البحر الأحمر بين مصر واليمن.. نظرية “الخنق الإستراتيجي”

بعدما تناولت مقالات أربع سابقة تاريخ البحر الأحمر وموقعه في التاريخين القديم والحديث، يتناول الجزء الأخير من هذه السلسلة الخماسية مرحلة من التاريخ المعاصر، شكّل فيها البحر الأحمر أحد أهم عناوين الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

يتحدث المفكر المصري جمال حمدان (1928 ـ 1993) في “سيناء في الإستراتيجية” عن ثلاثة خطوط دفاعية لمصر محددة بوضوح، الأول منها يمتد من خليج العقبة حتى البحر الأبيض المتوسط، الثاني خط المضائق ويمتد من السويس، والثالث هو قناة السويس نفسها، وفي خط الدفاع الثاني يقع مضيق الجفجافة الذي كانت إسرائيل حريصة جدا على الإندفاع اليه منذ أول لحظة في الحرب، سواء في 1956 أو 1967.

ضمن هذا الإيجاز لأحد أهم المفكرين والجغرافيين العرب في العصر الحديث، يكون جمال حمدان قد أدرج حربين تاريخيتين بين مصر وإسرائيل في سياق الصراع على الممرات المائية والملاحة البحرية في البحر الأحمر، فيما كبير المؤرخين المصريين عبد العظيم رمضان (1928 ـ 2007) يضع كتاباً عام 1982 بعنوان “المواجهة المصرية ـ الإسرائيلية في البحر الأحمر 1949 ـ 1979” ويقول في فصله الأول:

“تُعتبر إسرائيل (فلسطين المحتلة) الدولة الوحيدة في المنطقة العربية، فيما عدا مصر، لها سواحل على البحرين الأحمر والمتوسط، من هنا كانت أهمية المواصلات البحرية بالنسبة لها، ومن هنا أيضا اهتمام مصر منذ قيام إسرائيل بضربها في مقتلها وهو البحر، ليس فقط عن طريق حرمانها من المرور في قناة السويس، وإنما أيضاً عن طريق حرمانها من البحر الذي يقع عليه ساحلها الجنوبي، أي البحر الأحمر”.

في هذا الكتاب، يلفت رمضان الإنتباه إلى أن “إسرائيل تتصل بالبحر الأحمر عن طريق مينائها على خليج العقبة، إيلات، وهذا الميناء كان يُعرف بإسم أم الرشراش، وهو الميناء الفلسطيني الحصين على خليج العقبة”، وعن أهمية هذا الخليج يتحدث حاييم وايزمان (1874 ـ 1952) أول الرؤساء الإسرائيليين في مذكراته “التجربة والخطأ” عن الأيام القليلة الفاصلة التي سبقت صدور قرار تقسيم فلسطين رقم 181 عام 1947 وكيفية حصوله على معلومات تشير إلى تردد الولايات المتحدة بالموافقة على القرار لتخصيصه مساحة جغرافية لـ”دولة الميعاد” أكبر من المساحة المخصصة للدولة العربية، وبما قد ينزع خليج العقبة من اسرائيل، وفي ذلك يقول:

“شعر الوفد الأميركي أن اليهود قد ينالون حصة الأسد من أراضي فلسطين، فتردّدوا وعزموا على حرمان القسم اليهودي من أراضي النقب وإخراج العقبة من منطقة اليهود، والعقبة مهمة لنا، فإذا ضُمت لنا حولناها ميناء عظيما، وفتحنا قناة تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر، إما بين تل ابيب والعقبة وإما بين حيفا والعقبة، واستغنينا بذلك عن قناة السويس وما لمصر وحدها، وهنا اضطررتُ أن اذهب إلى ترومان (الرئيس الأميركي) بنفسي، ونشرتُ امامه الخرائط وأقنعته، وسرعان ما أخذ الهاتف بيده وأصدر أوامره للوفد الأميركي في هيئة الأمم، فتغير الموقف وفزنا بالقرار التاريخي”.

