في التاسعة صباحاً حطت الطائرة الآتية من مطار دبي في مطار طهران، طار النظر بسرعة أقوى من البصر نحو إمراة غير محجبة تسرع الخطى نحو ركن مراقبة جوازات السفر.
كادت عينا الصديق الذي رافقني من دبي تجحظ نحوي، بعدما شاهد تسمري في المكان الذي يبعد خطوات قليلة عن تلك المرأة، ملتقطاً تفاصيل دهشتي وارتيابي عما سيؤول إليه مصير “عاثرة الحظ”، وما كاد الإرتياب يبلغ ذروته حتى كانت تلك المرأة تحمل حقيبتها بثقة كاملة وتدخل إلى طهران، ومن دون أن يظهر أي وجوم أو عبوس على الموظفة في ركن الجوازات، لقد أدت مهتمها مع تلك “السافرة” كما فعلت مع غيرها، رجالاً ونساءً، ولا فرق بين مواطن وآخر.
ابتسم صديقي بعدما أيقن تبدُد هاجسي وقال: نحن في دولة لا تحارب مجتمعها، ولا تواجه مواطنيها.
أعجبني تشخيص الصديق وتعريفه للدولة بإعتبارها حاضنة للمجتمع وليست مطاردة إياه، وربما هذا التعريف من صديق ضليع في التاريخ الإيراني ناتج عن عمق حضاري لمفهوم الدولة في إيران وبكونها تعبيراً عن المجتمع وليس سلطة عليه، ويستشهد الصديق بما يقوله شيخ المؤرخين الإنكليزي أرنولد توينبي في “تاريخ البشرية” إن “الإمبراطورية الإيرانية هي الأقل ظلماً بين الإمبراطوريات التاريخية وقد كان دور حكام الولايات الإشراف على الإدارة المحلية لا الإستيلاء عليها”، فيما يرى دونالد ولبر في “إيران ماضيها وحاضرها” أن “الدولة الإيرانية الاخمينية تفوقت على المدن اليونانية في الإدارة العامة والنظم السياسية وفي مجال التسامح في الجنس والعقيدة”.
الأبراج.. والحصار!
قبل أن نفترق، صديقي وأنا، ويذهب كل في سبيله، كانت عيناي تروحان وتجيئان في أرجاء المطار، عسى واحدة منهما تعثر على نظرة “قهر” لإمرأة سافرة، والسافرات قليلات، لكنهن يذهبن ويأتين من غير أن يتعرضن لرادع أو زاجر، عندذاك أو عند تلك المقارنة العاجلة، كان سائق التشريفات يناديني، ولما أخذتُ مقعدي في السيارة قال: إلى فندق “آزادي”.. فقلت إلى “آزادي”.
يبعد الفندق عن المطار زهاء خمسين كيلومتراً، كان نظري خلالها يسرح ويجول على جانبي الطريق الطويلة، لم أرَ ورقة على جانبي الطريق، لم أعاين حفرة، وطوال هذه المسافة لم تخدش أذناي شتائم يتبادلها السائقون ويتقاذفون بـ”فنونها وإبداعاتها”، ولم يحصل أن منبّهات السيارات انطلقت أكثر من مرتين او ثلاث، وفي كل مرة كان الحياء يغلب صوت المنبّه فيأتي خفوتاً خفيضاً.
هل أنتم محاصرون؟ سألتُ مسؤولاً كبيراً في اليوم التالي، فأجاب بسؤال:
ـ ماذا تقصد؟
ـ البنية التحتية عندكم رائعة يا عزيزي.
ـ أنت رأيت ما هو فوق الأرض، من طرقات وإسفلت، وأما ما هو تحت الأرض من إمدادات كهربائية ومائية وغازية فلا تراها العيون ولا تقع عليها الأبصار، وإن شئت نرى بعضها سوياً.
ـ لا ضرورة لذلك، دعنا فوق الأرض، أنت وأنا نجول في شوارع طهران منذ أربع ساعات، استوقفتني الأبراج، مئات منها عمرها أقل من أصابعي العشرة، ولها نظائر عددية في طور البناء، من أين لكم هذا وأنتم محاصرون؟
ـ فهمتُ ما تبتغي، ما تريد قوله يخالف الصورة المرسومة لإيران في الخارج، وذاك جزء من الحرب المفروضة علينا، أنت تكلمت عن الأبراج ألا تلاحظ العمارات العملاقة أيضاً؟ ألا يدل ذلك إلى واقع عمراني واقتصادي ينهض وينمو، هل الجوعى كما يقولون عنا في الخارج تنشط عندهم حركة العمران ولديهم مثل هذه البنية العمرانية، هل زرت الأسواق؟
ـ لا.. سأزورها غداً.
