وهذه الأنظمة بالطبع هي السائدة في الدول الصناعية والمجتمعات الصناعية، لكنني أعتقد بأنها نظريات اجتماعية رجعية وغير كفؤة لدرجة كبيرة، وبأن عدداً ضخماً من مشاكلنا الأساسية تنبع من عدم اتساق هذه الأشكال الاجتماعية وعدم ملاءمتها للمجتمع الصناعي الحديث.
كاتب فرنسي متعاطف مع الفوضوية، كتب ذات مرة قائلاً: “إن الفوضوية تمتلك سطحاً متسعاً مثل الورق، فهي تحتمل أي شيء”. وهناك ألوان متعددة من الفوضوية، وأنا هنا أركّز على لون واحد، تحديداً فوضوية (ميخائيل) باكونين الذي كتب في مانيفيستو (بيان) الفوضوية عام 1865، أن الفرد حتى يكون فوضوياً، لابد له من أن يكون اشتراكياً.
أنا مهتم بفوضوية أدولف فيشر، أحد شهداء مذبحة هاي ماركت عام 1886، والذي قال إن كل فوضوي هو اشتراكي، لكن ليس كل اشتراكي يصبح بالضرورة فوضوياً. فالفوضوي المتسق مع مبادئه لا بد وأن يعارض الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
هذه الملكية في حقيقتها، كما شدد (بيير جوزيف) برودون في ملحوظته الشهيرة، هي شكل من أشكال السرقة. لكن الفوضوي المتسق مع مبادئه سيعارض أيضاً تنظيم الإنتاج على يد الحكومة. أقتبس هنا الآتي:
“المقصود هنا هو اشتراكية الدولة، أي سيطرة مسئولي الدولة على الإنتاج، وسيطرة المدراء، العلماء، بل ومسئولي المحل التجاري على المحل. هدف الطبقة العاملة هو التحرر من الاستغلال، وهذا الهدف لا يتحقق ولا يمكن بلوغه عبر طبقة إدارة حاكمة جديدة، تستبدل نفسها بطبقة من البرجوازية. بل يتحقق هذا الهدف عبر كون العمال أنفسهم أسياداً على الإنتاج من خلال شكل من أشكال المجالس العمالية“.
هذه الملحوظات مقتبسة من اليساري الماركسي أنطوني بانيكوك وبالأحرى، الفكر الماركسي الراديكالي – أو ما أسماه (فلاديمير) لينين اليسارية المتطرفة الطفولية – في امتزاجه مع التيارات الفوضوية.
أظن أن هناك نقطة هامة تستحق الطرح هنا، واسمحوا لي أن أقدم توضيحاً إضافياً لهذا الالتقاء ما بين الماركسية اليسارية والفوضوية الاشتراكية، واضعين في الأذهان التمثيل التالي للاشتراكية الثورية: الثوري الاشتراكي ينكر أن ملكية الدولة يمكنها أن تقود حتماً إلى استبدادية بيروقراطية، ولا غير ذلك. لقد رأينا لماذا لا يمكن للدولة أن تتحكم بالصناعة بشكل ديموقراطي. فالصناعة يمكن أن يُتحكم بها وتُمتلك ديموقراطياً فقط من قبل العمال الذين ينتخبون لجاناً إدارية صناعية مباشرة من بين صفوفهم.
الاشتراكية ستكون نظاماً صناعياً بشكل أساسي، ومؤسساتها ستكون ذات شخصية صناعية، وبالتالي سيكون هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بالنشاط الاجتماعي وصناعات المجتمع، ممثلين في المجالس المحلية والمركزية لإدارة المجتمع. بهذه الطريقة ستنساب سلطة مثل هؤلاء المفوضين من الأسفل للأعلى، صاعدة من هؤلاء الذين يقومون بالعمل والملمّين باحتياجات المجتمع.
عندما تجتمع اللجنة المركزية للإدارة الصناعية، ستمثل كل طور من أطوار النشاط الاجتماعي، بمعنى أن الدولة الرأسمالية، السياسية أو الجغرافية، سيتم استبدالها باللجنة الإدارية الصناعية للنظام الاشتراكي. عملية التحول من نظام اجتماعي لآخر، ستكون هي الثورة الاجتماعية.
الدولة السياسية عبر التاريخ، كانت تعني حكومةً تدير الناس عبر الطبقات الحاكمة، بينما الجمهورية الاشتراكية ستكون بمثابة الحكومة الصناعية التي تدير الصناعة بالنيابة عن المجتمع ككل. النمط الأول كان يعني الإخضاع الاقتصادي والسياسي للأغلبية، بينما الطور الثاني سيعني الحرية الاقتصادية للجميع، ومن ثم ستكون ديموقراطية حقيقية.
هذه الملاحظات مأخوذة من كتاب عنوانه “الدولة: منشأها ووظيفتها”، ألّفه ويليام بول في بدايات عام 1917، قبل نشوء دولة لينين وثورته بفترة قصيرة، وهو الكتاب الذي يعد أكثر مؤلفاته ليبرتارية. كان ويليام بول أحد مؤسسي الحزب الشيوعي البريطاني، ولاحقاً عمل محرراً في جريدة الحزب نفسه. ومن المثير للاهتمام أن نقده لاشتراكية الدولة يشبه بشكل كبير العقيدة الليبرتارية للفوضويين، وتحديداً في مبدئها القائل بأن الدولة يجب أن تختفي، ويتم استبدالها بتنظيم صناعي للمجتمع في سياق الثورة الاجتماعية ذاتها.
