حرب غزة بجبهاتها المفتوحة.. إنّه الملف النووي الإيراني

تُردّد وسائل الإعلام المختلفة، التي تُؤيد وتُحابي إسرائيل أو المقاومة، أن جولة مفاوضات وقف الحرب أو إطلاق النار في غزّة (وحدة الساحات وجبهات الإسناد المختلفة)، التي بدأت في شهر تموز/يوليو الجاري تتسم بروح من الإيجابية لأن حماس تنازلت عن مبدأ وقف الحرب؛ فإذا كان الحديث صحيحاً: يا لها من كارثة!

هذا المقال لا يعنى أو يهتم بمجريات هذه المفاوضات ونسبة التفاؤل من عدمها فيها. بل يريد أن يقول إن شيفرات مفاتيح وقف الحرب أو إطلاق النار، لم تعد في غزّة وحدها، بل، باتت في جبهات الإسناد التي تتكثف في ملفيّ الصواريخ والنووي الإيراني.

ليس من حقنا مصادرة مواقف جبهات الإسناد التي تُردّد دائماً أن موقفها تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني المظلوم (بمسلميه ومسيحييه) – إيماني، أو كما يقول أنصار الله – الحوثيون إن دعم الشعب الفلسطيني هو “تكليف من الله في القرآن”. يتمظهر هذا التكليف المقدس في (“عالم الغيب والشهادة”)، في كل القضايا الحياتية التي يعيشها ويختبرها المؤمنون في السياسي، العسكري، والإستراتيجي.

الملفات المفتوحة

يُذكّرنا التاريخ أن صراع اليهود والصهيونية، من جهة؛ وأطراف هذا المحور، من جهة أخرى؛ أقدم من نكبة عرب فلسطين وإنشاء الكيان سنة 1948. بدأها الإستعمار الأوروبي ويهوده بتحويل الجماعات اليهودية التي كانت تقطن في أقطار الوطن العربي إلى جماعات وظيفية، أبرزها يهود العراق، المغرب، اليمن، يهود مصر، وسوريا ولبنان على قلة عددهم – كما كتب المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابه “الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد 2008”. وبعد أن تم استجلاب هذه الجماعات تحولت إلى جزء من النسيج الاستعماري المعادي لأمتها العربيّة بالأمس القريب.

في هذا السياق، سيعرض هذا المقال أهم الملفات المفتوحة بين <إسرائيل> وهذه الجبهات، والمسكوت عنه في وسائل الإعلام المختلفة التي تُردّد أن (بنيامين نتنياهو) الفرد، وحماس الجماعة يعملان على إفشال هذه المحاولة إذ لا يعقل أن يتم إغلاق ملف الحرب على غزّة الذي شبّهّه الفيلسوف الروسي (ألكسندر دوجين) باغتيال ولي عهد النمسا، الدوق فرديناند، الذي كان الشرارة التي أشعلت الحرب العالميّة الأولى سنة 1914. فالتقدير المنطقي والسليم يقول إن الملفات الآتي ذكرها هي على طاولة مفاوضات إنهاء الحرب أو وقف إطلاق النار، والتي ستكون السبب في تجددها.

الجبهة اللبنانيّة

عندما تم اقتطاع ما يسمى بـ<لبنان الكبير> من سوريا الكبرى سنة 1920 كان الهدف هو إضعاف الدولة السوريّة التي ستتشكل بعد جلاء المستعمر الفرنسي سنة 1946 كنتيجة مباشرة لجريمة (سايكس- بيكو) من سنة 1916. وأن لبنان الذي ستترواح وظيفته ما بين مفخخات طائفيّة في الخاصرة السوريّة التي باتت رخوة، ومنطقة عازلة لصالح الدولة اليهوديّة التي تم استزراعها سنة 1948 في الجزء الجنوبي من سوريا الكبرى أو بلاد الشام. لذا يمكن القول إن ما تقوم به جبهة الإسناد اللبنانية التي قوامها حزب الله (الشيعي) هو من الاستحقاقات المضادة لتلك الجريمة التي بدأتها القيادة الصهيونية بالضغط على المؤثرين في (سايكس- بيكو) لجَعْل منابع نهر الليطاني داخل حدود الدولة اليهوديّة، والذي لا يزال ضمن البرامج السياسيّة لبعض الأحزاب والمنتديات اليهوديّة المختلفة. يُضاف إلى هذا الملف كلّ من ملفيّ مزارع شبعا والقرى اللبنانية السبع (تربيخا، صلحا، المالكية، النبي يوشع، قدس، هونين، وآبل القمح) التي احتلها اليهود وضموها إلى كيانهم سنة 1948).

