طلال سلمان.. علمٌ عربيٌ يفتخر بك سهل البقاع

في إحدى الجلسات المعدودة التي تشرّفت بالمشاركة فيها، مساء الخميس من كلّ أسبوع في مبنى "السّفير" في منطقة الحمرا، طلب منّي الأستاذ طلال سلمان أن أقترب منه قليلاً ليهمس لي بأمر. كان يطلبُ أن أجلسَ بالقرب من المقعد الخاصّ به في صالون مكتبه، برغم أنّه كان قد تعرّف عليّ منذ فترة وجيزة جدّاً حينَها.

قال “الأستاذ طلال”: نشرتَ كتاباً عن محمّد باقر الصّدر، وقرَنت اسمَه باسم علَمٍ كماكس فيبر (أي: عالِم الاجتماع والفيلسوف الألماني الشّهير).

قلتُ: نعم.

فقال بالهمسِ كذلك: هل كان محمّد باقر الصّدر بهذا الحجم الفكري برأيك؟ كنّا نراه مجرّدَ حالِمٍ (أي: يريد بناء نظامٍ إسلامي في كلّ المجالات، ويميل إلى مفهوم الدّولة الإسلاميّة أو ذات الأبعاد الإسلاميّة).

فأجبتُ: لم أتناول الصّدرَ في أبحاثي تلك من زاوية النّتائج التي وصلَ إليها فقط، ولكن من زاوية تموضعاته الفلسفيّة والمنهجيّة. الأكثرون يحكمون على السّيّد الشّهيد من خلال خلافهم معه حول المفاهيم النّهائيّة، أو النّتائج الجزئيّة. ولكنّ أبحاثي تُبيّن – والله أعلم – أنّه لا ينبغي الاستهانة بإسهامات الرّجل على المستويات الوجوديّة والمعرفيّة والمنهجيّة (بالمعنى الفلسفي طبعاً).. وقبل أي مستوى آخر. أدعو، في هذا الكتاب، إلى مقاربة أعمال محمّد باقر الصّدر من هذه الزّوايا المذكورة، وقد وجدتُ ما يدعو إلى التّقريب بين منهجيّته في بناء المفاهيم (“الإسلاميّة”) ومنهجيّة ماكس فيبر في بناء النّماذج-المثاليّة (Les types idéaux).

قلتُ ما سبق وفي داخلي قلقٌ معيّن حولَ طريقة استقبال وتقبّل الأستاذ الكبير، طلال سلمان، لرأيٍ كذاك الرّأي، وبطبيعة الحال، هو رأيٌ مخالِفٌ للخطّ العام المعتمد من قبل العروبيّين والقوميّين العرب واليساريّين تجاه فيلسوفٍ ومنظّرٍ: لما يسمّونه بالإسلام السّياسي.

ولكنّ “الأستاذ طلال” فاجأني، أوّلاً، بعلامات الاهتمام الشّديد على وجهه، ثمّ بإشارات الإيجاب والتّأييد: ليس من زاوية الحُكم أو الرّأي النّهائي، وإنّما من زاوية احترام الأفكار الجديدة والبحث العلمي. تبسّم قائلاً: علينا أن نقرأ هذا الكتاب إذن، مع أنّي متعجّب كثيراً، ولكن سنرى!

لم يكتفِ الأستاذ طلال سلمان بمجرّد ردّة الفعل الآنيّة، وإنّما وهبني – وبشكل واضح وبسرعة قياسيّة – اهتمامه الشّديد. وصار، عند كلّ جلسة خميس في مبنى “السّفير”، يطلبُ رأيي في كلّ موضوع، ويعطيني الكلام. وكنت أنظر إلى وجهه فأرى علامات الاهتمام الشّديد والاحترام لأفكاري: ليس فقط حول الصّدر والدّراسات الإسلاميّة، وإنّما أيضاً، حول التّاريخ والفلسفة والأدب والسّياسة. عندما بدأت عملي الجديد في بداية عام 2022، افتقدني في الجلسات تلك، فكان الصّديق حسين أيّوب هو من “يُغطّيني”، وأنا المُحرج بسبب طبيعة وظيفتي الجديدة الأخّاذة للوقت وللمواعيد.

في الخلاصة: أنا الذي أعتقدُ بأنّي قد مررتُ بمجالس وندوات كثيرة من هذا القبيل في فرنسا وفي أوروبا، أجزم بأنّ الأستاذ طلال قد أثبتَ لي، بلا أدنى شكّ، أنّه مصداقٌ للمثقّف الرّاقي والكبير. ليس فقط بسبب حجم اطّلاعه أو بسبب موقعه المهني: بل لأنّه يتقن فنّ الاصغاء والاستماع، ولأنّه يحترمُ الآراء الجديدة والمُخالفة والشّابّة. ولأنّه أيضاً: يفهم – وبعمق – أهميّة التّضاد في الآراء وفي الأفكار وفي المفاهيم.

بكلّ صدق: خرجتُ من هذه المعرفة الشّخصيّة الحديثة، والوجيزة نسبيّاً، بقناعة واضحة بأنّنا – ما فوق مسألة “السّفير” وتاريخ النّضال في الصّحافة، وفي خطّ العروبة – أمام نموذجٍ راقٍ أشدّ الرّقيّ: للمثقّف الحقّ. 

وللأسف، لا يأخذ الكثيرون من محيطنا البقاعي واللّبناني والعربي بأهميّة هذا الجانب الثّقافي (أو “المثقّف” إن جازت العبارة)، ولا يُعطى حقّه عندهم كما ينبغي. ولكنّ مراجعة بعض سِيَر الأعلام المثقّفين الكبار، في الزّمان القديم والحديث، تجعلُني أؤمنُ بأنّ التّاريخَين اللّبناني-البقاعي والعربي، لا بدّ وأن يُنصفا الأستاذ طلال سلمان من هذه الزّاوية أيضاً، وفي نهاية المطاف.