بعد احتلال اسرائيل لأم الرشراش ـ إيلات ـ في شباط/فبراير 1949 يقول عبد العظيم رمضان “اتفقت الحكومة المصرية مع الحكومة السعودية على أن تحتل القوات المصرية جزيرتي تيران وصنافير اللتين تتحكمان في الخليج ـ العقبة ـ و قد تم ذلك في كانون الثاني/يناير1950” وفي الواحد والعشرين من كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه أصدرت الحكومة المصرية قراراً وزّعته على شركات الملاحة الدولية جاء فيه:

-“إذا حاولت سفينة حربية إسرائيلية، أو سفينة حربية مساعدة إسرائيل، أن تمر في المياه الإقليمية، بما في ذلك مدخل خليج العقبة، تُطلق النيران لإنذارها لمنعها من المرور، على ألا توجه القذيفة إليها مباشرة إلا إذا أمعنت في المخالفة”.

-“إذا حاولت سفينة تجارية تابعة لإسرائيل أن تمر في المياه الإقليمية المصرية، بما في ذلك مدخل خليج العقبة بين جزيرة تيران وساحل سيناء، يُكتفى بضبط هذه السفينة وحجزها وإحالة امرها إلى مجلس الغنائم”.

-“قبل مرور السفن الحربية والتجارية الأجنبية المحايدة في مدخل خليج العقبة، من حق السفن الحربية المصرية سؤالها عن إسمها وجنسيتها ووجهتها”.

هذه الخلاصات المبكرة لموقعية البحر الأحمر الحربية والإقتصادية والإستراتيجية، دفعت باحثا عربيا هو عبد الله عبد المحسن السلطان لينجز كتاباً عام 1984 بعنوان “البحر الأحمر والصراع العربي ـ الإسرائيلي” (مركز دراسات الوحدة العربية) يعتبر فيه أن هذا البحر”ليس طريقاً مائياً هامشياً بالنسبة إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكنه يكاد يكون الجبهة الأمامية لهذا الصراع”.

 وفي “جزر المملكة العربية السعودية” الصادر عن هيئة المساحة الجيولوجية في المملكة عام 2007 “أدى افتتاح قناة السويس إلى زيادة أطماع الدول الإستعمارية في البحر الأحمر، وقد أدت تلك الأهمية إلى احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، وفي العام 1956 أمّمت الحكومة المصرية قناة السويس ونتج عن ذلك العدوان الثلاثي ضد مصر مما أدى إلى اغلاق القناة حتى انتهاء العدوان، ثم أغلقت امام الملاحة الدولية في العام 1967 بسبب العدوان الإسرائيلي على مصر”.

هذا التاريخ القريب للبحر الأحمر والمصحوب بثلاث حروب تعرّضت لها مصر في أقل من مائة سنة، يقود إلى استحضار حربي السنتين 1956 و1967، ومعهما حرب العام 1973، لإرتباط هذه الحروب الثلاث بالبحر الأحمر ومتفرعات مفاصله بين قناة السويس وخليج العقبة ومضائق تيران وكذلك مضيق باب المندب.

ـ حرب العام 1956:

في العادة يجري حصر “العدوان الثلاثي” الذي تشاركت فيه إسرائيل وفرنسا وبريطانيا على مصر، بقرار تأميم قناة السويس الذي أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر في السابع والعشرين من تموز/يوليو 1956، لكن قراءة “ملفات السويس” لمحمد حسنين هيكل تُظهر أن هذا العدوان كان يجري التحضير له قبل قرار التأميم، فالتحضيرات للعدوان المذكور لم تكن تنتظر اكثر من لحظة التوقيت، على الأقل من جانب إسرائيل التي كانت تسعى إلى تحويل البحر الأحمر إلى ممر مائي دولي يتيح لها الملاحة البحرية فيه، والعائق أمامها تمثل آنذاك بمصر بصورة أساسية نتيجة الإجراءات التي راحت تتخذها القاهرة منذ عام 1950 كما ورد القول آنفا، وفي ذلك يقول موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق (1915 ـ 1981) في مذكراته “قصة حياتي”:

