لا تنبئ قراءة تاريخ الصين والهند، وكذلك قراءة حاضرهما، بإحتمال أن تتحول الدولتان إلى شريكين أو حليفين يُنظمان رؤية موحدة تواجه التحديات المعاصرة، سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً، فتراكم الخلافات التاريخية بينهما، يفضي إلى خلاصة مفادها أن الدولتين الأكثف سكانياً في العالم والأكثر نمواً اقتصادياً، لهما تاريخان متضادان وحضارتان متناقضتان وأمبراطوريتان متنافرتان ورؤيتان متعارضتان لإدارة العالم المعاصر، بالإضافة إلى حجم ثقيل من النزاعات الراهنة التي تدخل في فضائها تعقيدات الحدود والأمن والمجالات الحيوية.
وفي “حوليات” التناقض الهندي ـ الصيني ما يدفع أولاً إلى استحضار التاريخ وعودة تفصيلية إلى صراعات العقائد وحروب الفلسفات بين الهنود والصينيين:
في الحديث عن الهند والصين يتقدم إسما الفيلسوفين الأخلاقيين الهندي بوذا والصيني كونفوشيوس، ومع أن الضرورة تقتضي ملاحظة الفوارق الزمنية القصيرة بين ولادة ووفاة هذين الفيلسوفين، ما بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، إلا أنه يمكن القول إنهما تزامنا في الوجود والواقع التاريخي إنما من دون أن يتأثر أحدهما بالآخر كما يُجمع ذوو العلم بفلسفتيهما، فالبوذية دعت الى الإنسحاب الفردي من الحياة كطريق للخلاص عبر نظام الرهبنة، والكونفوشيوسية حثّت على المشاركة في الحياة العملية عبر فتح مجال التعليم لكل الطبقات الإجتماعية بغرض توسيع دوائر الحُكم مع تقديس نظام الأسرة وسلطة الأمبراطور بإعتباره “إبن السماء”.
بحلول القرن الثاني قبل الميلاد، راحت الصين تتفكك وتشهد قيام ممالك متحاربة، فبدأت البوذية باجتياحها، فناصرها ملوك وفلاسفة “نفعيون” وناصبها العداء فلاسفة وملوك “وطنيون ـ كونفوشيوسيون”، وطوال ثمانية قرون من اجتياح البوذية للصين، بقيت فئة واسعة من الصينيين، سياسيون وفلاسفة ومن عامة الشعب، ترى في البوذية “عقيدة غازية” مستوردة وأجنبية الأصل، فحاربوها في جانب، وعملوا في جانب آخر على توطينها برفدها أفكارا من البيئة الصينية، فانسجمت البوذية وبعض مذاهب “الطاوية” وأخذت الثانية من الأولى ثم ظهرت “الزن” التي انتقلت كعقيدة بوذية بخصائص صينية إلى اليابان.
في كتاب “تاريخ تطور الفكر الصيني” لمجموعة من الأكاديميين الصينيين (كي جاو وو، وآخرون ـ تعريب المشروع القومي للترجمة ـ القاهرة) أن البوذية “دخلت الصين قادمة من الهند في القرن الأول قبل الميلاد، وشهدت ذيوعا وانتشارا بفضل تشجيع طبقة الأسر الحاكمة الشرقية والجنوبية والشمالية، واعتنق عدد كبير من الأباطرة والنبلاء والأسر الأرستقراطية والبيرقراطيين الديانة البوذية، وكان الأمبراطور وو من أسرة ليانغ الجنوبية من أشهر معتنقي الطاوية واعتكف في المعابد البوذية، وأثناء حكمه كان يوجد في العاصمة نانكين خمسة آلاف من المعابد البوذية وأكثر من مئة ألف ناسك وراهبة ـ وخلال حُكم ـ أسرة وي الشمالية ـ القرن الميلادي الخامس ـ كان يوجد زهاء ثلاثين ألفاً من المعابد البوذية تضم مليونين ونيفا من النُسّاك والراهبات”.