أشكال وألوان على مد النظر
في اليوم الثالث، كنتُ وأصدقاء أربعة، سوري وعراقي وتركي وبوسنوي، نطوف في “إيوان فرهنكي”، مركز التسوق الذي ينبسط على مساحة أفقية هائلة ويغور تحت الأرض لطبقات، في لحظة ما نهرني “الشقيق” السوري وقال: ألا تسمع هذه الأغنية الإنكليزية المبثوثة في صالة عرض الثياب حيث “أخونا” العراقي راقت له أسعار البضائع ذات الجودة العالية؟ أجابه “الجار” التركي الذي استرق معنى الحديث: إلى جانب تلك الصالة كنتُ أستمع إلى أغنية تركية، وفي لمحة لمّاحة قال العراقي: هذه هي أحوال كل الصالات .
أكثر من ساعتين جلنا في “إيوان فرهنكي”، زحمة ناس فوق العادة، حركة شراء كثيفة، مقاهي ممتلئة ومطاعم عامرة، في هذا المركز ترفض العيون أن تغادر ما تراه، أحدث انواع الثياب، أشكال وألوان من الأحذية والمصنفات الجلدية فائقة الجودة، ذهبيات وفضيات، فنيات ومنحوتات وأطباق مشغولة بإتقان وإلكترونيات في منتهى حداثتها على كل الجوانب، وإلى ذلك مكتبات واسعة لمن يرغب بالقراءة، وتماثيل لرموز ثقافية إيرانية كالفردوسي وحافظ وسعدي الشيرازي، البسمات وانشراحات العيون الضاحكة لا يجهد زائر طهران في التماسها، قال “الأخ” العراقي “الإيرانيين عايشين”.
“هل نحن في إيران”؟
غادرنا إلى “إيران مول” أو “بازار بزرگ ایران” وتعود فكرة بنائه وتصميمه إلى المهندس علي الأنصاري، وكنا نحن الخمسة قد سألنا عنه، وقيل لنا إن مساحته لا تقل عن مليون ونصف مليون متر مربع، هو مدينة بذاتها، تم افتتاحها عام 2018، يصعب تسمية هذه المدينة بمركز تبضع أو تسوق، هي كل شيء، للتجارة والفن والتسلية والرياضة والإقامة والنشاطات السينمائية والفكرية والثقافية، لا يمكن لزائرها أن يجول في أركانها وأقسامها خلال ساعات قليلة، الوقت ضيق و”بازار بزرگ ایران” شاسع المساحة والفروع، هيا إلى الفندق يا “رفاق” قالها الصديق السوري، فوافقنا على “أمره” من دون تحفظ أو تردد.
في سهرة ما بعد العشاء في فندق “آزادي”، قال الصديق العراقي “زرنا حتى الآن ثلاث تجمعات للتسوق والتبضع والترفيه، هذه مراكز جاذبة لفئات طبقية محددة، ما رأيكم لو زرنا الأسواق العادية ودخلنا إلى الحوانيت وجلنا في الأزقة؟ ابتسم الصديق التركي وقال “بعد الظهر كان الأمر للسوري، وفي المساء غداً الأمر للعراقي”، نحن لها وإن غدا لناظر قريب سنجول في الأسواق وندخل إلى الحوانيت.
في العاشرة صباحاً من اليوم الرابع، أقلنا الباص أولاً إلى قاعة المؤتمر المدعوين إليه، وهو بعنوان “العائلة بين الثقافتين الشرقية والغربية”، تحدثت أولاً الدكتورة العراقية زينب السلطاني، ثم أنا، ثم مساعد وزير الثقافة الإيرانية الدكتور قادر أشنا، وأخيراً عضو الهيئة العلمية في جامعة طهران الدكتور رضا بور حسين.
كان الحضور النسائي لافتاً للإنتباه في قاعة المؤتمر، نساء وفتيات مختلفات الأعمار في حركة ذهابهن وإيابهن لا يسألهن سائل ولا يراقبهن مراقب، وفي طريق العودة إلى الفندق لتناول الغداء سأل زائر لا أعرفه: هل نحن في إيران؟ أجابه صديق فلسطيني بالقول: يبدو في زيارتك الثانية إلى طهران سنجدك صاحب لحية من شدة إعجابك بما رأيت!
