في نقده لخلاصات الدكتور كمال الصليبي اللغوية، يقطع الباحث أحمد الفيفي وهو من منطقة “الفيفاء” السعودية التي يتحدث عنها الصليبي في كتابيه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” و”خفايا التوراة”، بأن الصليبي لم يزر “الفيفاء” ولم يعرف جغرافيتها، فـ”أهل الفيفاء أدرى بشعابها” وفي تفنيده لمقولة الصليبي بأن بلدة “المصرمة” السعودية هي المقصودة بـ”مصريم” التوراتية، يقول الفيفي في كتابه “تاريخ بني إسرائيل وجزيرة العرب”:
“من أغرب ما جاء في كتب الصليبي زعمه أن مصر تقع بين أبها وخميس مشيط، فهي لديه قرية مجهولة سماها المصرمة / المصرامة، على أن المؤلف بزعم آخر أن المصرمة كانت مستعمرة مصرية وهذا ما ادعاه في كتابه خفايا التوراة، إنه لا يفكر إلا في الحروف ولذلك لا يسأل لِمَ سُميت المصرمة؟ وإلا لوجد احتمالات لغوية عربية عديدة”.
حقاً.. لماذا سُميت “المصرمة”؟ يجيب الفيفي مستنداً إلى معاجم اللغة:
“إن الصرم في العربية القطع، والصرام جداد النخل، وصرم النخل والشجر والزرع يصرمه صرما ـ أي ـ جزّه، والصرام قطع الثمرة واجتناؤها، وقد يطلق الصرام على النخل لأنه يُصرم، ويقال للقطعة من الإبل أو الغنم صرمة إذا كانت خفيفة، ويقال لصاحبها مُصرم وصاحبتها مُصرمة، وأصرم الرجل افتقر، ورجل مصرم: قليل المال، وإمرأة مصرمة كذلك، والمصرم ـ بكسر الميم ـ المنجل، وناقة مصرمة: منقطعة اللبن، وأرض صرماء ومصرمة: لا ماء فيها”.
وعن مصر أيضاً، هذه الخلاصات اللغوية التي انتهى إليها الصليبي:
أولاً؛ فرعون وآل فرعة:
يحسم الصليبي في “التوراة جاءت من جزيرة العرب” أن “فرعون التوراتي ـ فرعه بالعبرية ـ لم يكن ملك مصر، بل يبدو أنه كان الحاكم المتسلط في وقت ما على المصرمة وجوارها ـ بلدة في السعودية ـ وفرعا ـ فرعء بالعبرية ـ إسم لقبيلة ما زالت موجودة في وادي بيشة إلى اليوم، وهناك ما لا يقل عن 28 قرية في غرب شبه الجزيرة العربية ما زالت تحمل إسم فرعه، وكون هذا الإسم كان إسم إله هو أمر واضح من إسم قرية آل فراعة في منطقة بلسمر، وهناك قريتان تسميان الفرعة بالقرب من أبها حيث توجد قرية المصرمة، وبيت فرعه الذي أصيب بضربات عظيمة بسبب ساراي ـ سارة زوجة النبي إبراهيم ـ كان بلا شك معبد هذا الإله في المصرمة، ومن ناحية أخرى ربما كان فرعه لقبا لحُكّام المصرمة في زمن أبرام”، أي النبي إبراهيم.
هذا النص المأخوذ من الصفحتين 148 و240 من “التوراة جاءت من جزيرة العرب” لا يدفع الصليبي للبحث عن أسباب تعدد الأمكنة “الفرعونية” التي ينسبها حيناً إلى فرعون وحيناً إلى قبيلة وحيناً إلى إله وحيناً إلى لقب وليصل العدد إلى 28، وكل ذلك يدفع القارىء إلى دائرة الشك بما يعتبره الصليبي بيِّنات صريحات قامت على أساسها نصوص كتابه.