***

لقاء “الأستاذ طلال” كان شرفاً كبيراً لي طبعاً، ومدعاة سرورٍ شديد. وسيظلّ يُشكّل بالنّسبة إليّ: تصوّرَ ذكرى جميلة وعزيزة ومهمّة في حياتي. فبالإضافة إلى الجانب “المثقّف” السّابق الذّكر، لا مجالَ إلّا للتّذكير بالجانب العروبي الثّابت والصّلب عند “الأستاذ طلال”.

يُمكنكَ أن تختلفَ معه حول كثيرٍ من المواضيع والملفّات الجزئيّة والفرعيّة. على سبيل المثال لا الحصر: مسألة إقفال جريدة “السّفير”، التي شرح لي حولها وُجهة نظره الشّخصيّة، والتي أحترمها. وما أنا في موقع الحُكم عليها أصلاً: برغم إصراري على أهميّة عودة مَعلمٍ كهذا المَعلم العروبي والمقاوِم والتّحرّري – عاجلاً أم آجلاً، وبطريقةٍ أو بأخرى!

نعم، يُمكنك أن تختلفَ مع “الأستاذ طلال” حول كثيرٍ من المواضيع والملفّات. ولكنّك لا يُمكن إلّا وأن تُقرّ بمبدئيّته وثباته في:

(١) مسألة الفكرة العروبيّة (بشكل عام)؛

(٢) مسألة الصّراع العربي-الإسرائيلي، وبالتّالي، قضيّة المقاومة؛

(٣) مسألة التّشديد على أهمّيّة بناء عقليّة الفرد-المواطن، وبالتّالي، بناء دولة المواطنة العصريّة.

يُمكنك، برأيي، أن تنتقد طلال سلمان حول مسائل كثيرة، وهو إنسان في نهاية الأمر. ولكن لا يُمكنك إلّا وأن تقرّ بمبدئيّته حول هذه المواضيع، وأيضاً، أن تقرّ بأهمّيّة دوره وموقعه ضمن مسيرة النّضال في سبيل الدّفاع عنها جميعاً.

إقرأ على موقع 180  ما بعد "داعش"، ما قبل "داعش"!

نموذج “المثقّف الحقّ” يلتقي في شخص “الأستاذ طلال” مع نماذج: العروبي الصّادق، المقاوم المبدئي، والمتحرِّر الذي لا يكلّ ولا يملّ عداكَ عن المواطِن الذي ينتظر دولَته المتأخّرة (كثيراً) والمشروع العربي الذي لن يأتي!

***

من الصّعب جدّاً، بالطّبع، أن تحيطَ بشخصيّة رجلٍ كالأستاذ طلال سلمان، من خلال بعض الكلمات. وأرجو أن يتمّ تكريمُهُ، في لبنان وفي الوطن العربي، بما يليق بهِ وبموقعهِ وبتاريخهِ. ولكن ثمة جانب شخصيّ أحبّ التّشديدَ عليه فيما يُتاحُ لي.

فالأستاذ طلال سلمان هو طبعاً من منطقة البقاع، وبالأخص: هو ابنُ منطقة بعلبك-الهرمل. وكثيرٌ منّا، نحن أهل البقاع – من أقصى منطقة راشيّا إلى أقصى منطقة الهرمل – يشعرُ، في عديدٍ من المواقف، وإلى الآن، بكثيرٍ من الغُبنِ والظّلم والحرمان.. والتّعاطي معنا على أنّنا مواطنو “درجة ثانية أو ثالثة”. بكلّ طوائفنا وبيئاتنا طبعاً، لكن بالأخصّ: في بعلبك-الهرمل. لا أعتقد أنّ هذه الملاحظة تشكّل مفاجأة لأحد، ولا داعيَ “للتّذاكي” وللتّكاذب على بعضنا البعض، بل الصّديقُ في هذه المواضيعِ هو من صَدَق.

ولعلّ عظيم المحبّة والتّأييد والمبايعة التي يكنّها أهلُنا لشخص وموقع سماحة السّيّد حسن نصرالله، وعظيم التّقدير والاحترام لذكرى الإمام المغيّب السّيّد موسى الصّدر: هما العاملان الأساسيّان خلفَ بقاء هذا الشّعور شعوراً عائليّاً وداخليّاً وصديقاً ومحبّاً.. ومكظومَ الغيظِ عند أهلنا، بالمعنى الإيجابي طبعاً.

لكنّ ذلك لا يمنعُ التّشديدَ على أهمّيّة أن يكونَ عَلَمٌ من طراز الأستاذ طلال سلمان: من شمسطار الحبيبة، ومن بعلبك ومن البقاع ككلّ. بالعكس، فما هذا إلّا دليلٌ على الطّاقة الكامنة في العنصر البشري لأهل هذا السّهل العزيز والحبيب.

من دواعي فخرنا – بالتّأكيد – أن يكونَ “الأستاذ طلال” من هذا السّهل، وأن يكونَ دليلاً قائماً على الإمكانيّات الهائلة التي يحملها سهلنا من خلال أرضه وأهله.

***

نفتخرُ بك، إذن، يا أيّها “الأستاذ طلال”: كعَلَمٍ مثقّفٍ وعروبيٍّ، حقٍّ وراقٍ وكبير ومن البقاع اللّبناني!

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "لعبة الأمم" تطوي قضية الحريري.. القتلة مجهولون!