ثمة سؤالان أساسيان يدوران في مدارالمسوغات الدافعة لإنتشار البوذية في الصين والبواعث المحركة لمناوئتها في وقت لاحق، والإجابة على ذلك تتطلب الإطلالة على السياسة ومبررات السلطة في مرحلة الشيوع البوذي، ومن ثم حجج جماعات المصالح وأهل الحُكم في مرحلة مقاومة البوذية، وعلى هذا الأساس ورد في “تاريخ تطور الفكر الصيني”:
“بين الأعوم 317 و420 (ميلادية) نهضت الديانتان الطاوية والبوذية وأصبحتا بمثابة أداة فكرية للطبقة الأرستقراطية ثم حدث تفاعل متبادل بين الميتافيزيقا والبوذية والطاوية واندمجت الميتافيزيقا بالبوذية رويداً رويداً وحلت المثالية البوذية محل الميتافيزيقا”.
وظهر في هذه الفترة مفكرون (420 ـ 589) يدعون للبوذية قائلين “إذا اعتنق الشعب الديانة البوذية وامتثل لنظام الرهبنة، فإن الشعب لن يعرف النهوض والتحرر بصورة تلقائية ويتمتع الأمبراطور بالتربع على العرش وينعم بالسلام والأمان” وتشعبت من البوذية مدارس ومذاهب شتى مثل طوائف “إكليل الزهر” و”الخيال” و”زن”، وبمقتضى التأثر بالبوذية “تشكلت الطاوية وأصبحت ديناً له أفكاره ونظرياته وطقوسه وشعائره”.
هذا الإمتثال للبوذية لا يعني أن الفلسفة الكونفوشيوسية لا تنطوي على ذرائعية اتخذ منها ولاة الأمر والأرستقراطيون والإقطاعيون قاعدة ايديولوجية للحُكم وحماية مصالحهم ومنافعهم، “ففي أواخر أسرة هان الشرقية تعرضت المدرسة الكونفوشيوسية التي كانت تمثل أيديولويجية الطبقة الحاكمة للأفول، مما أصاب سلطة الأرستقراطيين بالشلل، وفقدت القيم الأخلاقية الكونفوشيوسية التي شجعتها الطبقة الحاكمة فاعليتها في توحيد قلوب الناس، وفي ضوء هذه الأوضاع أصبحت الحاجة الماسة للطبقة الحاكمة هي البحث عن نظرية تنأى عن المذهب الكونفوشيوسي وتكون بمثابة وسيلة فكرية لتدعيم استقرار النظام الإقطاعي الحاكم من جديد”.
جلب انتشار البوذية في الصين كما ورد في المجلد العاشر من “الأعمال الكاملة” للقائد الشيوعي فلاديمير لينين “قيودا ايديولوجية جديدة، حيث حاولت هذه الديانة إغراء الناس بالبُعد عن الحقائق والتخلي عن مناهضة الطبقة الحاكمة، ووفرت البوذية وسيلة ايديولجية لحماية جرائم الإضطهاد والإستغلال”.
وكما في القراءة اللينينية يتحدث مؤلفو “تطور الفكر الصيني” عن إنتاج البوذية طبقة احتكارية للموارد العامة واستغلالية لعامة الشعب “فكانت المعابد تتمتع بالإقتصاد المستقل وتمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والعمالة الكادحة، وتشكلت مجموعة خاصة من مُلاّك الأديرة وأدت أعداد ملاًك الأراضي من النُسّاك البوذيين إلى تفاقم الإستغلال الإقتصادي وقاد ذلك إلى الأزمات الإقتصادية الخطيرة، وتفاقمت حدة الصراع الطبقي وزادت حدة التناقض بين مُلاّك الأراضي النُسّاك ونظرائهم العلمانيين، مما أدى إلى اندلاع مناوئة ومقاومة للبوذية بلا انقطاع”.
هذه النتيجة تقود إلى الحديث عن الصراع بين البوذية والكونفوشيوسية والذي استغرق قرونا عدة، وتوجز “الموسوعة العربية” ذلك الصراع الوجودي بهذه النصوص:
“تغلغلت البوذية في العقول وهيمنت على الشعب الصيني قرابة 800 عام منذ سقوط أسرة هان ـ عام 220 م ـ حتى سنة 960، ولكن حركة البعث الكونفوشيوسية، والمعروفة باسم الكونفوشيوسية المحدثة بدأت حركة وطنية ضد البوذية الهندية الدخيلة، وقد مثلّها أصدق تمثيل كل من الحكيم هو يوان والحكيم إيو يانغ هسيو” في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، ووفقا لـ”الموسوعة” نفسها “فقد لجأ فلاسفة الكونفوشيوسية المحدثة إلى اقتلاع البوذية من جذورها وإحياء الكونفوشيوسية في الفكر الصيني، وتم ذلك من خلال مسارين متميزين، مدرسة المبدأ ومدرسة العقل”.