لبن العصفور موجود!
بعد الغداء لا بأس من القيلولة، كان موعدنا، نحن زمرة الخمسة، في الرابعة مساء وبعدها نتوه في شوارع طهران، أو “نتسكع” كما كان يفعل أهل التصوف على رأي الصديق السوري.
قلتُ لسائق الباص، عنواننا المتاهة، أنت تقود بلا عنوان، وحين يقول لك أحدنا قف تقف، ولتكن البداية من شارع “ولي عصر” ذي الطول المقدر بـ33 كلم. انطلق السائق بهدوء، وهكذا استمر، فيما أعين “الزمرة الخماسية” كانت نحو ذات الميسرة مرة ونحو ذات الميمنة في أخرى، الجميع استوقفته مشاهد التبضع والمقاهي المنتشرة على مد البصر، وبعد برهة طلب أحدنا من السائق أن يركن الباص جانباً، ويرافقنا نحو الأحياء والحوانيت.
دخلنا إلى الحانوت الأول، وما كان من صديقنا العراقي إلا أن راح يطلب المعجزات من السلع والمواد الغذائية، وكان البائع يجيبه “موجود”، سأل صديقنا عن أنواع من الأجبان كان يبتاعها في لندن وسان فرانسيسكو حيث أكمل دراساته العُليا، سأل عن أصناف من الشوكولاتة فوجد، سأل عن اللبان فوجد، هنا انتبه البائع إلى مقاصد الصديق فارتسمت بشاشة على محياه وقال “شیر گنجشک” موجود، أي “لبن العصفور موجود”.
خرجنا من الحانوت الأول إلى الثاني، ومنه إلى الثالث فالسابع، الأسئلة ذاتها والأجوبة ذاتها وفي أحياء متعددة، إلى أن حلّ بنا المطاف في مقهى تقابله وتجاوره سلسلة مقاهٍ، الداخلون إليها أكثر من الخارجين، كثيرون منهم لم يحالفهم الحظ بحجز مقاعد، نساء محجبات وأخريات نصف محجبات وأقل منهن من دون حجاب، لا ينهرهن أحد ولا ترمقهن عين مكفهرة، وحيال هذا المشهد الثلاثي صاح الصديق السوري بعفوية بلا قيد ولا رقابة على صوته وقال: الله أكبر.. هل هذه هي الصورة التي كانت في مخيلتنا قبل أن نأتي إلى طهران؟
لم يأت إلى خاطري بعدما سمعتُ وشاهدتُ ما قاله الصديق السوري سوى ما كان قاله “رفيق الدرب في دبي” هذه دولة لا تحارب مجتمعها.
حبستُ هذه المقولة إلى موعد اللقاء المرتقب مع مسؤول كبير، ومكثنا في المقهى زهاء ساعة، ثم عدنا إلى التيه كما فعل قوم موسى، إنما بإرادتنا نحن “عصابة الخمسة”، تركنا أقدامنا تقودنا إلى حيث تتعب، نتوقف بعض الوقت ثم نواصل السير بعد فاصل الإستراحة، كانت الأنظار مصوبة نحو المحال التجارية التي تقع تحت مرمى النظر، حركة لا تهدأ، ناس لا تضجر من الشراء ولا تتأفف، كأنها في سباق ومن يشتري أكثر له قصب السبق، وإزاء ذلك راح الصديق التركي يغني “يقولون هذا القدر، لا أصدق لا أصدق”، هكذا نقل المرافق معاني الأغنية، والله أعلم.
حوالي التاسعة والنصف مساء كنا في الفندق، وعلى مائدة العشاء تبادلنا وجهات النظر في ما رأيناه، وخلصنا إلى رأي مشترك مضمونه أن الإيرانيين مقصرون في نقل صورتهم إلى الخارج، كأن آخر اهتماماتهم ما يقال عنهم ، وكأن بهم يتخذون من شعر سعدي الشيرازي أسوة في صمتهم، يقول سعدي:
كل امرئ رهن غدا بما كسب/ قل للظلوم بالسوء المنقلب.