(م. ت. ف) من لبنان إلى (أوسلو)

كما فتحت معارك أيلول/سبتمبر في الأردن سنة 1970 والتي بموجب نتائجها تم نقل – شحن – وليس انتقال – منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) إلى جنوب لبنان، وحملة الليطاني الإسرائيلية سنة 1978، واحتلال أكثر من نصف لبنان حتى العاصمة بيروت سنة 1982 وتحريرة سنة 2000 ليصبح الملف اللبناني أكثر سخونة ووعورة وأهميّة لصلابته السياسية العسكرية والفكريّة- من جهة؛ والدعم الإيراني والسوري من جهة ثانية.

في هذا السياق، يطرح السؤال حول عودة المقاومة إلى مندرجات القرار 1701 الذي صدر في صيف العام 2006 وهل ستسمح لمهجري مستعمرات الشمال من العودة إليها؟

هذه الملفات لن يتم طيّها أو إغفالها حال وقف الحرب على غزّة، بخاصة إذا عدنا إلى قراءة تصريح (يؤاف جالنط)، وزير حرب الإبادة على غزّة، الذي قال إن وقف إطلاق النار على غزّة، هو من أجل التفرغ للجبهة اللبنانية. ليتبعه بعد عدة أيام (نتنياهو) بقوله بعد تحرير الأسرى اليهود أنه سيعاود استئناف الحرب على غزّه (11. 7. 24). هذه الملفات هي الحاسمة في مجريات البحث في أي خطة لإنهاء الحرب أو إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، التي قد تعود/ تتحول إلى جبهة مستقلة تماما، تشترك فيها جبهات الإسناد الأخرى.

(ملاحظة: يمكن قراءة نقل – شحن (م. ت. ف) من الأردن إلى لبنان بعد أحداث أيلول/سبتمبر 1970، واستراحة تونس بعد هزيمة دولة الفاكهاني 1982، ثم إلى أوسلو- رام الله وموقف (م. ت. ف) الرسميّة من طوفان الأقصى في سياق خطيّ ثابت).

الجبهة العراقيّة من تحرير جنين إلى الحشد الشعبي

انخرط العراق مبكراً في المواجهة العربيّة – اليهوديّة ضد <إسرائيل> بإرساله أول الأمر عدة فرق ضمن جيش الإنقاذ إلى نابلس، قامت واحدة منها بتحرير مدينة جنين بعد أن احتلها اليهود لعدة أيّام في شهر حزيران/يونيو 1948. لذا أقام أهالي المدينة نصباً تذكاريّاً لشهداء الجيش العراقي جنوبي المدينة عند مفترق الشارع المؤدي إلى مدينة قباطية وقراها. وخلال عدوان حزيران/يونيو 1967 شاركت عدة طائرات عراقيّة بقصف بعض المواقع في الكيان. كما شارك الجيش العراقي مع الجيش العربي السوري في القتال على الجبهة السوريّة في حرب تشرين/أكتوبر 1973.