وحول هذا الصراع يقول هـ.ج. كريل في “الفكر الصيني من كونفوشيوس إلى ماو تسي تونغ”:
“نستطيع أن نقول بوجه عام إن الفكر الصيني حتى بداية العهد المسيحي كان يحمل طابعاً صينياً، وبلغنا نقطة في التاريخ لم يعد فيها هذا الأمر على هذه الحال، إذ انتشرت البوذية في الصين، وكان هذا يعني أكثر من مجرد قدوم دين، لقد كانت البوذية تعني اسلوباً جديداً للحياة بالنسبة للصينيين، وسيطرت البوذية على التفكير الصيني الى حد بعيد لفترة تصل إلى حوالي ألف عام”.
وعن أشكال ووقائع الصراع يقدم هـ.ج. كريل صورة لا تختلف عما جاء في “تاريخ تطور الفكر الصيني” فمع انتشار البوذية “تزايدت المعابد كما زاد عدد النُسّاك بسرعة، ووقف المؤمنون مساحات شاسعة من الأراضي للمعابد، وأدى الإحجام من جانب أعداد كبيرة من الموظفين عن الإنتاج وإعفاء الأراضي من الضرائب إلى استياء خطير في الدوائر الرسمية، وفي سنة 845 ميلادية أصدر أمبراطور مخلص للطاوية ـ الأصولية ـ قراراً بهدم 40 ألف معبد بوذي وبتحويل 260 ألف ناسك وراهبة إلى علمانيين وعتق 150 ألفا من عبيد المعابد”.
وفي عهد أسرة تانغ ـ 618 ـ 906 ـ “بينما كانت البوذية قد بلغت ذروتها في التأثير والتفضيل الرسميين، بدأت الكونفوشيوسية في النهوض بصورة ملحوظة في التأثير الثقافي، مما أدى إلى إطفاء جذوة المبدأ المستورد تماما، وعلى الرغم من النجاح الضخم للبوذية في الصين، يبدو أنه كان هناك شعور بأنها كانت دائماً شيئاً غريباً نوعاً ما عن الفكر الصيني”.
وفي “تاريخ الفكر الصيني” للباحثة آن تشينغ “ما أن ظهرت أوائل العلامات على حضور بوذي على الأراضي الصينية، حتى بدأت عملية طويلة وضخمة لإستيعاب البوذية الهندية من قبل الثقافة الصينية ودامت عدة قرون”.
وعلى ما ترى تشينغ “شجعت جميع السلالات غير الصينية التي تعاقبت على حكم الشمال، انتشار البوذية، التي هي مثلها ذات أصول أجنبية، مما أمّن لها قاعدة فكرية وشرعية سياسية خارج القيم الصينية التقليدية”، وحيال هذه النظرة للبوذية كعقيدة أجنبية وبعد “تضاعف عدد المعابد البوذية بين القرنين الخامس والسادس، ليس مفاجئاً إذن، ألا تتأخر ردود الفعل في الظهور، سواء من قبل الطاويين أو من قبل الكونفوشيوسيين الذين ولأول مرة جمعتهم قضية مشتركة، ألا وهي الوقوف بوجه الخطر الخارجي”.