بين “الفلسة” و”الفلس” لماذا أخذ الصليبي بالخيار الأول وأهمل الثاني؟ هذا السؤال ينتج حيرة مماثلة للخيار الذي اتخذه الصليبي في وادي لية بجيزان وإهماله وادي لية في الطائف
وأكثر من ذلك، فإن أسماء القرى المتصلة بفرعة أو فراعة يتعدى عددها الـ60 إسما إذا ما جرى الرجوع إلى “المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية” للعلامة حمد الجاسر، ففي الجزء الثاني من المعجم “الفراع من قرى إمارة مكة ومن قرى إضم، والفراع في غميقة وفراع خميس وآل فراعة في عسير” و18 قرية تحمل اسم فرع و28 قرية بإسم فرعة، ناهيك عن الفرعين والفرعية والفريع والفريعان، وكلها تتصل بالجذر فرع الذي يعيده المؤرخ الصليبي إلى فرعون لتثبيت نظريته حول عائدية هذه القرى إلى الفراعنة في بلدة “المصرمة” وحيث لم تكشف التنقيبات عن اثر فرعوني في القرى والمناطق الحجازية والعسيرية التي يتحدث عنها الصليبي، بينما الآثار الفرعونية في مصر وادي النيل لا تحيد عنها دلالة ولا يشيح عنها بصر.
ثانياً؛ نهر النيل:
يعتبر الصليبي “ان نهر مصريم في وعد يهوه لإبرام العبراني، لم يكن نيل مصر بل وادي لية أو احد روافد وادي لية الذي ينبع من الجبال اليمنية، ومجرى هذا الوادي في ناحية سامطة بجنوب منطقة جيزان”، لكن أحمد الفيفي في “تاريخ بني إسرائيل” يشير إلى واديين بإسم وادي لية “هذا الواقع جنوب الطائف غير وادي لية جنوب جازان”، وعن وادي لية في منطقة الطائف ورد في “معجم البلدان” لياقوت الحموي: “ليّة هو واد لثقيف، قال الأصمعي: لية واد قرب الطائف أعلاه لثقيف وأسفله لنصر بن معاوية” والمسافة بين الطائف وجازان لا تقل عن 700 كلم، وهذا ما يطرح على قارئ “التوراة جاءت من جزيرة العرب” حيرة السؤال الموجه إلى الصليبي حيال اختيار واد على آخر، مع العلم أنه يقول “إن البيئة التاريخية للتوراة ـ كانت ـ في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن” وفي هذا الكتاب يأتي الصليبي على ذكر الطائف 38 مرة كمنطقة تمثلت فيها أحداث التوراة، فما الدافع لإختياره وادي لية في جازان من دون وادي لية في الطائف؟.
ماذا عن الخلاصات الفلسطينية؟ هذه ثلاثة نماذج:
أولاً؛ فلسطين والفلسة:
في “التوراة جاءت من جزيرة العرب” يقول الصليبي “في حوض وادي بيشة ما زالت هناك قرية تدعى الفلسة (يقابلها بالعبرية فلشه) ولو أطلق الإسم العبري على سكانها لسُموا فلشتيم” وفي “خفايا التوراة” للمؤلف نفسه “أن فلشتيم هي جمع النسبة إلى فلشه التي هي اليوم الفلسة ببلاد خثعم في أقصى الشمال من حوض بيشة وعلى الطريق منه إلى الحجاز”.
في الجزء الثاني من “المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية” يعطي حمد الجاسر تعريفا لبلدة “الفلسة” بما يتوافق مع التحديد الجغرافي للصليبي فهي “من قرى خثعم في منطقة بيشة في إمارة بلاد عسير”، ولكن في الجزء الثالث من المعجم يتحدث الجاسر عن “الفلس” الذي كان صنما تعبده قبيلة طي، وهذا ما كان تطرق إليه ياقوت الحموي في معجمه “الفُلُس علم مرتجل لإسم صنم هكذا وجدناه مضبوطا في الجمهرة عن إبن الكلبي ووجدناه في كتاب الأصنام بخط إبن الجواليقي، وقال إبن حبيب: الفلس إسم صنم كان بنجد تعبده طيء”.
