الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركية انطوني بلينكن إلى الرياض، وكلها تشي بأن واشنطن ممتعضة من تحرك الأمير السعودي الشاب، وتمكنه من رسم مسافة بين القرار السيادي السعودي وبين رغبات وطلبات الإدارة الأميركية، فواشنطن ومن خلال مبعوثيها، أرادت ضبط اندفاعة بن سلمان في ملف التطبيع مع طهران والإصرار على تضافر جهود البلدين في ملف حرب السودان، ومحاولة فرملة الإندفاعة السعودية نحو سوريا وصولاً إلى إعادة تحريك ملف التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي.

من جهته، الأمير محمد بن سلمان أعلن في وقت سابق وخلال مقابلة تلفزيونية أن إسرائيل حليف محتمل للسعودية في المستقبل، كما ان صحيفة “نيويورك تايمز” ذكرت أن الأمير السعودي تخابر مع بنيامين نتنياهو قبل وبعد القمة العربية الأخيرة، وأن إسرائيل قدمت لبن سلمان تنازلات جوهرية تتلاقى ومبادرة السلام العربية، مع اشتراط شطب حق العودة وفق القرار الأممي الرقم 194، أما الترويج والتسويق للسلام مع إسرائيل، فان أميركا ترغب في أن يكون سعودياً وبشخص محمد بن سلمان بالذات، لما يمثل من ثقل عربي وإسلامي.

من حقنا الحذر من أن يكون الهدف من وراء خطوات الزعيم العربي الجديد الأمير محمد بن سلمان هو تهيئة الشارع العربي لتطبيع سعودي مع العدو الإسرائيلي، نظراً لما تمثله السعودية من رمزية عربية وإسلامية

في المقابل، تواجه إسرائيل وضعاً حرجاً، إن لم نقل أنها تعيش هاجس عقدة الثمانين، فالمجتمع الإسرائيلي منقسم على نفسه بشكل عامودي، والجبهة الداخلية تعاني من وهن كبير، أما الأمن الداخلي، فيهتز يومياً وبشكل لا مثيل له، خصوصاً مع تصاعد العمليات الفدائية في مناطق 48 بالاضافة الى تآكل ملحوظ لقوة الردع للجيش الذي لا يقهر، فإسرائيل التي شنّت حروباً خاطفة خارج حدود كيانها، باتت تقاتل داخل هذا الكيان، واذا ما لاحظنا تطور قوة جبهة المقاومة الممتدة من الجولان السوري المحتل مروراً بلبنان وصولاً الى غزة مع مناطق الضفة الغربية، لوجدنا أن اسرائيل باتت مُطوقة جغرافياً ومن جبهات عدة، حتى أن عدداً من المحللين في مراكز الدراسات الإسرائيلية، باتوا يجاهرون بأن إسرائيل بدأت مرحلة لفظ الأنفاس.

إقرأ على موقع 180  "الإرهاب".. وصفة أميركية لـ"التأديب السياسي"!

وبرغم موجة التطبيع إلا أن الأحداث أثبتت أن الشعب العربي لن يستسيغ الأمر، وأن أي تطبيع لن يتجاوز الحكام، بدليل النموذج المصري (ظاهرة الفدائي العسكري محمد صلاح)، فكيف عندما تكون إسرائيل في حالة وهن شديد؟

إن أي خطوة إسرائيلية طائشة في منطقتنا، ستعني بدء العد العكسي لزمن ما بعد إسرائيل، وها هي واشنطن تستشعر الخطر، فتبادر إلى الضغط لكبح جماح تل أبيب عن ارتكاب أي حماقة مُكلفة، وهذا ما يُفسر الخلاف الأميركي الإسرائيلي المتنامي، في ظل إصرار الإدارة الديموقراطية في البيت الأبيض على التمسك بحل الدولتين!

من حقنا الحذر من أن يكون الهدف من وراء خطوات الزعيم العربي الجديد الأمير محمد بن سلمان هو تهيئة الشارع العربي لتطبيع سعودي مع العدو الإسرائيلي، نظراً لما تمثله السعودية من رمزية عربية وإسلامية، وذلك تمهيداً لسَوق العرب إلى السلام (الإستسلام) مع الكيان الغاصب، وتأليباً للبيئة المقاومة وصولاً إلى تفكيكها، بالتنسيق مع الادارة الاميركية.

Print Friendly, PDF & Email
رفعت إبراهيم بدوي

كاتب لبناني، رئيس ندوة العمل الوطني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  المُسيرات الإيرانية تغير وجه "الصراع الجوي" في المنطقة