الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يلقي بالمسؤولية على الغرب. مثل طول المدة التي إستغرقتها عملية إقناع الحلفاء بضرورة تسليم دبابات متطورة لكييف وتحديداً “ليوبارد-2” الألمانية. هذا أتاح للروس وقتاً كي يفخّخوا الخطوط الأمامية للجبهات ويحفروا الخنادق ويقيموا خطوطاً دفاعية محصنة لا يمكن إختراقها بسهولة. كما أن عدم حصول كييف على صواريخ “أتاكمز” الأميركية البعيدة المدى، وعلى مقاتلات “إف-16″، شكّل معوقاً آخر من المعوقات التي تعثر بها الهجوم. يشكو زيلينسكي من أن دولاً أوروبية ترفض حتى فكرة تدريب الطيارين الأوكرانيين على هذا النوع من الطائرات. وحدها تشيكيا أعلنت حتى إستعدادها لتدريب الطيارين الأوكرانيين على الـ”إف-16.”
ومع ذلك، لاحت فرصة لا تعوض أمام الأوكرانيين لتحقيق إختراق كبير في الجبهة يوم 24 حزيران/يونيو الماضي، يوم إنشغلت روسيا بكليتها بالتمرد المسلح لمجموعة “فاغنر” بقيادة يفغيني بريغوجين. يومذاك كان المقاتلون الذين سيطروا على باخموت في أيار/مايو يديرون أسلحتهم في إتجاه موسكو. كان توقيتاً مثالياً بالنسبة للأوكرانيين كي يحدثوا ثغرة في خطوط الجيش الروسي، الذي لطالما سخر منه بريغوجين نفسه ووصفه بأنه جيش غير محترف ولم يخلق لصنعة الحرب.
في ذروة الإنشغال الروسي بإنهاء تمرد بريغوجين، بقيت خطوط الجبهة متماسكة. ويقر المعلق في مجلة “ذا هيل” الأميركية بأن “تمرد فاغنر لم يترك تأثيراً فورياً على الميدان على رغم إنسحاب مقاتلي المجموعة من الخطوط الأمامية للجبهة”.
بعد إحتواء تمرد بريغوجين، برزت تكهنات حول مصير نائب قائد القوات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين. هل هو معتقل أم يجري التحقيق معه حول إمكان تعاطفه مع التمرد، خصوصاً أنه معروف بصداقته لبريغوجين. نقطة سعى الإعلام الغربي إلى إستغلالها ليظهر أن ثمة إنشقاقاً داخل القيادة العسكرية الروسية، وبأن ثمة شيئاً لا يسير على ما يرام في روسيا. وإذا كان وزير الدفاع سيرغي شويغو قد جلا الغموض المحيط به بظهور علني الأسبوع الماضي إلى جانب ضباط في مكان ما من روسيا أو أوكرانيا، لا نعرف، فإن الأسئلة تكاثرت عن مكان وجود رئيس الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف الذي لم يظهر منذ التمرد. التخلص من شويغو وغيراسيموف كان الهدف الذي حدّده بريغوجين لتمرده.
اليوم، تتطلع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لتجد أنها قدّمت لأوكرانيا في 16 شهراً ما قدمته لأفغانستان في تسعة أعوام، وكلما إقترب موعد البدء الرسمي للحملات الإنتخابية الرئاسية، سيكون الملف الأوكراني أكثر سخونة في الداخل الأميركي، مع وعد المرشح الجمهوري الأكثر إحتمالاً دونالد ترامب بحل النزاع “في غضون 24 ساعة”
نورد هذا لنقول أن أوكرانيا لم تحسن الإستفادة من كل هذه البلبلة داخل روسيا لتحقيق إندفاعة نوعية في هجومها المضاد. يحاول مدير مركز فيرجينيا تيك للإتحاد الأوروبي ودراسات الفضاء عبر الأطلسي يانيش ستيفاشيتس، البحث عن الأسباب التي لم تؤدِ إلى إنهيارات روسية على الجبهة فيقول :”في روسيا، عليك أن تفعل شيئاً للوطن الأم.. إن الروس لا يقاتلون من أجل السياسة، ولن يضحوا أبداً بإستراتيجيتهم العسكرية من أجل السياسة”.
