الصين والهند.. عملاقان كلّ ما حولهما يُرسّخ تناقضاتهما (3/2)

استعرض الجزء الأول من هذه المقالة الخلافات التاريخية بين الهند والصين وطابع التعارض الفلسفي بين البوذية والكونفوشيوسية، إذ لم ينظر الصينيون للبوذية إلا من منظور العقيدة الزاحفة من الخارج، فحاربوها طوال ثمانية قرون، وما بقي منها في بلادهم أدخلوا فيها الروح الصينية، ويتناول الجزء الثاني تناقضات المجال الحيوي بين عملاقي العالم.

يتحدث الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل في “أحاديث في آسيا” عن عدوين للهند، هما “باكستان والصين التي تطل من فوق جبال همالايا، ولعبة التوازن الدولي تدفع الهند دفعاً إلى وضع يُعمّق ويُرسّخ تناقضاتها مع الصين”.

هذه المقاربة التي تعود إلى ما يقارب نصف قرن، والتي صاغها هيكل بعد زيارة للهند، توجز ستة عقود من العلاقات الصينية ـ الهندية المضطربة خلال القرن العشرين، ولم تأت العقود اللاحقة بما فيها السنوات الأخيرة من القرن الحالي، لتُبدّد ما كان كتبه هيكل عام 1973، وكانت آخر المظاهر غير السوية للعلاقات بين بكين ونيودلهي قد تمثلت في عدم حضور الرئيس الصيني شي جين بينغ “قمة العشرين” في العاصمة الهندية (9 أيلول/سبتمبر 2023) والتي ترافق انعقادها مع الإعلان عن إطلاق مشروع “الممر الهندي ـ الخليجي ـ الأوروبي” المقرر له أن ينافس ـ نظرياً على الأقل ـ المشروع الإستراتيجي الصيني المعروف بـ”الحزام والطريق”.

وبهذه الصورة تقف الهند والصين أمام مستقبل تتعارض فيه استراتيجيتان لا يجمع جامع بينهما، تماماً كما كانت حالهما منذ مطلع القرن العشرين، وكما هو راهنهما، حيث الحقول المتفجرة تحيط بعلاقات الطرفين من كل جانب، فحدود الدولتين التي تقترب من 3500 كلم غير متفق على ترسيمها، وتدعي الهند أن الصين تحتل 35 ألف كلم2 من أراضيها في منطقة كشمير في أعالي جبال همالايا، وتزعم الصين أن 85 ألف كلم2 واقعة تحت الإحتلال الهندي، وفي الوقت نفسه، صارت الهند عضواً في تحالف “كواد” (Quad) مع أوستراليا واليابان والولايات المتحدة بمهمة محصورة بالتصدي للنفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادئ، فيما خرائط النزاع الجيوـ سياسية تشمل الآتي:

أولاً؛ باكستان:

منذ انفصالها عن الهند عام 1947 اتكأت باكستان على الجار الصيني الموثوق لمقارعة جارها الهندي اللدود، ولما كانت بلاد التيبت امتداداً حضارياً للهند وضمتها الصين إلى دوائر نفوذها عام 1950، اعترفت باكستان بـ”العملية العسكرية الصينية الخاصة” في التيبت، وتأسست على هذا الموقف روابط استراتيجية بين بكين وإسلام آباد، فراحت الأولى تتقاطع مع الثانية في مختلف مواقفها من الهند وحروبها معها، ومنذ ما قبل نشوب الحرب الهندية ـ الباكستانية الثانية سنة 1965 وقفت الصين مع باكستان واختصرت صحيفة “الحياة” اللبنانية في الثامن من أيلول/سبتمبر 1965 الموقف الصيني بقولها “الصين تؤيد باكستان وتعزز قوات الحدود”، وفي تعليق بعنوان “ظل الصين فوق الهند” قالت:

“ماذا ستفعل الدول الكبرى حيال الحرب بين الهند وباكستان؟ من تحليل الموقف يتضح أن الصين الشيوعية هي العملاق الكامن وراء الستار وهي سبب القلق الشامل، ومن المحتمل أن تتجه باكستان صوب الصين وتطلب معونتها، وقد جهرت الصين بتأييد باكستان وشجب الهجوم الهندي، كما أعلنت رسمياً عن تعزيز قواتها على حدود الهند استعداداً للطوارئ”.

