عندما كانت بيروت مساحة دبلوماسية عربية.. جامعة (2/2)

استعرض الجزء الأول من سلسلة المقالات التي تستحضر التاريخ الخلاّق للدبلوماسية اللبنانية المشروع المعروف بـ"بالحجز الإحتياطي لمدينة القدس"، والذي أطلقه لبنان عام 1971 لمنع تهويد المدينة المحتلة، وفي هذا الجزء الثاني عودة إلى فصل دبلوماسي لبناني ريادي تمثل بالمساعي اللبنانية لمصالحة الأردن والفصائل الفلسطينية.

في الثاني من تموز/يوليو 1971 تحدثت صحيفة “الحياة” اللبنانية عن احتمال تشكيل “لجنة رباعية تضم لبنان لمراقبة تنفيذ الإتفاقات بين الأردن والفدائيين” ونقلت عن صحف القاهرة قولها إن تقريرا قدمه حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس أنور السادات بعد اجتماعه بعمر السقاف وزير الدولة السعودية للشؤون الخارجية يشير إلى “تكوين لجنة رباعية من السعودية ومصر وسوريا ولبنان لمراقبة تنفيذ الإتفاقات المعقودة بين الحكومة الأردنية وحركة المقاومة الفلسطينية”.

هذا المقترح العائد إلى خمسة عقود خلت، يُظهر المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها لبنان في زمن عزه وزهوه قبل عام 1975، وبصورة تبين أيضا رفعة الدبلوماسية اللبنانية وبكونها آلية حراك سياسي مرغوبة ومطلوبة من دول المحيط.

وبناء على ذلك، ذكرت “الحياة” في السابع من تموز/يوليو 1971 “أن الجزائر أبلغت لبنان ترحيبها بإختياره عضوا في لجنة التوفيق العربية التي يجري البحث في تشكيلها وتكليفها العمل على تنقية الأجواء بين سلطات الأردن ومنظمات المقاومة الفلسطينية”. وقالت صحيفة “الأنوار” اللبنانية (17 ـ 7 ـ 1971) إن السعودية “طلبت من لبنان مساعدتها في تصفية الجو في الأردن بعد الإشتباكات الأخيرة بين القوات الأردنية والفدائيين الفلسطينيين ورحّب لبنان بهذا الطلب، وقد أعلن ذلك السيد عمر السقاف وزير الدولة للشؤون الخارجية في السعودية إثر مقابلته الرئيس سليمان فرنجية”.

كيف تدرجت المساعي اللبنانية الحميدة؟

كتب وفيق رمضان من العاصمة الأردنية (10 ـ 7 ـ1971) تحليلا مطولا في صحيفة “النهار” البيروتية عن “الأردن والعرب” ومن ضمنهم لبنان فقال “إن الرئيس صائب سلام وقبل أن يحضر إلى الأردن صرّح في بيروت أكثر من مرة بأنه ذاهب إلى عمّان للتوسط بين المقاومة والسلطات الأردنية”.

وعن هذه الوساطة التي اتخذت في بعض جوانبها تنسيقا لبنانيا ـ تونسيا كشفت صحيفة “الحياة” في الثالث والعشرين من تموز/يوليو 1971 عن “وجهة النظر التونسية التي شرحها السيد محمد المصمودي وزير الخارجية للرئيس سليمان فرنجية في الإجتماع الذي عُقد في إهدن وحضره الرئيس صائب سلام والسيدان ابو يوسف وكمال ناصر ممثلا المقاومة”. وبعد خمسة أيام (28 ـ 7 ـ 1971) أوردت “الحياة” عن رئيس الحكومة اللبنانية صائب سلام تأكيده “عقب اجتماعه بالسيد المصمودي أنهما اتفقا على الخطة التي سيعرضها الوزير التونسي على الملك فيصل وأن اتصالات المصمودي تجري بتنسيق مع مساعي السيدين عمر السقاف وحسن صبري الخولي”.

وحيال التنسيق اللبناني ـ التونسي تحدثت الصحف الأردنية فقالت:

ـ صحيفة “الدستور” (28 ـ 7 ـ 1971) عنونت الآتي: “خطة تونسية ـ لبنانية لتنقية الجو العربي يحملها المصمودي إلى الملك فيصل” وفي تفاصيلها الآتي:

“اجتمع السيد محمد المصمودي وزير الخارجية التونسية مع السيد صائب سلام رئيس الوزارة اللبنانية والسيد خليل أبو حمد وزير الخارجية، وصرح المصمودي بعد الإجتماع بأن مباحثاته تشكل جزءا من المحاولات التي تُبذل لتنقية الجو العربي وجو العلاقات بين الأردن والمقاومة الفلسطينية، وأعلن رئيس الوزراء اللبناني أنه اتفق مع وزير خارجية تونس على الخطة التي سيقترحها المصمودي على الملك فيصل، وأوضح سلام أن هذه الخطة تتفق مع المساعي التي يقوم بها ممثلا الملك فيصل والرئيس السادات”.