ولعل الرسالة التي بعث بها الحكيم هان يي، وهو من غلاة الكونفوشيوسية، إلى العرش بمناسبة الإحتفال السنوي الذي أقامه الأمبراطور عام 819 لإستقبال “ذخيرة بوذا”، تلخص حدة وعمق الصراع الثقافي بين البوذية وأتباع كونفوشيوس التقليديين، وجاء في رسالة هان يي:
“كان بوذا بربرياً، لغته لم تكن صينية، كان يرتدي زياً أجنبياً، أقواله وملابسه لم تكن كتلك التي تحدث عنها الملوك القدامى، لم يكن يعرف العلاقة السليمة التي يجب أن تقوم بين الأمير والوزير، ولا الشعور السليم بين الأب والإبن، ألتمسُ أن تعطي هذه العظام ـ ذخيرة بوذا ـ إلى مأمور يلقي بها في الماء او النار لإستئصال الشر إلى الأبد وإنقاذ الإمبراطورية والحؤول دون ضلال الأجيال المقبلة”.
إن هذه العقيدة السلبية تجاه البوذية، لم تكن مقتصرة على أتباع الكونفوشيوسية التقليدية، بل إن الطاويين وبسبب تسابقهم والبوذيين على المغانم والتقرب من الأسر الحاكمة، كانوا يتخذون من الأصول الأجنبية للبوذية حجة لمجابهتها كما في “تاريخ الصين” لهيلدا هوخام حيث تضيف:
“أيّد الرعاة ـ المغول ـ الأمبراطوريون البوذية في عدد من الولايات الصينية التي قامت خلال فترة الإنقسام، وفي الواقع أن بعض الطاويين قد أجازوا البوذية كشكل غريب من الطاوية، ووقع التنافس بين البوذية والطاوية في مرحلة متأخرة مثلما دبّ الصراع بين الدولة الكونفوشيوسية والبوذية”.
ويعطي داميان كيون في كتابه “البوذية” تفصيلات ذات أهمية قصوى لأسباب مناوئة الكونفوشيوسية لمنافستها البوذية، فينظر إليها من منظور الإختلاف في منظومة القيم، وفي ذلك يقول:
“بدا في أمورٍ معينة أن البوذية تتعارض مع القيم الكونفوشيوسية، فلقد اعتبرت الكونفوشيوسية أن الأسرة هي أساس المجتمع، وكانت دعوة البوذية الأبناءَ والبنات لترك عائلاتهم ـ بهدف الرهبنة ـ السبب في النظر إلى البوذية بعين الريبة، علاوة على ذلك، بدت جماعة الرهبان البوذية أشبه بدولة داخل دولة، وقد مثَّل هذا تحديا لسلطة الأمبراطور وتهديداً لنسيج الحياة الإجتماعية، بالإضافة إلى ذلك رفض الرهبان الإنحناء أمام الأمبراطور، حيث إن الرهبان في الهند يحظون بالتبجيل، وأدى مثل هذا النوع من الإختلافات الثقافية إلى الصراع وسوء التفاهم، وأشعل العداوة تجاه الدين الجديد”.
من الدراسات العربية الحديثة في هذ المجال رسالة دكتوراه للجزائري بلحربي عومار بعنوان “الكونفوشيوسية/دراسة في الأبعاد الثقافية للصعود الصيني ـ 2019” وفيها:
“لقد كان دخول البوذية إلى الصين، أوّل تأثر خارجي تتعرض له الصين على مدار تاريخها الموغل في القدم، لكن البوذية الصينية كانت متبناة من قبل الطبقات الإجتماعية العُليا، وهو ما أدى إلى أن تكون بعيدة عن متناول الناس، والبوذية الصينية كانت أقرب إلى الطاوية منها إلى الكونفوشيوسية” والأخيرة هي التي أسهمت أكثر من غيرها من الفلسفات الصينية في تكوين هوية الصين أمة وأمبراطورية وأفراداً”.
ما يمكن قوله ختاماً بشأن التنافر بين الهند والصين وتعارضهما، إن تراثاً ضخماً من الصدام الثقافي واحتدام الهويات بينهما، من الصعوبة البالغة تجاوزه، خصوصاً وأن قواعد نهضتهما الحديثة تترافق مع حركة إحياء قوية للرموز الحضارية والتاريخية والثقافية لكليهما، ففي الصين الراهنة يتحدثون عن كونفوشيوس كأنه “ظهر” يوم أمس، وفي الهند ما انفكوا يقولون إن “المستنير” الأول هو بوذا.
(*) في الجزء الثاني (الأربعاء المقبل): صراعات الهند والصين من باكستان وبنغلادش إلى سيرلانكا.