فرنسا تنعطف يميناً.. لا سردية مواطنة واحدة!

لفتت انتفاضة الضواحي الفرنسية الأخيرة الأنظار من حيث اتساعها الكبير وتداعياتها الاجتماعيّة والسياسيّة على البلاد. انتفاضةٌ لم تزل منذرةً برغم توقّف أحداث العنف، فكتابات الجدران دلالةٌ على أنّ جمراً ما زال تحت الرماد. خاصّةً وأنّها تأتي في سياق سلسلة من انتفاضات على مدى العقدين الماضيين هذه أكبرها وأكثرها عنفاً حيال مؤسّسات الدولة.

المنتفضون ليسوا من أبناء موجات الهجرة الحديثة إلى أوروبا الغربيّة من البلدان العربيّة أو إفريقيا أو آسيا. لا سيّما وأن فرنسا كانت من أقلّ الدول الأوروبيّة استقبالاً لهم، نسبةً لعدد سكّانها، وبالتحديد مقارنةً مع ألمانيا. أغلبيّة هؤلاء المنتفضين هم من أصولٍ مهاجرة ولكنّهم فرنسيوّن يحملون جنسيّتها منذ جيلين أو ثلاثة بعد أن جاء أجدادهم للعمل في المصانع والمساهمة في مسيرة البناء التي واكبت سنوات “الثلاثين المجيدة”. واللافت للإنتباه أنّ كثيراً من المهاجرين الجدُد إلى فرنسا يحاولون متابعة مسيرة الهجرة مجدّداً إلى بلدان أخرى، ولا تزال ظاهرة مدينة “كاليه” ماثلةً في الأذهان مع مئات المهاجرين الذين ينتظرون فرصةً لعبور بحر المانش نحو بريطانيا.

أجداد المنتفضين اليوم انتظموا في نقاباتٍ وأحزابٍ يساريّة، وبرغم البؤس الذي كان يعيشون فيه منعوا متظاهري أيار/مايو 1968 الشباب من احتلال وتخريب المصانع لأنّها وسيلة رزقهم. أمّا أبناء إنتفاضة اليوم فهم في أغلبهم شباب، بل قُصَّر بنسبةٍ ملحوظة، لكن من الواضح فقدان الأمل لديهم خاصّةً من حيث تقبّل المجتمع الفرنسي لهم مع أنّهم باتوا يشكّلون نسبةً ملحوظة من.. الفرنسيين.

إنّ توصيفهم بأبناء الضواحي يحتوي كثيراً من الاختزال. إنّهم فقط أبناء ضواحي في باريس والمدن الكبرى اليوم حيث غدا العيش في وسطها صعباً حتّى على أبناء الطبقة المتوسطة. أمّا في المدن الأخرى التي لم تشهد القفزات و”الخلخلة” العقاريّة فهم يعيشون في قلب المدينة وهم جزءٌ من صلبها. وأغلب هذه المدن الصغيرة شهدت أيضاً أحداث الشغب.

هكذا تكمُن جذور الانتفاضة ضمن إطار المجتمع الفرنسي وبالتفاعل بين جزءٍ من هذا المجتمع والأجزاء الأخرى والأهمّ من ذلك مع الدولة الفرنسيّة والطبقة السياسيّة التي تهيمن على مقدّراتها منذ زمن.

بالتأكيد لدى المجتمع الفرنسي مزايا كبيرة من حيث الدفاع عن الحريات العامّة والحقوق. لكنّ لأسبابٍ تاريخيّة لديه صعوبة أكثر من المجتمعات الأوروبيّة الأخرى في تقبّل تنوّع الهويّات الجزئيّة داخله واحتواء الهجرات. مجتمع كورسيكا وحده حافظ على هويّة مميّزة لأنّها جزيرة. وكذلك الجزر الأخرى وراء المحيطات. كما تقبّل المجتمع الفرنسي حفاظ مقاطعتي الألزاس واللورين على نوعٍ من الهويّة المميّزة لواقع نزاع فرنسا التاريخي عليهما مع ألمانيا. ففرنسا لائكيّة رسمياّ منذ عام 1905، تفصِل الدين عن الدولة، في كلّ مكان.. سوى هناك. واندمجت مجتمعات مهاجري أوائل القرن العشرين، من إيطاليا وبولونيا واسبانيا وغيرهما، ضمن الهويّة الفرنسيّة الجامعة وفقد هؤلاء هويّاتهم الأصليّة. لكن ضمن مجتمعات الهجرة الأحدث في منتصف القرن العشرين، فقلّة هم الذين اندمجوا لأسبابٍ تتعلّق بالدين، وخاصّة الإسلام، أو بلون البشرة. واللافت للإنتباه أنّ ذوي الأصول المغاربيّة أصبحوا أكثر تمسّكاً بالهويّة الإسلاميّة من آبائهم وأجدادهم لما يثير تشييد مسجد من إشكاليّات ولما أثارته من إشكاليّات عامّة سياسيّة واجتماعيّة قصّة ثلاث فتيات ارتدينَ غطاء رأس، وليس حجاباً حينها، للذهاب إلى المدرسة. قامت القيامة وقتها كما قامت حينما حاول وزيرٌ للتعليم إلغاء دعم الدولة الماليّ للمدارس الخاصّة المسيحيّة.