ومع وصول صدام حسين للسلطة سنة 1979 تبنى العراق قضية فلسطين في محور مركزي دشنه بمحاولة إنشاء مشروع نووي، لكن <إسرائيل> سارعت إلى قصف المفاعل النووي ودمرته سنة 1981. ومنذ تلك اللحظة تحوّل العراق إلى هدف إستراتيجيّ لـ<إسرائيل> وحلفائها (أمريكا، الأوروبيون والعرب) كانت نتيجته حصار العراق واحتلاله بعد دخول الجيش العراقي إلى الكويت سنة 1990، وغزوه سنة 2003 وتدميره وتحويله إلى دولة فاشلة ومذابح أهليّة من قبل داعش التي تمت هندستها أمريكياً باعتراف وزيرة خارجيتها (هيلاري كلينتون). في مقابل هذا- شنّ النظام العراقي حرباً ضروساً ضد إيران استمرت من 1980- 1988، لذا استفادت إيران كثيراً من هذا الوضع الكارثي. فتحالفت مع قوى عراقيّة شيعيّة بالأساس، وساعدت العراق بالتخلص من داعش سنة 2016. الأمر الذي عزّز من هذا التعاون بتشكيل الحشد الشعبي والعديد من الفصائل العسكريّة الصغرى التي باتت جزءاً من جبهة الإسناد لغزة وفلسطين.

إضافة لما تقدم، منذ نشأتها لا تزال <إسرائيل> تعبث في ملف الأكراد وكردستان العراق وتحريضه ومساندته على الانشقاق والاستقلال عنه. لكن العراق والقوى الإقليمية الأخرى أفشلت هذا المشروع بإفشال الاستفتاء عليه سنة سنة 2017. بكلمات أخرى: تمكنت إيران من تصويب اتجاه الصراع العراقي ضد <إسرائيل>. وهذا أمر ليس باليسير، بل هو عظيم جداً، خصوصاً أن العراق عنده مقدرات تمكنه من التحول إلى دولة إقليمية وازنة ضد إسرائيل ومحوريّة في المنطقة.

الجبهة اليمنيّة.. عبد الناصر كان على حقّ

عندما تم إنشاء الكيان الصهيوني سنة 1948، كان اليمن دولة تقليديّة متواضعة القدرات يتناوب على زعامتها أئمة بعضهم من صنيعة الاحتلال البريطاني لليمن. إلا أن وجود اليمن على البحر الأحمر، الذي يفضي إلى باب المندب، وبحر العرب الذي يفضي إلى المحيط الهندي، ويجاور السعودية وبعض الكيانات الخليجيّة التي ستحابي <إسرائيل> في مواجهة المشروع القومي الناصري – النهضوي، دفع لمسارعة النظام الناصري في مصر للتدخل في اليمن بطلب من عبدالله السلال الذي انقلب على الإمام بدر وأسّس الجمهورية اليمنيّة، بعمل وصفه عبد الناصربـ”معركة شاملة للأمة العربيّة”، لأنه كان يدرك أمرين أصبحا في غاية الأهميّة في يومنا الراهن، الأول – السيطرة على ممرّ باب المندب، الممر الملاحي إلى <إسرائيل>؛ والثاني – دور السعوديّة الوظيفي في حماية المصالح الأجنبية في الخليج. هذان الأمران نرى أهميتهما جليّة اليوم أكثر مما سبق. فباب المندب بات مُغلقاً أمام الملاحة إلى الكيان منذ حرب الإبادة على غزّة، والسعودية التي تحارب اليمن منذ تسع سنوات وتفتح خطوط التعاون مع إسرائيل؛ حتى أن بعض الأصوات نصف الرسمية في السعوديّة تقول إن نجاح خطة 2030 <التحديثيّة> على كل الجبهات مرهون بالتطبيع مع إسرائيل. نفهم من هذا أن جبهة الإسناد اليمنيّة لفلسطين، جزء منها هو ضدّ حلفاء <إسرائيل>، السعودية والإمارات تحديداً. لهذا فإن أية محاولة لوقف الحرب على غزّة ترتبط بإنهاء الحرب على اليمن، وفك الحصار عنه وإعادة إعماره.