ـ صحيفة “الأردن” عنونت بتاريخ 28 تموز/يوليو 1971: “اتفاق صائب سلام والمصمودي على الخطة التي ستقدم للفيصل لتنقية الجو العربي” وفي التفاصيل:

“أعلن رئيس وزراء لبنان السيد صائب سلام انه اتفق مع وزير خارجية تونس السيد محمد المصمودي على الخطة التي سيقترحها المصمودي على الملك فيصل، وقال إن المصمودي أطلعه على نتائج اتصالاته في سوريا والأردن، وأن ما قام به ـ المصمودي ـ يمثل وجهة نظر لبنان في العلاقات بين الأردن والفدائيين”.

وتُظهر الأيام العشرة الأخيرة من تموز/يوليو 1971 أن بيروت تحولت إلى مساحة جامعة للدبلوماسية العربية بمختلف اتجاهاتها، فقد تكررت زيارات السقاف والخولي والمصمودي، وعرض لبنان على الأقطار العربية استضافة مؤتمر القمة في بيروت بهدف إصلاح الأحوال العربية المتردية نتيجة أحداث الأردن، وعلى ما نقلت “الحياة” عن الرئيس فرنجية (24ـ 7 ـ 1071) وبعد اجتماعه بالسقاف والخولي “والسيد خالد الحسن عن المقاومة الفلسطينية وبحضور الرئيس صائب سلام، تمنى عقد مؤتمر القمة العربي ـ في لبنان ـ في حال الإتفاق على هذا المؤتمر، وذلك تأكيدا لدور لبنان الطليعي بالنسبة للقضايا العربية”، وقالت “النهار” (25 ـ 7 ـ1971) إن سلام “أكد للسقاف أن لبنان مستعد لتلبية كل دعوة إلى أي مؤتمر يكون الغرض منه توحيد الكلمة العربية ، وإذا كانت الدول العربية المعنية تجد أن من المناسب عقد مؤتمر القمة في لبنان فإن الحكومة اللبنانية ترحب بذلك”، وعلى ما قالت “النهار”:

“ذكرت مصادر عليمة أن رئيس الجمهورية هو صاحب فكرة التمني على الملوك والرؤساء العرب عقد مؤتمرهم في لبنان، بعدما وصل الموقف إلى نقطة خطيرة من التدهور، وأن الفكرة نشأت عند الرئيس قبل وصول السيدين عمر السقاف وحسن صبري الخولي إلى بيروت بيومين، وفي أعقاب التباين في الرأي بين المسؤولين العرب حول اقترح العقيد معمر القذافي عقد مؤتمرقمة واقتراح العراق دعوة مجلس جامعة الدول العربية إلى اجتماع استثنائي”.

إقرأ على موقع 180  القفزة الصّدريّة المُتجدّدة متى تُنقذ الشّيعةَ.. ولبنان؟

لم يحجب “التمني” اللبناني بعقد قمة عربية في بيروت، رغبة الأخيرة بعضوية “لجنة التوفيق العربية” إذ أكد الرئيس سلام (“الحياة” ـ 24 ـ 7 ـ 1971) استعداد لبنان “للإشتراك في لجنة متابعة رباعية تضم سوريا ومصر والسعودية لوضع أسس ثابتة للتعاون بين الأردن والفدائيين”، وهذا ما دفع عمر السقاف (“الدستور” ـ الأردنية ـ 25 ـ 7 ـ 1971) للإشادة بالرئيسين فرنجية وسلام “لقد وجدنا ـ منهما ـ كل تعاون وإخلاص في خدمة القضية التي نعمل جميعا من أجلها، ولقد أبدى لبنان استعداده للإشتراك معنا سواء بالوساطة أو بغيرها لنعمل كل ما من شأنه أن يوطد العلاقات بين البلدان العربية الشقيقة”.

