اليوم، مرة أخرى يُشكّل قطاع غزة محطة تاريخية يتقرر في ضوئها مصير المنطقة، بأحد اتجاهين: إما باخضاعها المباشر للكيان الصهيوني، “البلطجي” الأمريكي في المنطقة، عبر معاهدات تطبيع معه وعبر بقائه القوة العسكرية الأقوى في المنطقة، وإما بانتقال المنطقة إلى مرحلة سياسية جديدة، وأيضاً من بوابة الحرب على قطاع غزة، يكون عنوانها سحب رخصة “البلطجة” المفتوحة الممنوحة للكيان الصهيوني لتحل محلها صيغة تعددية إقليمية (تركيا والسعودية وإيران) بدور “إسرائيلي” متواضع بعد أن يُوضع “حل الدولتين” على الطاولة.
واذا كان العرب في حالة غيبوبة سياسية، أنظمة وأحزاباً معارضة، فإن أوروبا ستكون أكبر الخاسرين، ولا سيما فرنسا التي ارتضت في السنوات الأخيرة أن تلعب دور الكومبارس الأمريكي على مسرح المنطقة، وتحديداً في فلسطين ولبنان. وللدلالة على هذا الأمر، يكفي أن يستعيد القارىء الأداء الفرنسي في الحرب الروسية الأوكرانية، إذ لم يكتفِ الفرنسيون بالانحياز الكامل للسياسة الأمريكية بل ذهبوا بعيداً في عدائيتهم لروسيا عبر تقديم الدعم بالمال والعتاد والسلاح لأوكرانيا. وفي فلسطين، جاء تحرك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أشبه بأداء مهرج فاشل، إذ سارع إلى تقديم دعمه لحكومة اليمين المتطرف برئاسة بنيامين نتيناهو ووقّع من تل أبيب شيكاً على بياض لقتل الفلسطينيين، فيما كان يُرسل وزير جيوشه ووزيرة خارجيته ومدير مخابراته على التوالي إلى لبنان لنقل تهديدات تل أبيب للحكومة اللبنانية.. وحزب الله.
المطلوب من أحزاب اليسار في العالم العربي، وأولها الحزب الشيوعي اللبناني، المسارعة إلى إعلان التعبئة العامة والإلتقاء مع قوى المقاومة التي تواجه العدوان الأمريكي الصهيوني وتنسيق التحركات معها، كما دعوة أحزاب دولية وإقليمية شقيقة إلى مؤتمرات تعقد في بيروت أو أي مكان في العالم من أجل التضامن مع لبنان وفلسطين
وعلى سيرة لبنان، إعتقد الفرنسيون أنهم يستطيعون ممارسة سياسة الخداع مع القوى السياسية اللبنانية المناهضة للسياسة الأمريكية فجرّبوا لعبة التمايز في بعض الأحيان في أدائهم، الأمر الذي لم يتجاوز حدود العلاقات العامة مع هذه القوى، وعندما كان يجد الجد لاتخاذ قرار ما كانت الإدارة الأمريكية تشد له اللجام السياسي فيما يشبه إعادة تذكيره بمربط خيله، فيعود إلى موقعه التابع لواشنطن.
ولعل آخر تجليات هذه السياسة كانت زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي الخاص إلى لبنان جان ايف لودريان ومن ثم زيارة مدير المخابرات الخارجية برنار إيمييه، وينطبق عليهما القول إنهما “زيارتا اللزوم ما لا يلزم”، أو أن وظيفة “الكومبارس” نقل الرسائل الأمريكية والتهديدات “الإسرائيلية”.. فضلاً عن مطالبة الفرنسيين بالتمديد لقائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون لأن في ذلك حماية “لأمن فرنسا”! هل هناك وقاحة أوضح من ذلك؟ كيف يُمكن التمديد لقائد جيش في دولة عالم ثالثية أن يُحافظ على أمن فرنسا التي تبعد عنه أكثر من أربعة آلاف كيلومتر (وإلا كان يُمكن لكل دول “اليونيفيل” أن تُرشّح من تشاء لقيادة الجيش!)
استنتاجاً لذلك، إن تمكنت واشنطن من كسب حربها ضد الفلسطينيين، وهي قطعاً لن تتمكن من ذلك؛ يكون مطلوباً منها أن تُوزّع الأدوار والغنائم على حلفائها.. وحتماً لن يكون لفرنسا أكثر من حصة الكومبارس بالتأكيد، وإن خسرت واشنطن الحرب، وهي بالتأكيد ستخسرها، فإن نتائج الخسارة ستوزعها واشنطن على حلفائها وستكون حصة فرنسا أكبر بكثير من دورها الكومبارسي الهامشي.