وفي الحرب الهندية ـ الباكستانية الثالثة عام 1971 المعروفة بـ”حرب بنغلادش”، كانت الصين طرفاً مباشراً في هذه الحرب إلى جانب باكستان وفي مواجهة الهند والإتحاد السوفياتي، فعملت على تزويد باكستان بعشرات الطائرات المقاتلة من نوع “ميغ 19” وبما تحتاجه من قطع المدفعية والذخائر كما يقول الباحث الباكستاني هادي حسين في “العلاقات الباكستانية ـ الصينية/استجابة للتحديات والفرص المشتركة”، ويفند حسين طبيعة هذه العلاقات في ورقته البحثية الصادرة عام 2017 بقوله:

“في مجال الدفاع، يعود التعاون بين الصين وباكستان إلى السنوات الأولى لتأسيس باكستان، وساعدت الصين في إنشاء مجمع باكستان للطيران والصناعات الثقيلة ومشاريع المصانع البحرية والصاروخية، والصين كان لها ولا يزال الدور الأبرز في بناء وتطوير القدرات الدفاعية الباكستانية، وحصلت باكستان على صواريخ بالستية صينية عام 1992، وساهمت الصين في صناعة وتطوير طائرات حربية ونفاثة في إطار الإنتاج الدفاعي المشترك مع باكستان، ولعبت الصين دوراً رئيسياً في بناء وتنمية قدرات باكستان النووية وساعدت في بناء 6 مفاعلات نووية باكستانية، ويمكن تفسير هذا التعاون بين البلدين برغبتيهما في كبح عجلات الهند المدعومة من الولايات المتحدة التي تستخدم الورقة الهندية كخيار استراتيجي للضغط على الصين”.

ثانياً؛ بنغلادش: 

في ستينيات القرن الماضي، كانت الهند لصيقة بالإتحاد السوفياتي، والصين في مواجهة إيديولوجية حامية مع “التحريفية السوفياتية”، وحين اندلعت المواجهة العسكرية الروسية ـ الصينية في آذار/مارس 1969، مالت الهند إلى روسيا الحمراء، وكان من الطبيعي أن يكون الموقف الباكستاني أقرب إلى الصين، وفي لحظة اكتمال أسباب الحرب الباكستانية ـ الهندية عام 1971 والتي أدت إلى انفصال بنغلادش عن باكستان، أبرمت الهند “معاهدة صداقة” مع الإتحاد السوفياتي قبل أربعة أشهر من نشوب الحرب، ورأت الصحف الصادرة في تلك الفترة (10 ـ 8 ـ 1971) وبينها صحيفة “الحياة” أن تلك المعاهدة “تُعدُّ تحذيراً موجهاً إلى الصين وباكستان” وكتب عبدالكريم أبو النصر في صحيفة “النهار” البيروتية مُعلقاً:

“أهمية هذه المعاهدة أن دولة كبرى هي الإتحاد السوفياتي، دخلت للمرة الأولى وفي شكل رسمي طرفاً في النزاع الهندي ـ الباكستاني، وهذه المعاهدة تشكل رداً على التقارب الصيني ـ الأميركي، وقد تكون المعاهدة محكاً لتجربة مثيرة: ماذا لو وقعت الحرب بين باكستان والهند وتدخلت الصين إلى جانب باكستان؟ هل تفرض المعاهدة على الإتحاد السوفياتي أن يتدخل عسكرياً إلى جانب الهند”؟.

وقعت الحرب وانفصلت بنغلادش عن باكستان، وبعد أشهر قليلة كتبت صحيفة “القبس” الكويتية (2 ـ 3 ـ1972):

“كان من الواضح ان اتفاق الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية على خلق دولة جديدة في شبه القارة الهندية، اسمها بنغلادش، لا يمكن ألا ينتهي بغير إقامة تلك الدولة، كان الهدف إنهاء وجود باكستان كدولة قوية يمكن أن تقف في وجه الهند، وإطلاق يد الهند في شبه القارة الهندية وقيام الروس بتقويتها عسكرياً والأميركيين بدعمها اقتصادياً، يكفل وقوفها بكل إمكاناتها البشرية كندٍ قوي للصين الشعبية”.