كتب (بيير جوزيف) برودون في عام 1851، أن ما نضعه في محل الحكومة هو المؤسسة الصناعية، كما يمكن نقل العديد والعديد من التعليقات المماثلة، التي تمثل إلى حد ما الفكرة الأساسية للثوريين الفوضويين. والأهم من وجود العديد من التصريحات المشابهة التي يمكن ذكرها، هو أن هذه الأفكار قد تحققت بالفعل في العمل الثوري العفوي عدة مرات، في ألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، وفي كتالونيا عام 1936.
يمكن للمرء، أو على الأقل قد أجادل أنا، بأن الشيوعية المجالسية بهذا المعنى، الذي يحتويه الاقتباس المطول الذي أقرأه هنا، هي شكل طبيعي للثورة الاشتراكية في مجتمع صناعي. فهي تعكس الفهم البديهي للديموقراطية على أنها خدعة حينما يكون النظام الصناعي تحت سيطرة أي شكل من أشكال النخبة الديكتاتورية، سواء أكانوا ملاكاً، مدراء، تكنوقراطاً، حزباً طليعياً، دولةً بيروقراطية أو أياً كانوا.
تحت هذه الظروف من السيطرة السلطوية، فإن المثل العليا لليبرالية الكلاسيكية، تلك التي عبّر عنها أيضاً (كارل) ماركس و(ميخائيل) باكونين وجميع الثوريين الحقيقيين، لا يمكنها أن تتحقق. بتعبير آخر، لن يصبح المرء حراً في التساؤل والإبداع بهدف تطوير إمكاناته الخاصة إلى حدّها الأقصى، وسيبقى العامل كِسرة إنسان، يُحَطُ من قدره كمجرد أداة في عملية الإنتاج يتم إدارتها من الأعلى.
بهذا المعنى، تم طمس أفكار الثورية الليبرتارية الاشتراكية في المجتمعات الصناعية طوال نصف القرن الماضي، وقد كانت الإيديولوجيات السائدة هي اشتراكية الدولة ورأسمالية الدولة. ولكن حدث بعثٌ مثير للاهتمام خلال السنوات القليلة الماضية. في الحقيقة، الفرضية التي اقتبستها من أنطوني بانيكوك، أخذتها من منشور حديث لمجموعة أصولية من العمال الفرنسيين، والاقتباس الذي قرأته من ويليام بول عن الاشتراكية الثورية كان مأخوذا من ورقة كتبها والتر كيندال، في المؤتمر الوطني للسيطرة العمالية في مدينة شيفيلد، إنجلترا في شهر مارس/أذار (1968).
كلتا هاتين المجموعتين الفرنسية والانجليزية، تمثلان أمراً مهماً، على الأخص حركة السيطرة العمالية بإنجلترا، فقد تطورت إلى قوة معتبرة خلال الأعوام القليلة الماضية، وهي تضم مجموعة من أضخم النقابات المهنية، مثل الاتحاد الهندسي المندمج (أعتقد أنه ثاني أكبر وحدة مهنية في انجلترا)، وهذه المجموعة تبنت هذه المبادئ كأفكار أساسية لها. وقد قامت بعقد سلسلة من المؤتمرات الناجحة وقامت بإصدار منشورات أدبية مثيرة للاهتمام.
وفي القارة الأوروبية كانت هناك تطورات موازية. فقد تسبب شهر مايو/أيار 1968 في فرنسا بتسارع وتيرة الاهتمام المتزايد بالشيوعية المجالسية والأفكار المشابهة لها، وكذلك بأشكال أخرى من الليبرتارية الاشتراكية في فرنسا وألمانيا، كما فعلت في إنجلترا. ونظراً للطبقة المحافظة بشكل عام في مجتمعنا عالي الإيديولوجية، ليس مفاجئاً أن الولايات المتحدة قد بقيت نسبياً بمنأى عن هذه التيارات، ولكن ذلك أيضاً قد يتغير.
إن تآكل أساطير الحرب الباردة، يجعل مناقشة بعض هذه المسائل ممكناً على الأقل. وإذا كان من الممكن التغلب على موجة القمع الحالية، وإذا تمكن اليسار من التغلب على ميوله الأكثر انتحارية والبناء على منجزات العقد الماضي، فإن مشكلة كيفية تنظيم المجتمع الصناعي بناءً على خطوط ديموقراطية حقة، بسيطرة ديموقراطية في محل العمل وكذلك المجتمع، فإن هذه المسألة لا بد وأنها ستتحول إلى القضية الفكرية المهيمنة لكل من يعيشون في مواجهة مشكلات المجتمع المعاصر. وكحركة جماعية مع تطور الليبرتارية الاشتراكية الثورية كما أتمنى، فإن التكهنات يجب أن تتحول إلى فعل.
اقرأ النص الأصلي الكامل بالإنجليزية لخطبة نعوم تشومسكي بعنوان “الحكومة في المستقبل“.
نستكمل في الجزء الثاني..