أما العرب، فقد ارتضوا غيبوبة سياسية ودوراً هامشياً في مواجهة حدث تاريخي على أرضهم. جُلّ ما فعله العرب على مدى شهري حرب الإبادة المستمرة هو اجتماع قادتهم وقادة العالم الإسلامي في قمة الرياض ليخرجوا ببيان هش لم يُدخل شاحنة مساعدات واحدة للمحاصرين في غزة، إذ أن هذا الأمر الإنساني ما كان يُمكن الوصول إليه لولا صمود الشعب الفلسطيني والتفافه حول مقاومته التي أدارت بحنكة شديدة عملية تبادل الأسرى ومعها دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
أما الأحزاب العربية، ولا سيما اليسارية والقومية منها، والتي يُفترض أن تكون معارضة لأنظمتها التي دأبت على وصفها بالمتخاذلة والمستسلمة للإرادة الأمريكية والصهيونية، فإن أداءها كان مُخيباً للآمال، إذ أنها عجزت حتى عن عقد اجتماع موحد لها لاتخاذ موقف موحد ضد العدوان على الشعبين الفلسطيني واللبناني ناهيك عن عجزها عن تحريك الشارع العربي الغاضب وحتى بعض التظاهرات في عدد من العواصم العربية كانت عبارة عن ردة فعل عفوية افتقرت لوجود أحزاب تُوجّهها وتحافظ على استمراريتها.
أما العرب، فقد ارتضوا غيبوبة سياسية ودوراً هامشياً في مواجهة حدث تاريخي على أرضهم. جُلّ ما فعله العرب على مدى شهري حرب الإبادة المستمرة هو اجتماع قادتهم وقادة العالم الإسلامي في قمة الرياض ليخرجوا ببيان هش لم يُدخل شاحنة مساعدات واحدة للمحاصرين
وما الحزب الشيوعي اللبناني إلا نموذجاً لهذا الاداء المُخيب، فبرغم مسيرته التاريخية في الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني، لم تلتئم لجنته المركزية إلا بعد مرور ثلاثة أسابيع على العدوان، وجاء البيان الصادر عن هذا الاجتماع اليتيم ليُعبّر عن غربته وعن تصحره سياسياً وفكرياً، إذ أن البيان اتسم بمفرداته الإنشائية حول فلسطين وبطولة الشعب الفلسطيني وهمجية العدو الصهيوني والأمريكي وفاته أن العدوان يشمل الأراضي اللبنانية وأن هناك مقاومة تتصدى له، وإن كانت تتعارض أيديولوجياً معه، بل طالب الشيوعيين اللبنانيين، بحسب البيان المذكور، “بالانخراط في صفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (للأسف موجودة في الأدبيات الحزبية بلا أي مقومات تنظيمية حتى الآن) لمقاومة العدوان والاحتلال الصهيوني متى تعرض لبنان له..”. وقد أظهرت قيادة الحزب الشيوعي اللبناني في هذا البيان قُصوراً في رؤية أمرين إثنين؛ الأول، أنها لم ترَ أن هناك عدواناً صهيونياً على لبنان، وذلك بعد حوالي الشهر من الحرب المشتعلة على طوال جبهة بعرض 105 كيلومترات وبعمق تجاوز العشرة كيلومترات وتهجر جراءها أكثر من ستين ألف لبناني من سكان القرى الحدودية، وسقط فيها أكثر من خمسين شهيداً (حتى تاريخ صدور البيان المذكور). أما الأمر الثاني، فهو أنها عجزت عن رؤية مقاومة تُمارس حق الشعب اللبناني المشروع في الدفاع عن أرضه وتُعبّر بالعرق والدماء عن تضامنها مع المقاومة الفلسطينية.
وكي لا يسارع البعض إلى افتراض أن ما أكتبه هو نقد لأجل النقد، فان المطلوب من أحزاب اليسار في العالم العربي، وأولها الحزب الشيوعي اللبناني، المسارعة إلى إعلان التعبئة العامة والإلتقاء مع قوى المقاومة التي تواجه العدوان الأمريكي الصهيوني وتنسيق التحركات معها، كما دعوة أحزاب دولية وإقليمية شقيقة إلى مؤتمرات تعقد في بيروت أو أي مكان في العالم من أجل التضامن مع لبنان وفلسطين.. والدعوة إلى جمع التبرعات في كل أنحاء العالم لمساعدة شعب فلسطين حتى ولو بـ”فلس الأرملة”، كما يقال.. فضلاً عن إطلاق حملة مقاطعة واسعة للبضائع والمؤسسات الأمريكية والغربية الداعمة للكيان الصهيوني، ولكن للأسف، فإن أي تحرك ينبغي أن ينطلق من رؤية سياسية لطبيعة المعركة الدائرة على أرضنا.. وهذا ما تفتقر إليه الأحزاب اليسارية العربية المعارضة التي يُخشى أن تتحول إلى مجرد “كومبارس” لدى الأنظمة البائدة.