من صنعاء إلى يافا.. العودة إلى المربع الأول

أطلقت المقاومة اليمنيّة إسم “يافا” على مسيّرتها الأولى التي أصابت مبنى سكنيّاً في (شارع بن يهودا). لتكون بذلك قد أعادت الصراع إلى مربعه الأول – “يافا الجميلة”، كما وصفها الشاعر العراقي العظيم، محمد مهدي الجواهري، سنة 1946- في مقابل (بن يهودا) الذي عمل على إحياء اللغة العبريّة وتجديدها في فلسطين (سيكون لنا عودة إلى هذه الرمزيّة).

(ملاحظة: من الهامش إلى المركز- يقوم بعض الأفراد والمجموعات بتداول ومشاركة أغنيّة قصيرة للمطرب اليمني فيصل علوي، تعود إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي، يقول فيها إن اليمن سيحارب <إسرائيل> بصواريخ سام وسيهزمها. ثم يدعو أمريكا للاعتبار من هزيمتها في فيتنام!)

الجبهة السوريّة.. مائة عام من النزيف

إن الدولة السوريّة هي الأكثر تضرراً من المشروع الاستعماري اليهودي في فلسطين والمنطقة. فقد اقتطع الاستعمار العديد من مناطقها وحوّلها إلى مفخخات ومعازل طائفية لحماية <إسرائيل>. وما شنّ العدوان عليها من الخارج والداخل منذ 13 سنة تقريباً، إلا الاستحقاق العدواني المكثف في سياق (سايكس- بيكو) وما تلاه من أحداث. لذا يمكن القول إن سوريّا تشترك بمدى أو بآخر في كل ملفات جبهات الإسناد الأخرى التي تتلقى الكثير من أسلحتها وعتادها الحربي من سوريّا. لكن السؤال الذي يطرحه الناس من أعداء سوريّا ومحبيها لماذا لا تشارك في الحرب على جبهة الجولان، أراضيها المحتلة، ومتى ستشارك؟ وهو سؤال شرعي. أعتقد أن الإجابة عليه هي تحصيل حاصل- عندما تندلع. لأنها لن تكون بمنأى عنها، فـ<إسرائيل> هي التي ستبادر لشن الحرب عليها. ويصرح بهذا العديد من المفكرين في محور المقاومة، الذين يعرفون خبايا السياسة السوريّة بحكم المعرفة المباشرة والتحليل. يُعزّز هذا الهجوم الصاروخي والمسيّرات الذي شنّه حزب الله على قواعد عسكريّة في الجولان السوري المحتل يوم الخميس 11. 7. 24. يُمكن التقدير بأن هذا الهجوم كان بالتنسيق التام والدقيق مع الدولة السوريّة وتم الأخذ بالاعتبار تداعياته وإتساع رقعة الحرب إلى شاملة.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": حقبة الهيمنة الأميركية على الخليج تقترب من نهايتها

إيران الإسلاميّة.. الصواريخ والنووي

من الواضح أن إيران هي التي عملت على تشكيل محور المقاومة من قوى جبهات الإسناد المذكورة. وبحسب القاعدة اللاهوتية الفقهية التي يتمظهر فيها الدنيوي بالمقدس – كما أشرت أعلاه – فإن لإيران مصالح في سوريّا بمواجهة تركيا، ومنافذ على الشواطئ الشرقيّة للمتوسط وباب المندب في مواجهة <إسرائيل> (تشترك مع أهداف روسية بالضرورة). وعليه بات من المحتم عليها أن تتحول إلى قوة إقليمية تمتلك مصادر إنتاج سلاحها وقوة ردع نوويّة، وهو ما تقاومه كل الدول العظمى والتي تدور في فلكها. لكن موقف كل من روسيا والصين تغير مع عقد الاتفاق النووي مع أمريكا وتخليها عنه سنة 2018 بضغط من <إسرائيل> واللوبيات اليهوديّة في أمريكا. حسناً، ما دخل مشروعي النووي والصواريخ؟

