بعدها ولمدة تزيد على العشر دقائق، استمر هذا “المراسل” ـ وبتعبيرات إختلطت فيها لهجته المصرية بلغته العربية “الفصحى” التي تتميز بالركاكة ـ في الصياح بأعلى صوت لـ”تجريس” هذا اللص، الذي استمر في السير من دون أن يهرب سريعاً، حتى اختفى في أحد الشوارع الجانبية ببطء وهدوء شديدين.
أرغى وأزبد هذا المراسل غير المؤهل، الذي يتوهم أنه يؤدي عملاً إعلامياً، في التنديد بمحاولة هذا اللص “الشوارعجي” اختطاف جواله، مؤكداً لمرات لا متناهية بأننا قد رأينا للتو جريمة شنعاء “على الهواء”، وبأنه لن يتردد في أخذ حقه بإبلاغ “الجهات السلطوية” – هكذا أسماها هو – عما حدث، وبأنه “مش حيسيب” هذا اللص، وأقسم على ذلك “بحياة أمه”. مستمرا في تكرار المعاني والكلمات ذاتها بشكل يبلغ الحد المَرَضي.
يبدو أن ما حدث من محاولة سرقة جوال هذا “المراسل”، ربما هو الحدث الأبرز في حياته “الإعلامية”. فقد نسي هو على الأرجح ما الذي أتى به إلى هذا الشارع، وما هو الحدث “الجلل” الذي كان يتأهب لتغطيته قبل تلك الواقعة، لكن من الواضح أن واقعة محاولة “النشل” تفوقت على ما عداها في الأهمية، ولو كانت المهمة الأصلية كما البديلة.. وهمية!
بعد أن ضحكت من سخف الموقف، أحسست بمرارة معتادة تراودني من وقت لآخر، خاصة عندما أشاهد لقطات يظهر فيها أحد أبناء جلدتي وهو يُعبّر عن ردة فعله تجاه أحداث تافهة، فيُخرج الكثير من الكبت النفسي. بالمقابل، تُشاهد أنت عملية تفريغ لشحنات من الغضب في صورة تهويل ومبالغة، مع تشنجات وانفعالات لا تتناسب مع سخف وتفاهة الموضوع إطلاقاً، سواء تعلق الأمر بمشجعي كرة القدم؛ بمتابعي الثقافة الشعبية؛ الفعاليات الفنية الرثة المستوى؛ لقاءات الشوارع ذات الأسئلة الساذجة عديمة-الموضوع، أو ما شابه.
وهذه المرارة، تأتي في صورة تساؤل لا أجد إجابة عليه، أو لا أستطيع أن أجد له وصفاً محدداً، أو بالأحرى، مصطلح معين لتصنيفه وتسميته. فإذا حاولتَ مثلاً أن تصف حالة مواطن يعبر عن غضبه من غلاء الأسعار، عبر ميكروفون وضعه مراسل أمام فمه الشاكي. فيمكنك في هذه الحالة أن تقوم بتسمية ما يتحدث عنه هذا الشخص، كتصنيف/موضوع/مجال/نطاق، باسم محدد ومعرف، وهو الأزمة الاقتصادية، أو ربما أزمة التضخم أو لنقل أزمة المعيشة، إلخ.
لو شاهدت مباراة لكرة القدم على سبيل المثال، أدى خلالها الفريق المهزوم أداءً سيئاً، يمكنك حين تسمع أحد مشجعي هذا الفريق يشكو من سوء أداء فريقه وخسارته للثلاث نقاط، أن تصنف الموقف على أنه أزمة فنية كروية لفريق ما، أو أزمة إدارة أندية، أو ربما أزمة إدارة كرة القدم في ذاك البلد. وفي الأعم الأشمل “أزمة رياضية”، وهكذا.
لكن السؤال الملح، ما هي التسمية التي يمكن أن تطلقها على ما شاهدته في الفيديو سالف الذكر يا ترى؟
هل هي أزمة إعلامية، أزمة أمنية، أزمة ثقافية، أزمة اجتماعية، أزمة نفسية، أم ماذا؟ أو ربما هي كل تلك الأزمات في آن واحد!
يوصلنا ذلك إلى ما أطرحه اليوم من مفهوم/تسمية، ربما يساعدنا على فهم ما يحدث لنا بشكل أعمق، ألا وهو مفهوم الميتا-أزمة Meta-Crisis. يبدو المصطلح غريباً وغير قابل للتعريب للوهلة الأولى، فلم يجد الخبراء اللغويون العرب حتى الآن كلمة توازي كلمة Meta.
لإيضاح الفكرة، دعونا ننظر إلى مفهوم علم الـ Epistemology أو “نظرية المعرفة”، حسب الترجمة العلمية العربية. هو ببساطة علم يسعى لفهم الفهم، لمعرفة المعرفة، لإدراك طريقة الإدراك أو لتعقل العقلانية. ربما يكون أشهر مثال على هذا المنهج هو كتاب “نقد العقل المحض” للفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، ففي مقدمة الطبعة الأولى نجد تعليقاً ربما يساعدنا في فهم الفكرة. كتب إيمانويل كانت: “انتقد المنطق كله، مع احترام كل المعرفة التي قد تنتج مستقلة عن التجربة”. فهو يخلق بدراسته الفلسفية هذه، حداً فاصلاً بين المعرفة المستقلة عن التجربة ويسميها “البداهة”، وبين المعرفة الناتجة عن التجربة ويسميها “الاستدلال”. يبدو أن الفيلسوف كانت في بحثه هذا الذي ألهم من بعده الكثير من الفلاسفة والمفكرين، كان يبحث عن مفهوم “الميتا-معرفة”.
بدأنا بقصة عن فيديو تافه، وانتهينا بالحديث عن “نقد العقل المحض”!
يبدو أننا في طريقنا “لتخطي” شيء ما!
استمروا في متابعة الأجزاء التالية.