بين “الفلسة” و”الفلس” لماذا أخذ الصليبي بالخيار الأول وأهمل الثاني؟ هذا السؤال ينتج حيرة مماثلة للخيار الذي اتخذه الصليبي في وادي لية بجيزان وإهماله وادي لية في الطائف.
ثانياً؛ مدينة الخليل وحبرون والخربان:
طبقا لـ”التوراة جاءت من جزيرة العرب” أن هناك “خمسة أمكنة تسمى حبرون ما تزال موجودة تحت إسم خربان على المنحدرات البحرية لعسير” وأما كيف تحولت حبرون إلى خربان، فالصليبي يقول عبر قلب الأحرف، وفي “خفايا التوراة” أيضا “في منطقة المجاردة وهي من عسير قرية خربان وهي حبرون التوراتية”، وفي رواية الصليبي “ليست هنالك أية حبرون في فلسطين، وأطلق اليهود والمسيحيون الإسم على بلدة الخليل الواقعة جنوب أورشاليم الفلسطينية أي القدس، ونظرا لأن حبرون التوراتية ترتبط بسيرة حياة إبراهيم الذي يصفه القرآن بأنه خليل الله، فقد قبلت التقاليد الإسلامية التعريف اليهودي والمسيحي للخليل الفلسطينية على أنها حبرون”.
يُعدّد علي بن إبراهيم الحربي في “المعجم الجغرافي ـ بلاد عسير” أسماء القرى المتصلة معانيها بخربان وهي “ثلاث قرى تابعة لمركز قنا، والخربان جبل أسود ببلاد بني جابرة من شهران، والخربان من قرى النهي جنوب مدينة النماص، والخربان من قرى علكم عسير تقع بجبل سودة عسير، كما أن هناك تسع قرى تحمل إسم “الخرباء” و”الخربة” ثلاث قرى من رفيدة والخربة من قرى آل صقر وخربة وادي ينحدر من جبل ماروك والخربة من قرى الجنبة والخربة من قرى آل ميمون والخربة من قرى شمران فضلا عن إسم “الخرب” الذي تحمله قرى أخرى.
يتساءل أستاذ التاريخ القديم في الجامعة الأردنية محمود أبو طالب في دراسته النقدية “هل جاءت التوراة من جزيرة العرب” والتي عالج فيها الخلاصة اللغوية حيال حبرون والخليل والخربان عن السبب المؤدي لإختيار الصليبي “قرية خربان في منطقة المجاردة دون غيرها من بين خمسة مواقع تحمل الإسم نفسه لتكون عاصمة داوود الأولى”، ويجيب على تساؤله بما معناه أن الصليبي ارتأى العثور على موقع أورشاليم التي يسميها آل شريم وهي القرية التي تبعد عن الخربان 35 كلم، وحتى في مقابلته اللغوية بين يروشليم وآل شريم “لم ينتبه الدكتور الصليبي إلى أنه لا وجود في النص العبري أبداً يروشليم وإنما يُكتب دوماً ومن دون استثناء يروشلم” كما يقول أبو طالب.
ثالثاً؛ بيت لحم وأم لحم:
في مقابلته اللغوية يقول الصليبي “بيت لحم أو معبد لحم، ولحم تعني حرفياً خبز او طعام او تموين، وهي في الظاهر إسم لإله المؤن: أم لحم اي إلهة الخبز الطعام التموين، والأمر الذي يفرض تحديد بيت لحم التوراتية بكونها أم لحم في وادي إضم وليس أي مكان آخر هو ترافق إسم بيت لحم في العديد من النصوص التوراتية مع إسم المكان ءفرت الذي هو اليوم فرت قرب أم لحم في وادي إضم نفسه”.