في البداية يجب القول إن مشروع الصواريخ الذي كان يقلق <إسرائيل> بات يخيفها الآن بناء على نتائج مجريات حرب “طوفان الأقصى” التي تقترب من بداية شهرها العاشر. وبحسب خبراء الأكاديمية الروسية الجوفضائية فإن الصواريخ الإيرانية أكثر تطوراً من نظيرتها <الإسرائيليّة>. وأصبحت جزءاً من سلاح محور المقاومة: حزب الله، العراق واليمن. وقد حاولت <إسرائيل> دمج هذا الملف بالملف النووي لكنها فشلت. وعادت خلال هذه الحرب لتؤكد على ضرورة “علاج” الملفين بالتهديد بتقويض النظام (يرون شنايدر، سيمه شاين وإلداد شفيط، مركز دراسات الأمن القومي INSS أيار/مايو 24) أو تصفيتهما بضربة نووية إسرائيليّة كما اقترح (بيني موريس، هآرتس 24 حزيران/يونيو 24). وأعتقد أنهما باتا مفتوحين في ملف واحد، النووي، على طاولة مفاوضات إنهاء الحرب أو وقف إطلاق النار. ومن الصعب على <إسرائيل> الموافقة على تجاوز هذا الملف وحاملة الإيراني، لأنه المركب الأكثر تأثيراً في محور المقاومة ومجريات هذه الحرب وأثبت قدرته وجرأته على قصف إسرائيل بمئات المسيرات والصواريخ ليلة 14- 15 نيسان/ابريل 2024.

وإذا كان محور المقاومة قد اتخذ قراره بعدم السماح للكيان بالانتصار وتدمير حماس، حتى ولو بادر هو (والتأكيد على أن يبادر هو) إلى توسيع رقعة الحرب، لأن أثمانها، برغم الخسائر البشريّة الكبيرة جداً، أقل بكثير من هزيمة حماس (وشرق المتوسط)- كما صرّح الكثير من المتحدثين الرسميّين وشبه الرسميّين باسمه. لهذا السبب ستبقى إيران ثابتة ومتمسكة بشدّة بهذا الملف – من جهة؛ وعدم تمرير سياسة <إسرائيل> التدميريّة وعملائها الذين يضغطون على حماس للقبول بما يعرضه الكيان عليها- من جهة أخرى. هنا تكمن عقد الحرب الحاليّة، الاستمرار بها أو تجددها حتى لو تم وقف إطلاق النار. وقد يضيف البعض أن حماس تعمل على صفقة شاملة تتضمن الانسحاب من أراضي الـ1967 وإقامة دولة فلسطينيّة عليها. لكن هذا بتقديري غير ممكن لأن هذه الأراضي باتت المجال الحيوي الوحيد لمحدودي الدخل والإمكانيات من المستعمرين اليهود الذين لم يجدوا متسعاً لهم في أراضي الـ1948- من جهة؛ كما أن السيطرة على هذه المناطق يحول دون تواصل الكتلتيّن السكانيّتين (موضوعيّا هما كتلة واحدة) في شرق الأردن عن الكتلة السكانيّة في فلسطين التاريخيّة. لذا هل يمكن أن نستنتج أن اتساع رقعة الحرب هو المسار المنطقي والخطيّ الوحيد؟

نعم. إنه المسار المنطقي الوحيد. فبعد نحو ثمانية عقود من الصراع العربي- اليهودي في فلسطين العربيّة، الذي كان بمستوى ‘شهر عسل’- كما وصفته أمام أصدقائي ومعارفي أكثر من مرّة، اندلع في مستوى نوعي تدميري عجز العرب واليهود عن توقعه والتنبوء به أو تخيّله (نترك باب التخيّل للذين نفذوه على أرض الواقع. والذين تحدثوا عن أهميته مثل (هنري كيسنجر). أما هل ستؤدي هذه الحرب إلى حرب شاملة؟ فهذا أكثر تعقيداً.