تعليقا على الحراك اللبناني كتب ميشال أبوجودة في “النهار” بتاريخ الخامس والعشرين من تموز/يوليو 1971:

“بينما أدت أحداث المغرب إلى تدهور العلاقات الليبية ـ المغربية (بعد محاولة انقلاب فاشلة مدعومة من ليبيا)، وبينما أدت احداث السودان إلى قطع العلاقات السودانية ـ العراقية (بعد محاولة انقلاب شيوعية وبعثية عراقية للإطاحة بجعفر النميري) وبينما يركز الرئيس السادات حملته على الملك حسين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فيرد الأردن بإنتقاد عودة القاهرة إلى تبني الإتهامات والأخطاء القديمة، وترد الجبهة الشعبية بأن الرئيس المصري يستهدف عزل يسار المقاومة، بينما يحدث ذلك كله على صعيد العلاقات العربية، مضافا إليه ما حدث على صعيد العلاقات الأردنية ـ الفدائية، يحق للرئيس فرنجية كما يحق للرئيس سلام، القول بأن سياسة لبنان العربية وهي سياسة الإنفتاح على الجميع، هي التي أتاحت للرئيس اللبناني أن يكون نقطة التلاقي العربي”.

لم ينعقد مؤتمر القمة العربية في بيروت، وإنما انعقد “مؤتمر مصغر” في طرابلس الغرب في الثلاثين من تموز/يوليو 1971 ولم يشارك في أعماله إلا خمسة من القادة العرب بينهم القذافي، وهو أمر أظهر حدة الإنقسامات العربية ـ العربية التي كان قرع جرس مخاطرها الرئيس فرنجية حين “تمنى” انعقاد هذا المؤتمر الطارئ في بيروت تفاديا لمزيد من الإحتقان بسبب أحداث الأردن وغيرها، ومع ذلك راوح لبنان على دبلوماسيته الحميدة مع أطراف عربية أخرى، وفي الثاني من آب/أغسطس 1971، نشرت “الحياة” مشروعا للتسوية بين الأردن والفصائل الفلسطينية صاغته على الشكل التالي:

“يبدو أن المحادثات التي أجراها وزير الخارجية التونسية في كل من الأردن وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية، بغية التوصل إلى أسس مشروع اتفاق جديد بين الحكومة الأردنية والمقاومة الفلسطينية قد نجحت، ويرتكز هذا المشروع على النقاط البارزة التالية:

ـ توحيد العمل الفدائي في منظمة واحدة.

ـ اعتبار ـ حركة ـ فتح قائدة منظمة المقاومة الموحدة.

ـ حصر العمل الفدائي داخل الأراضي المحتلة.

ـ تعهد الأردن بأن يوفر للفداء الحماية وحرية العمل بحسب اتفاقيتي القاهرة وعمّان.

ـ تعهد الفدائيين بإحترام سيادة الأردن.

ـ وجوب صيانة كرامة المواطنين الأردنيين من قبل الفدائيين، ووجوب صيانة كرامة الفدائيين من قبل السلطات الأردنية”.

وفي السابع من تموز/يوليو 1971 جاء في أعلى الصفحة الأولى من صحيفة “الدستور” الصادرة في عمّان “أسس الإتفاق بين الحكومة الأردنية والفدائيين”، وأوردت التفاصيل الآتية:

“استقبل السيد صائب سلام رئيس وزراء لبنان السيد عمر السقاف وزير الدولة السعودية للشؤون الخارجية الذي وصل إلى بيروت مساء أمس الأول قادما من دمشق، وقد أطلع السيد السقاف السيد سلام على تفاصيل المحادثات التي أجراها في كل من عمّان ودمشق وزعماء منظمات المقاومة، وأجاب السقاف عما إذا كان بالإمكان كشف النقاب عن بعض الأسس التي يتفق عليها الطرفان الحكومي والفدائي فقال إن الجانبين يقبلان بالعمل الفدائي ويعتقدان أن نقطة الإنطلاق هي الأرض المحتلة ـ ولكن ـ لا بد من دورة أخرى تشمل القاهرة وعمّان ودمشق وبيروت”.

معروفة هي المآلات التي آلت إليها وقائع الأردن، وسقطت معها الوساطة اللبنانية ونظيراتها العربيات، لكن لبنان كان حاضراً كنجم في السماء في حراكاته الدبلوماسية ومبادراته ووساطاته ومحاولاته ومساعيه، بل كان ريادياً في خلق الأفكار والمبادرات، فلا يُستثنى لها دور ولا يعيش على قارعة الحواشي.

(*) راجع الجزء الأول: زمن لبنان الدبلوماسي الخلّاق.. “الحجز الإحتياطي للقدس”

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الطائفية، الأقليات والأكثريات والأوهام