بعد أن وصل مرشّح حزب اليمين المتطرّف إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة عام 2002، وأحدث ذلك ردّ فعلٍ واسع بحيث هُزِمَ بعد نيله 18% من الأصوات، جاءت انتخابات 2022 مجدّداً بمرشحّة اليمين المتطرّف كي تُهزَم هذه المرّة لكنها نالت 41%. فماذا عن الانتخابات القادمة؟ خاصّةً بعد نجاح اليمين المتطرّف في إيطاليا وغيرها ومع بداية تقبُّل المجتمع الفرنسي لحزب اليمين المتطرّف التاريخيّ؟

وفي الواقع، لا تقع المسؤوليّة على المجتمع بل على الدولة والطرق التي تعالج فيها أزمة تكبُر وتتراكم مع الزمن. بدايةً من المناهج المدرسيّة وطريقة طرح هويّة جامعة تتقبّل التنوّع. فلا معنى اليوم أن يتعلّم الأطفال الفرنسيّون أنّهم جميعهم ينحدرون من قبائل “الغال Gaule“. ولم يعُد ممكناً للمناهج أن تتغاضى عن قضايا حسّاسة كما الجزائر، التي لم تكُن مستعمرة بل ضمّت كجزءٍ من الأراضي الفرنسيّة، وجرى التمييز فيها بين الوافدين الفرنسيين وبين أبناء الأرض اليهود والمسلمين. وكيف مُنِحت المواطنة لهؤلاء دون أولئك؟ بالتالي ما زالت هناك إشكاليّة في فرنسا كي تكون “السرديّة” المؤسّسة مدرسيّاً للهويّة الجامعة.. فعلاً وواقعيّاً سرديّة مواطنة للجميع.

ومن نافلة القول إنّ العصر الحالي يشهد أفول الإيديولوجيّات الاجتماعيّة وبروز إيديولوجيّات الهويّات ممّا يتطلّب عملاً اجتماعيّاً أكبر ضمن المجتمعات الأكثر حرماناً وفقراً عبر المراكز الاجتماعيّة والنشاطات الثقافيّة وعبر مراكز التدريب على خلق فرص العمل، وحتّى فيما يخصّ المؤسّسات الدينيّة وكيف يتمّ تأهيل كوادرها. ولطالما تذرّع القائمون على الدولة الفرنسيّة بقلّة الإمكانيّات الماديّة وقلّة الكفاءات للتعامل مع هذه القضايا برغم تواتر الانفجارات الاجتماعيّة. وحيث انتهى الأمر بسنّ قوانين تجرّم الأهل في حال قام المراهقون بأعمال شغب لأنّه لا يُمكِن محاكمة القاصرين ومعاقبتهم باعتبارهم قاصرين.

إقرأ على موقع 180  الحريري يستشعر "إنقلاباً" وجنبلاط "يتموضع".. والدولار "يُهادِن"!

ومع تضاؤل الفعل الاجتماعي للدولة لا يجد من تطلق عليهم تسمية أبناء الضواحي أمامهم من الدولة.. سوى الشرطة وقوى الأمن لحفظ النظام. لكن هنا أيضاً تمّ تقليص إمكانيات الشرطة المحليّة وتأهيلها، تلك التي يمكن أن تتواجد ضمن المجتمع وتحفظ انتظامه وتعرف أبناءه وخصوصيّاته. بحيث أضحت العلاقة بين الطرفين استعلائيّة من طرف يقابلها استفزازيّة من الطرف الآخر. شرطةٌ توقف الشباب للسؤال عن وثائقهم بناءً على لون وجههم وشبابٌ يتفاخرون كيف يغيظونها. هذا إلى درجة أنّ الأمم المتحدة نوّهت إلى التصرّفات العنصريّة للشرطة الفرنسيّة مما أثار استنكار السلطات في هذه البلاد. إلاّ أنّ الانتفاضات المتواترة في فرنسا باتت تشابه أكثر ما تشهده الولايات المتحدة من انتفاضات الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقيّة.

بالطبع ليست هذه الأمور سهلة ولكنّ المناخات السياسيّة العامّة تتوجّه نحو التطرّف “اليمينيّ” في مجمل أوروبا وكذلك في فرنسا. فبعد أن وصل مرشّح حزب اليمين المتطرّف إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة عام 2002، وأحدث ذلك ردّ فعلٍ واسع بحيث هُزِمَ بعد نيله 18% من الأصوات، جاءت انتخابات 2022 مجدّداً بمرشحّة اليمين المتطرّف كي تُهزَم هذه المرّة لكنها نالت 41%. فماذا عن الانتخابات القادمة؟ خاصّةً بعد نجاح اليمين المتطرّف في إيطاليا وغيرها ومع بداية تقبُّل المجتمع الفرنسي لحزب اليمين المتطرّف التاريخيّ؟

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  يوم لها.. وكل الأيام عليها