عقدة “الحلّ” في النووي الإيراني

بات من الواضح أن عقدة الحلّ والربط في تداعي هذه الحرب إلى حرب شاملة بات في إيران، التي أعلنت أنها ستدخل الحرب بشدة إذا ما هاجمت <إسرائيل> لبنان. في هذا السياق، يجب تقديم قراءة لإيران تتجاوز القراءات الاستخباراتية والعسكريّة الإسرائيليّة التي علّقت في فترة ما قبل حرب “طوفان الأقصى”. ومن أجل فهم إيران يجب التذكير بما يلي:

أولاً؛ ردّاً على برقية التهنئة بانتخابه، كان الرئيس الإيراني المنتخب، الدكتور مسعود بزشكيان، قد ردّ برسالة جوابيّة إلى السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله مؤكداً فيها على ما يلي: “تدعم جمهورية إيران الإسلامية دائماً مقاومة شعوب المنطقة ضد النظام الصهيوني غير الشرعي. إن دعم المقاومة متجذر في السياسات الأساسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية ومبادئ الإمام الراحل وتوجيهات المرشد الأعلى دام ظله العالي وسيستمر بقوة”. إنها تأتي قيّمة لأنها كانت أول رسالة يرسلها بزشكيان إلى الخارج وليس لشخصيّة بمثل حكمه، بل لقائد المقاومة في لبنان. يؤكد فيها الرئيس “الإصلاحي” أن دعم المقاومة وعدم شرعيّة <إسرائيل> من ثوابت السياسة الإيرانية. هذا التأكيد فاجأ الأوساط التي راهنت عليه في السرّ والعلن ليفتعل خلافاً ما مع المقاومة. دون أن تتذكر هذه الأوساط، أن مسعود ابن الأقليّة الأذريّة والمتخرج من كليّة الطبّ هاجم عراق صدام حسين إيران سنة 1981 وقام بتنظيم دورات تأهيل وتدريب “طبيب مقاتل” التحق خريجوها في الجبهة مباشرة. وعندما كان عضواً في البرلمان سنة 2015 لدى الحديث عن فرض عقوبات عدوانيّة على الحرس الثوري بادر إلى تقديم اقتراحات قوانين لتعزيز مكانة الحرس. وعلى ما يبدو أدرك جرّاح القلب مسعود بزشكيان أن إيران قويّة يجب أن تكون دولة مقاومة تحميها وتحتمي بها.

ثانياً؛ شكّلت المفاوضات النووية مع دول (5+1) التي تكلّلت بإبرام إتفاق ثم إلغاؤه بضغط ما <إسرائيل> سنة 2018 انعطافة هامة عندها أدركت روسيا والصين وبعض الأطراف الأخرى أن أمريكا/<إسرائيل> لا تريد أيّة تسويّة في هذا الملف. لذا “منحاه” شرعيّة للمرحلة التي وصل إليها. ولربما لن يعارضا امتلاكها السلاح النووي.

ثالثاً؛ أبرمت إيران مع الصين سنة 2021 معاهدة إستراتيجيّة لمدة 25 سنة تشمل كل المجالات السياسية، الثقافية، التقنية والعلمية بما فيها العمل على إحياء الاتفاق النووي مع أمريكا. فمن شأن هذا التعاون أن يساعد إيران على تخطي العديد مع العقبات في التطور والتنمية والوطنيّة وتعزيز حضورها في العلاقات الدوليّة. كما أصبحت هذه المعاهدة هامة للصين في مشروعها “الطريق والحزام”، بعد أن أعلن بايدن عن مشروع بديل له في المناطق التي تعود تبعيتها لأمريكا.