ماذا يقول مسؤول إيراني كبير؟
في صبيحة اليوم الخامس كنا في سوق طهران التاريخي “بازار تهران” لم تختلف مشاهد الأيام السابقة عما هي عليه في “البازار”، لا شي يثني عن شراء أي شيء، من أغلى قطعة سجاد عجمي إلى شرائح البطاطا المقلية والمحمصة، ومع ما تشرئب إليه الأفواه الجافة في صيف طهران من مرطبات غربية لا يخلو منها مكان ولا تفتقدها زاوية في “البازار” الكبير، ولم يبق بعد التجوال في نصف طهران إلا العودة إلى الفندق حيث اللقاء مع المسؤول الكبير، وبادرته بالسؤال:
ـ النساء اللواتي من دون حجاب نسبتهن قليلة؟
ـ المسؤول الكبير: بعض المراقبين عندنا كان يتوقع أكثر مما رأيت وشاهدت.
ـ واضح.. أن هذه التوقعات أصابها الإخفاق، ولكني سمعتُ عن قرار له صلة بالسيارة، لم أفهمه، ما مضمونه؟
ـ المسؤول الكبير: هذا القرار يعتبر أن السيارة “حرم شخصي” مثل المنزل، وكما يوجد “حرمة المنازل” يوجد “حرمة السيارات” بمعنى أنه لا يجوز التدقيق بما ترتديه الفتاة في السيارة، ففي هذه الحال، كأنها في منزلها.
ـ طبعاً.. هذا اللباس له حدود؟
ـ المسؤول الكبير: طبعاً.. طبعاً.
ـ أيضاً سمعتُ عن “بيوت التفكير” التي تبحث وتفكر في “طريق ثالث” بعيداً عن اللباس الغربي بالمطلق وبعيدا عن اللباس المعروف في الحوزات الدينية او من اختارت بإرداتها هذا النوع؟
ـ المسؤول الكبير: بالأصل.. هذه هو الشغل الشاغل للحكومة الحالية، وما تعمل عليه هذه الحكومة هو الهداية والنصح والإرشاد.
ـ أيضا سمعتُ مقولة أعجبتي مفادها أن الدولة في إيران لا تحارب مجتمعها ولا تواجهه؟
ـ المسؤول الكبير: بالضبط، هذه هي قاعدة الحُكم عندنا، والحكومة تعي وتدرك أن الناس ليست على خط بياني واحد، من واجبات الحكومة هداية الناس وإرشادهم وتوفير سبل رفاهيتهم ورفع مستوى عيشهم المادي والتعليمي والصحي، لكن العبث بالأمن أمر لا يمكن التساهل معه مهما كان جزئياً وتفصيلياً.
ـ ما لاحظته من حركة العمران والأسواق والإقتصاد أن الحكومة تعمل على استيعاب فئات محددة من المواطنين؟
ـ المسؤول الكبير: مع تحفظي على السؤال، استيعاب كل شرائح المواطنين ورعايتهم من مسؤوليات الحكومة وواجباتها، أليس هؤلاء مواطنينا؟
ـ إجابتك تقود إلى السؤال عن كيفية صنع القرار في إيران؟
ـ المسؤول الكبير: هناك ما هو رسمي وما هو غير رسمي في صناعة القرار في إيران، الرسمي يتمثل بالولي الفقيه ومجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس النواب والحكومة، وما هو غير رسمي رجال الأعمال والحوزة الدينية واتحادات الطلبة وروابط العمّال ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، وأي قرار رسمي في إيران يأخذ بالإعتبار تأثيرات القوى غير الرسمية وفعاليتها في الرأي العام، والأخير هو المجتمع الذي لا تحاربه الدولة، فهي جزء منه، هل سمعت أن نفسا تواجه أو تحارب نفسها؟.
بهذا التساؤل كان من اللائق أن أطوي صفحة الأسئلة، وبعد دقائق معدودات نظر المسؤول الكبير إلى عقارب ساعته وقال: استأذن منك لن أغفر لنفسي لو تأخرت عن موعد إقلاع طائرتك، ألقى تحية الوداع وغادر.
ما سمعته أيضاً:
ـ لا عودة بالعلاقات الإيرانية ـ العربية إلى الوراء.
ـ حدودنا يجب أن تكون حدوداً اقتصادية وليست حدوداً أمنية.
ـ عن النبي محمد أنه قال “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، وهكذا ستكون علاقتنا مع الدول الجارة ومع دول الجوار.
هذا ما شاهدته.. وما سمعته في طهران.