محمود أبو طالب: “في مقابلته اللغوية بين يروشليم وآل شريم “لم ينتبه الدكتور الصليبي إلى أنه لا وجود في النص العبري أبداً يروشليم وإنما يُكتب دوماً ومن دون استثناء يروشلم”
واستكمالاً لما يقوله الصليبي إن “أم” تعني “إلهة”، يفترض تطبيق هذا المعنى على مختلف القرى والبلدات ذات الأسماء المركبة والتي تبدأ بـ”أم”، وهذا يفرض العودة إلى المعجم الجغرافي لحمد الجاسر وحيث تتجاوز اسماء القرى السعودية التي على هذا النحو الـ 100 إسم ومنها أم ربيعة وأم خبل وأم رجراج وأم خرذان وأم ذاري وأم الدفين وأم الدراهم وأم الخير وأم الخرصان وأم الخشب وإلى آخر القائمة، وفي حال اقتصر أمر الأمثلة على أسماء القرى في بلاد عسير وهي أرض التوارة كما يعتبرها الصليبي، فلا شك أن عشرات القرى المركبة الإسم ستظهر في الخرائط والمعاجم منها: أم خرب وأم الروايا وأم خربا وأم خرشا وأم الخرصان وأم الخرق في جازان وأم خلفة وغيرها، فهل معنى الأم ـ الألهة تقتصر على “أم لحم” دون سواها في بلاد عسير الواسعة؟.
المفكر السوري فراس السوّاح والباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان يناقش في كتابه “الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم” ما كتبه كمال الصليبي، وفي نقاشه حول بيت لحم يقول:
“قمنا بدراسة جميع رسائل تل العمارنة ـ الفرعونية ـ المتعلقة بالدويلات في بلاد الشام، فتبين لنا بما لا يدع مجالا للشك بأنها مراسلات جرت مع ملوك سوريا وفلسطين ولا يمكن بحال من الأحوال أن تنطبق المعلومات التاريخية والأركيولوجية على غرب العربية ـ شبه الجزيرة ـ وسنقدم الدليل”، ومن الأدلة التي يقدمها السواح “نص إحدى رسائل ملك اورشاليم الكنعانية في فلسطين إلى الفرعون” وفي هذا النص ما يلي:
“إلى الملك مولاي، هكذا يقول خادمك عبدي هبة، أنظر إلى ما فعله ملك ـ إيلو وشوارداتا بأراضي الملك، لقد دفعوا بقوات من جازر ومن جت ومن كيله (…) أخذوا أراضي روبوتو، حتى بلدة في أراضي أورشاليم إسمها بيت لحم أعطيت إلى كيله”.
وعلى هذا النص يُعلّق فراس السواح “يلفت نظرنا في النص ورود ذكر بلدة بيت لحم في السجلات القديمة، وترد هنا مترافقة مع اورشاليم بإعتبارها تقع في منطقتها، فماذا قال الصليبي بشأن هذين الموقعين”؟ هكذا سأل السواح ثم أعطى هذه الإجابة التي تشرح نص رسالة تل العمارنة:
“في ما يتعلق بأورشاليم حدّد ـ الصليبي ـ مكانها جنوب مدينة النماص بعسير ـ و ـ حدّد موقع بيت لحم بقرية أم لحم الحالية في وادي إضم ـ وهذا ـ تناقض في طبوغرافية موقعي أورشاليم وبيت لحم عند الصليبي على ضوء رسالة تل عمارنة، فالرسالة تقول إن بيت لحم في أراضي أورشاليم وهو ما يتفق تماماً مع الوضع الطبوغرافي للموقعين حيث لا تبعد بين لحم عن أورشاليم أكثر من عشرة كيلومترات، وأما في خارطة الصليبي فالمسافة تبلغ 250 كلم”.
هل انتهى النقاش؟ لا..
(*) في القسم الرابع والأخير: كمال الصليبي ومكانة “ربما” في التاريخ؟