إقرأ على موقع 180  الصين مأزومة.. أمريكا هي الأقوى!

ولا يبدو أن الصين كانت بعيدة عن هذه الرؤية، ولذلك استخدمت الـ”فيتو” عام 1972 لإسقاط مشرع قرار في مجلس الأمن الدولي للإعتراف بدولة بنغلادش الوليدة، واستمرت الصين على حالة الإعتراض حتى منتصف آب/أغسطس 1975 حين أطاح انقلاب عسكري بالشيخ مجيب الرحمن مؤسس بنغلادش وقائد الإنفصال عن باكستان والمدعوم من الهند، ولوحظ أن باكستان سارعت بإعلان تأييدها للعملية الإنقلابية انطلاقاً من قراءتها بأن “الحكم الجديد” بقيادة مشتاق أحمد سيبتعد عن المدار الهندي وهذا ما ستقدم عليه الصين لاحقاً، وجاء في تحقيق موسع (16 ـ 8 ـ 1975) نشرته “القبس”:

“كانت خطابات مشتاق أحمد تتضمن انتقاداً للهند، وأصبحت له شعبية بسبب معالجته لقضايا بلاده مع الهند بحزم، وكسب مزيداً من الشعبية بإزدياد عدد المناوئين للهند، وأيد أحمد الإبتعاد عن الإتحاد السوفياتي، ويبدو أن مناوأته للإتحاد السوفياتي والهند أكسبته شعبية لدى قسم كبير من القوات المسلحة، وقال مراقبون إنه من المتوقع أن يحظى الحكم الجديد في بنغلادش بتأييد كاسح من الصين الشعبية بينما سيعتبر الإتحاد السوفياتي أنه خسر حليفاً كبيراً، وكذلك الهند التي لن يكون الحكم الجديد موالياً لها”.

بعد إسقاط مجيب الرحمن تحوّلت بنغلادش إلى أرض نزاع بين الهند والصين، وما انفك هذا الوقع قائماً برغم تعاقب الإنقلابات العسكرية، وإثر سلوك بنغلادش المسار الديموقراطي منذ عام 1991، غدا النفوذ الهندي أو الصيني يُقاس بنتائج الإنتخابات النيابية، فحين تفوز “رابطة عوامي” يفيض حضور الهند في بنغلادش، وحين يحصل “الحزب القومي” على الأغلبية البرلمانية ويتقلد السلطة التنفيذية يتعزز وجود الصين وتجحظ العيون الهندية خيفة وريبة من الحُكم القائم.

ثالثاً؛ سريلانكا:

تُعتبر سريلانكا امتداداً حضارياً وثقافياً للهند، فالأكثرية السنهالية تُدين بالبوذية ذات المنشأ الهندي، وكذلك فكُبرى الأقليات الدينية المعروفة بـ”التاميل” تعتنق الهندوسية، ولا تتعدى المسافة الفاصلة بين سريلانكا والهند 50 كيلومتراً.

ومن هذا المنظور ترسّخ التطلع الهندي نحو سريلانكا بإعتبارها مجالاً هندياً متعدد المستويات، إلا أن النظام السياسي الذي قادته الأكثرية السنهالية البوذية منذ الإستقلال عام 1948 أقلق الهند وأثار حفيظتها، وخصوصا بعد إستلام السيدة سيريمافو باندرانايكا رئاسة الوزراء عام 1960 واتجاهها لتقليص حضور “التاميل” في المشهد الوطني العام.