بعد أسبوعين على التمرد، يظهر بوتين أنه لا يزال الرجل الذي يمسك بكل مفاصل الدولة. هل أضعفه التمرد؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عليه. الذعر الذي ساد البيت الأبيض وعواصم أوروبية يوم إقتراب بريغوجين من موسكو، لم يكن أقل من ذاك الذي ساد الكرملين. من المؤكد أنه لم يكن يدخل في روع صانعي القرار في الغرب أن هناك إحتمالاً أن يأتي يوم يمسك فيه قائد مجموعة من المرتزقة بمفتاح القرار في أكبر دولة نووية في العالم. هذا يحدث في المخيال السينمائي فحسب. وحتى نشوب حرب أهلية روسية إلى أين يمكن أن تقود أوروبا والعالم؟
المهم، أنه بعد أشهر من الإنتظار وتحديد آمال طموحة جداً للهجوم المضاد، يتبين أنه لن يكون نزهة تشبه نزهة الهجومين اللذين قادتهما القوات الأوكرانية صيف وخريف العام الماضي. وقتذاك، لعب عنصر المفاجأة الدور الأكبر في تراجع الروس بغير إنتظام. هذه المرة إنتفى عنصر المفاجأة وبدا أن التقدم نحو كل شبر “يغرق في حقل ألغام بعد حقل ألغام” بحسب صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية.
ومن أجل تهدئة الشركاء الغربيين، يُكرّر القادة العسكريون الأوكرانيون، بأن الهجوم المضاد الأساسي لم يبدأ بعد وإن الأمور لا تزال في مرحلة الإستكشاف والبحث عن نقاط الضعف في الخطوط الروسية، وأنه لم يتم الزج بعد بفيالق النخبة التي تدربت على مدى أشهر في دول حلف شمال الأطلسي، ولا بالمدرعات الحديثة التي تبرع بها الغرب لأوكرانيا في الأشهر الأخيرة.
على أن المحللين العسكريين الغربيين يقابلون الوضع الميداني بعقل أكثر برودة ويفتشون بعمق عن أسباب تعثر الأوكرانيين، فيردون ذلك إلى أن الجيش الروسي غيّر تكتيكاته. كما تشكل الطائرات الروسية تحدياً خاصاً، في الوقت الذي تنشغل فيه الدفاعات الجوية الأوكرانية المحدودة بحماية المدن الرئيسية البعيدة عن خط الجبهة، من القصف الجوي، سواء بالصواريخ أو بالمُسيّرات.
منذ بدء الحرب قبل 16 شهراً، يتردد سؤال على ألسنة المعلقين والخبراء العسكريين الغربيين، حول عدم ظهور سلاح الجو الروسي بالقوة المعروفة في سياق الحرب. منذ بدء الهجوم المضاد يلعب سلاح لجو الروسي وتحديداً مروحيات “كي أي-52” ومُسيّرات “لانسيت” الروسية الصنع، دوراً رئيسياً في الميدان.
من هنا يرهن زيلينسكي تحقيق تقدم سريع في الميدان بالحصول على مقاتلات الجيل الرابع وفي مقدمها “إف-16” وعلى صواريخ أميركية بعيدة المدى. وهو يذهب أبعد من ذلك ليرى أن الحل الجذري يكون في إتخاذ حلف شمال الأطلسي قراراً تاريخياً في قمة فيلنيوس بليتوانيا في 11 تموز/يوليو و12 منه بتوجيه دعوة صريحة إلى أوكرانيا للإنضمام إلى الحلف فوراً.
هذا دليل على أن زيلينسكي ربما بدأ يقتنع بأن أوكرانيا لن تكون قادرة على تحمل حرب تستمر لسنوات، حتى ولو حصلت على أحدث أنواع الأسلحة، وأن الإنضمام إلى الأطلسي وحده يحقق التوازن مع روسيا.
إن زيارة زيلينسكي إلى إسطنبول واللقاء مع الرئيس رجب طيب أردوغان، كان عنوانه إتفاق تصدير الحبوب كون تركيا أحد الأطراف الضامنة للإتفاق، لكن يجب ألا يغيب عن البال أن تركيا كانت دائماً تدعو إلى الحوار سبيلاً لحل النزاع الأوكراني.
اليوم، تتطلع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لتجد أنها قدّمت لأوكرانيا في 16 شهراً ما قدمته لأفغانستان في تسعة أعوام، وكلما إقترب موعد البدء الرسمي للحملات الإنتخابية الرئاسية، سيكون الملف الأوكراني أكثر سخونة في الداخل الأميركي، مع وعد المرشح الجمهوري الأكثر إحتمالاً دونالد ترامب بحل النزاع “في غضون 24 ساعة”. وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تقول إن ترامب سيسلم أوكرانيا لروسيا إذا فاز عام 2024.
بعد كل هذه التطورات، أليس مستغرباً ألا يفكر زيلينسكي بسلوك طريق أكثر واقعية لوقف الحرب.. وهذه الصين في إنتظاره.