رابعاً؛ عندما أقدمت روسيا على شنّ حربها الدفاعيّة في أوكرانيا ضد توسع (حلف الناتو) نحو حدودها، وقفت إيران إلى جانب روسيا دون تردد. وقدمت لها المسيّرات التي كانت روسيا بحاجة لها أو تفتقرها. تمّ هذا برغم تهديدات حلف الناتو بتغليظ العقوبات أو استهداف إيران عسكريّا. وفي بداية شهر تموز/يوليو 2024 وقّعت الدولتان اتفاقيّة إستراتيجية كالتي وقّعتها إيران مع الصين سنة 2021. ويجب القول إن هذا التعاون “الإستراتيجي” كما وصفه كل من المرشد السيد خامنئي والرئيس بوتين في لقائهما الأول في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2015 هو الذي أفضى إلى هذه العلاقات مع روسيا (والصين كذلك). إن هذه العلاقات عظيمة الأهميّة والخطورة لطرفيّ الصراع في المنطقة والعالم. وأعتقد أن روسيا وضعت إيران تحت مظلتها النوويّة إذا ما اندلعت حرب شاملة (كان اللقاء الثاني لبوتين والمرشد سنة 2022).

الحرب هي دَيْدن هذا الصراع

وبعد؛ قد يقول البعض إنني فتحت ملفات لم يذكرها الذين يتبعّرون <المعلومات> و<التحليلات> من هوامش الإعلام العالمي، المؤيد والمعادي للمقاومة، ثم ينفثونها في وجوه مشاهدي الفضائيات العربيّة ليل نهار. نعم؛ الملفات هي كذلك. فحرب طوفان الأقصى لم تحطم تصورات <إسرائيل> وحلفائها عن الصراع فقط، بل وهذا هو الأهم – هذه الحرب قصفت كل ما توصلت إليه وراكمته واستخدمته ضد محور المقاومة وفلسطين تحديداً، ولم يعد في وسعها إلا استخدام السلاح النووي الذي هو الآن على ما يبدو على طاولة متخذي القرار فيها. كما لم يعد بإمكانها توفير حياة طبقة وسطى وأماناً لمستوطنيها – هذا الشقّ الأول من المعادلة. أما الشقّ الثاني منها فهو كالتالي – من النقطة التي وصلتها <إسرائيل> وانكسرت فيها، حيث يبدأ محور المقاومة والمرشح بالضرورة بالتنامي والتطور على جبهات عربيّة (وإسلاميّة) أخرى. ومن يعتقد أن محور المقاومة سيوقف الحرب أو إطلاق النار ريثما يتم إعمار غزّة لتتجدد حرب أو معركة أخرى تقوم <إسرائيل> بهدمها ومواصلة إبادة ما تبقى من أهاليها – واهم. فقد أدرك هذا المحور أن تراجعه هزيمة أبديّة له. وعند هذه النقطة تدرك <إسرائيل> أنها مهزومة. وعليه فإن درجة حرارة المنطقة سترتفع حتى الغليان في كوانين. <إسرائيل> تدرك هذا لأن الصراع لم يعد عربياً – يهودياً أو إسرائيلياً، بل بات صراعاً عربياً إيرانياً – يهودياً إسرائيلياً. كما أنها تدرك أن الصواريخ والنووي الإيراني باتا يعادلا مشروعها النووي وأكثر. وعلينا أن نؤكد هنا أن دخول إيران في الصراع مع الكيان كان ضمن تنظيرات الدائرة الإسلامية (إضافة للدائرتين العربيّة والأفريقيّة) عند الرئيس عبد الناصر، الذي مدحه المرشد خامنئي في حديث مسجل باللغة العربيّة يتم تداوله هذه الأيام في وسائل التواصل الاجتماعي. عبد الناصر كان على حقّ كما في اليمن.

باختصار شديد؛ تقف جميع الأطراف عند الملف النووي الإيراني، لأنه يشبه إلى حدّ كبير “العقدة الغورديّة” أو “عقدة الإسكندر” في هذه المرحلة ومنه ستبدأ المرحلة القادمة من الحرب الحاليّة.

Print Friendly, PDF & Email
أحمد أشقر

كاتب وأكاديمي فلسطيني

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الصواريخ الإيرانية.. إستراتيجية أم تكتيك؟