تلك الإجراءات التي اتخذتها باندرانايكا شكلت ذريعة هندية لمؤازرة “التاميل” وحجة لإقتراب باندرانايكا من الصين، وحين اندلعت الحرب الأهلية السريلانكية عام 1983 لم تكن خطوط المساعدة الهندية لـ”التاميل” مستترة أو مخبوءة، وهذا ما أعطى نيودلهي دوراً متفرداً في إحلال السلام في سريلانكا عام 1987، لكن هذه الإنعطافة الهندية بوقف دعم “التاميل” السريلانكيين خوفاً من تمدد حركتهم السياسية نحو ولاية “تاميل نادو” الهندية، دفع “ثوار التاميل” المعروفين بـ”النمور” إلى اغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي عام 1991، وفي هذا الوقت كان الحضور الصيني في سريلانكا يتقدم بخطوات سلحفاتية وعنكبوتية عبر القروض المالية ومشاريع البُنى التحتية، وما أن حلّ العقد الماضي حتى بدت سريلانكا صينية القلب والقالب.

وفي دراسة بعنوان “أنماط توظيف العداء للصين في جنوب آسيا”، يقول الباحث السريلانكي امتياز أحمد إن الإنتخابات الرئاسية السريلانكية عام 2015 شهدت توظيفاً للخوف من الصين من خلال اتهام الرئيس ماهيندا راجاباسكا بموالاة بكين” وقدّم منافسه، مايتر يبالا سيريسنا، نفسه بإعتباره مناهضاً للصين وأكثر ميلاً لتطبيع العلاقات مع الهند وأسّس حملته الإنتخابية على وعد بتحرير سريلانكا من فخ الديون الصينية”.

وبعدما أسقطت حركة الإحتجاج الشعبية الرئيس غوتابايا راجاباكسا في الرابع عشرمن تموز/يوليو 2022 كتب (29 ـ 7 ـ 2022) موقع The National Interest الأميركي “أن سريلانكا أصبحت ساحة مواجهة بين الصين والهند” ، وهذا الرأي كان الباحثون الهنود قد أبكروا في تبنيه، وللدلالة على ذلك كتب مدير مركز “الدراسات الإسلامية” في نيودلهي، ذكر الرحمن، مقالين في صحيفة “الإتحاد” الإماراتية:

ـ الأول (18 ـ 10 ـ2013): “لا يمكن للهند أن تقبل بخسارة علاقاتها مع سريلانكا، والسبب الأساسي لهذا الموقف هو زيادة النفوذ الصيني فيها في الوقت الذي تعتبرها إحدى مناطق نفوذها”.

ـ الثاني (29ـ 7 ـ 2023) “العلاقات بين الهند وسريلانكا عرفت كثيراً من المد والجزر، لكن في الوقت الحالي يمكن القول إنها تجتاز مرحلة جيدة ـ و ـ سريلانكا أصبحت ساحة للمنافسة بين الهند والصين بسبب موقعها الإستراتيجي على المحيط الهندي”.

أخيراً؛ عتاب هندي:

كتب رئيس الوزراء الهندي الأسبق واحد قادة حركة “عدم الإنحياز” جواهر لال نهرو (1889 ـ 1964) في الجزء الأول من “اكتشاف الهند”:

“عادت الهند والصين تنظران إحداهما إلى الأخرى، وذكريات الماضي تملأ عقليهما، ومرة أخرى نجد حُجّاجاً يعبرون الجبال التي تفصل بينهما ـ هم ـ رُسُل بشر ونوايا طيبة ـ و ـ أسُس علاقات صداقة جديدة مكتوب لها أن تستمر”.

كتب نهرو ذلك بين سنتي 1944 و1945، ولكن قبل أن يرحل نهرو عن العالم الفاني بسنتين، اندلعت حرب العام 1962 بين الهند والصين، ولا أحد يدري ماذا تحدث نهرو مع نفسه حين رأى الجيش الصيني يجتاح الأراضي الهندية.

خاب أمل نهرو.. وما أكثر خيبات أهل السياسة.

(*) الجزء الأول: الهند والصين.. صراعٌ متراكمٌ من زمن بوذا وكونفوشيوس (1)
(*) الجزء الثالث يوم الأربعاء المقبل: نزاعات الحدود بين الهند والصين.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  زيارة بايدن.. والإنفجار المحتمل في الشرق الأوسط