إقرأ على موقع 180  الاتفاق الإيراني السعودي.. كيف يترجم في "الساحات"؟

“رفضت مصر في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1951 قرارا لمجلس الأمن الدولي بعبور السفن الإسرائيلية في قناة السويس، ولم تكن تسمح إلا أحيانا بمرور شحنات غير استراتيجية وعلى سفن غير اسرائيلية، ثم فرضت حظرا شاملا في عام 1953 على الشحنات من اسرائيل وإليها”.

ويضيف دايان:

“كانت سنة 1954 صعبة، إذ كانت بريطانيا قد انسحبت من قناة السويس، وفي منتصف 1955 أرسلنا مجموعة من المتطوعين لإستكشاف شرم الشيخ الذي يتحكم بمدخل خليج العقبة الذي كان مغلقا امام الملاحة الإسرائيلية نحو شرق إفريقيا والشرق الأقصى، وفي 27 أيلول/سبتمبر أعلن جمال عبد الناصر أن بلاده وقعت اتفاقية تجارية مع تشيكوسلوفاكيا تقدم بمقتضاها السلاح مقابل القطن والأرز، ومن أجل إحباط الخطط المصرية قدمت ُمذكرة إلى بن غوريون (أول رؤساء الحكومات الإسرائيلية) يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر (قبل العدوان الثلاثي بسنة تقريباً) أوصي فيها بعمليات انتقامية ضد المصريين، والإستيلاء على قطاع غزة وشرم الشيخ لفك الحصار عن خليج العقبة”.

إن الإسلحة الروسية، بحسب رواية موشي دايان “بالإضافة إلى الموقف الروسي المؤيد، أعطت لجمال عبد الناصر شعوراً هائلاً بالثقة، فكان قراره الذي أعلنه في 27 تموز/يوليو 1956 بتأميم قناة السويس (…) وقرر الطرفان الفرنسي والإنكليزي القيام بعمل عسكري لإستعادة القناة وإلغاء التأميم (…) وكان اهتمام بن غوريون موجهاً نحو احتلال الضفة الغربية لخليج العقبة وشرم الشيخ، الأمر الذي يؤدي إلى الإزدهار في إيلات وبالتالي ازدهار منطقة النقب كلها”.

يُحدّد دايان أهداف “العدوان الثلاثي” بقوله “أردنا من هذه الحرب طرد المصريين من سيناء وفتح العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية وكنا نود أن يغيب (يسقط) عبد الناصر ويحل معه نظام جديد يسعى نحو السلام” وعلى خيوط هذا النول تغزل غولدا مائير (1898 ـ 1978) رئيسة الحكومة الإسرائيلية السابقة في مذكراتها “حياتي” إذ تقول “بدأت معركة سيناء في 29 تشرين الأول/اكتوبر 1956 وانتهت يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر، وفي 3 آذار/مارس 1957 ألقيتُ بياناً في الأمم المتحدة راجعه حرفيا جون فوستر دالاس (وزير الخارجية الأميركية) وقلتُ إن هدف إسرائيل الوحيد أن تستمر حرية الملاحة أمام إسرائيل والعالم في خليج العقبة ومضائق تيران”.

ـ حرب العام 1967:

تشكل حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967 امتداداً لحرب العام 1956، صحيح أن الغزاة الفرنسيين والإنكليز والإسرائيليين خرجوا من الأراضي المصرية المحتلة بمقاومة وطنية مشهودة وبضغط سوفياتي ـ أميركي، إلا أن مستجدا ميدانيا كان قد طرأ وفرض نفسه، ويتمثل بوجود القوات الدولية في صحراء سيناء، وهي القوات التي كان استقدمها التوافق الدولي إثر حرب العام 1956 للإشراف على وقف النار وحماية الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس.

وفي محاولة لإعادة النصاب إلى ما كان عليه قبل حرب 1956، طلب اعبد الناصر في 16 أيار/مايو 1967 سحب القوات الدولية من سيناء، وأعقبه بقرار آخر في الثاني والعشرين من الشهر إياه وقضى بإغلاق مضائق تيران “بالرغم من أن أربع دول ضمنت حق إسرائيل بالملاحة في خليج العقبة، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا” كما في كتاب “حياتي” لغولدا مائير، وحيال ذلك “طار رئيس الوزراء البريطاني، صديقي الحميم هارولد ويلسون، إلى الولايات المتحدة وكندا لإقناعهما لتشكيل قوة عمل بحرية لحراسة مضائق تيران”.

وفي أوراق موشي دايان “في 22 أيار/مايو، أعلن عبد الناصر إغلاق مضائق تيران في وجه السفن المتجهة من إسرائيل وإليها، وكانت إسرائيل قد حدّدت موقفها بوضوح تام للجميع، عندما انسحبت من شرم الشيخ بعد معركة سيناء (1956) وهو أن إعادة فرض الحصار سوف يُعد عملاً من أعمال الحرب”.

ويذهب رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق اسحق رابين (1922ـ1995) في “المذكرات” وكان رئيساً للأركان عام 1967 إلى الحديث عن كيفية اتخاذ قرار الحرب عشية حرب “الأيام الستة” فيقول:

“في صباح 23 أيار/مايو 1967 أبلغونا أن مصر قد أغلقت المضائق (تيران) وجاء في البيان الرسمي الذي اعلنته مصر أن المضائق قد أغلقت بوجه السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي وبوجه اية سفينة تحمل شحنات ومواد استراتيجية إلى إسرائيل، وفي الثاني من حزيران/يونيو اتُخذ قرار سري ببدء الحرب ولكن ليس قبل الخامس منه واجتمع الوزراء أبا ايبان وإيغال ألون وموشي دايان ويعقوب هرتسوغ وأنا عند رئيس الوزراء (ليفي إشكول) وقرّرنا هذا الموعد”.

ـ حرب العام 1973:

في دراسة عالية الجودة للجنرال هيثم الأيوبي منشورة في مجلة “الأسبوع العربي” اللبنانية في الرابع والعشرين من كانون الأول/ديمسبر 1973، يقرأ فيها الكاتب علاقة الحروب الثلاث (1956 و1967 و1973) بالبحر الأحمر وبنظرية “الخنق الإستراتيجي” التي سعى العرب إلى تطبيقها في تلك الحروب، ومما جاء في الدراسة (مع بعض التصرف):

“لقد فكّر الرئيس جمال عبد الناصر في تطبيق الخنق الإستراتيجي قبل عام 1956، ففي 12 أيلول/سبتمبر 1955 شددت مصر الحصار على خليج العقبة، وفي 16 أيار/مايو 1967، طلب عبد الناصر سحب القوات الدولية، معتقداً بأن القوات المصرية كافية لمنع العدو من السيطرة على المضائق المتحكمة بالخليج، وفي العلم 1973، غدا بوسع الدول العربية تنفيذ الخنق الإستراتيجي، وفي 6 تشرين الأول/اكتوبر قامت مدمرتان مصريتان قرب جزيرة بريم المطلة على باب المندب بإعلام الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديموقراطية بأن المضيق مغلق أمام البواخر الإسرائيلية المبحرة إلى ميناء إيلات أو خليج عدن أو المحيط الهندي، وقد اشترك اليمنيون الشماليون والجنوبيون في عملية إغلاق المضائق”.

نبضة أخيرة:

بين الأمس واليوم.. ماذا تغير؟

لم يتغير شيء، كان البحر الأحمر بحر صراع مع اسرائيل، ويبقى.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الرأسمالية في مواجهة الرأسمالية: «بنوك الظلّ» تُطيح بالبنوك التقليدية؟