في هذا المقال، وضمن سياق بداية شهر رمضان المبارك، سنحاول القيام بالعمل نفسه لكن في ما يعني “الرّسالة الإسلاميّة” (أو ما أحبّ أن أسمّيه أحياناً “برسالةِ محمّدٍ رسولِ الله”). وكما اتّضحَ بالنّسبة إلينا وجودُ معانٍ عالميّة بيّنة وجليّة في ما يعني الرّسالة أولى، خصوصاً من زاوية الحقائق الوجوديّة والمعرفيّة والرّوحيّة الكبرى: فنرجو أن يتّضحَ للقارئ (العالميّ) الأمرُ نفسُه في ما يخصّ الرّسالة الثّانية.
فالأديان، كما شرحنا سابقاً، تستخدم الخطابَ والرّموزَ (وأخواتِها المذكورة أعلاه) بهدف إيصال معانٍ معيّنة كامنة وراءها أو تحتها. والمقصد من خلال هذا النّوع من المقاربات البحثيّة-الفكريّة التي نقوم بتقديمها، والمعتمدة على منهجيّتنا المقترحة في ما يخصّ استخدام “النّموذج أو النّمط المثاليّ”: هو المحاولة، المحايدة عقائديّاً، لتأويل-فهم هذه المعاني الأساسيّة أو أهمّها.
ونحن عندما نتّحدّث في هذا المقال عن “رسالة محمّد رسول الله” (أو “الرّسالة الإسلاميّة”)؛ فإنّما نعني بذلكم الرّسالة التي وصلت إلينا (أو هي تصلُ إلينا) من خلال:
١/ المصحف القرآنيّ الشّريف الذي بين أيدينا (أو ما يسمّيه بعض الباحثين المعاصرين بالمصاحف العثمانيّة، نسبةً إلى القصّة التّراثيّة الإسلاميّة في ما يخصّ جمع المصاحف – أو توحيدها – على يد الخليفة الثّالث)؛
٢/ التّراث الإسلاميّ النّقليّ ككلّ، لا سيّما منه المعنيّ بما يُصطلح عليه في العلوم الإسلاميّة “بالسّنّة النّبويّة المباركة”. ولن نعود هنا إلى توضيحاتنا المنهجيّة بمختلف زواياها (حدودها، نقاط قوّتها، ونقاط ضعفها)، ولا إلى اعتذارنا من بعض الإخوة المتديّنين لعدم استعمال بعض العبارات الديّنيّة المعتادة على الدّوام، ونحيل في ذلك كلّه إلى ما سبقَ من قولٍ ومقالٍ وخِطاب.
أوّلاً؛ “محمّدٌ رسولُ الله” والنّقاش الثّيولوجيّ مع المُوَحِّدين من السّابقين:
سوف يتأثّرُ عرض هذه الفقرة بطريقة عرض المقال السّابق حول عيد الميلاد وكونيّة الرّسالة المسيحيّة. ومن الأكيد أنّنا حافظنا على هذه الطّريقة بهدف المحافظة على السّياق العامّ لدفاعنا عن أفكارنا ومفاهيمنا الرّئيسيّة في ما يخصّ هذه المواضيع. وبسبب تكرار الحديث عن المفاهيم الجوهريّة والأساسيّة، سنحاول الاختصار قدر الإمكان في هذا الجانب “العقلانيّ-المفاهيميّ”، لنعطيَ مجالاً أكبر وأوسع نسبيّاً لما يُمكن التّعبير عنه بالجانب “القلبيّ-الحدسيّ-الوجدانيّ” (وهما يتحرّكان طبعاً في الاتّجاه نفسه عندنا).
كما اختصرنا في المقال السّابق الذّكر، فنحن ندافعُ عن نقطة مركزيّة مفادُها الآتي:
أنّ الأغلبيّة الكبرى للأديان وللمذاهب الرّوحيّة حول العالم – إن لم يكن جميعها – تقصدُ نفسَ المعاني والحقائق الجوهريّة على المستويَين الوجوديّ والمعرفيّ، مع اختلافٍ في طريقة التّعبير عنها (خطاباً، وإشارةً، ورمزاً، ومفهوماً، وصورةً، وسرديّةً أسطوريّةً أو شبه أسطوريّة.. وما إلى ذلك). والطّرح هذا هو بالطّبع من النّوع الجريء والمُخاطر (علميّاً)، ولكنّ كاتب هذه السّطور لا يزال يقتنع به أكثر فأكثر، تصاعُداً، ويوماً بعدَ يوم.
فإذا عُدنا إلى حديثنا حول الرّسالة المسيحيّة، نتذكّر أنّنا كنّا قد فرّقنا بين أبعاد ثلاثة جوهريّة للوجود، أراد الخطاب المسيحيّ (وأخواته) التّعبير عن معناها أو معانيها لا سيّما من خلال عقيدة أو رمز أو تصوّر (الثّالوث المُقدّس):
“ويمكن التّعبير عن هذه الثّلاثيّة – كذلك – من خلال تصوّر “الأبعاد الوجوديّة الثّلاثة”:
١/ الوجود المُطلق الأَحَديّ وغير المتجلّي L’Être Non-Manifesté (يرمز إليه في المسيحيّة برأينا بُعد “الأب” أو “الآب”)؛
٢/ الوجود المتجلّي L’Être Manifesté (يرمز إليه برأينا، في مظهر تجلّيه الأتمّ والأكمل والأعلى: بُعد “الابن”)؛
٣/ الوجود البرزخيّ، أو بالأحرى، البرزخُ الوجوديّ (والمَعرفيّ طبعاً) بين الإثنين.
(L’Être Intermédiaire ou L’Intermédiaire Existentiel)”.
من هنا يمكننا الادّعاء أنّ (رسالة محمّدٍ رسولِ الله) قد عبّرت عن هذه المعاني والحقائق عينِها، لكن مع العمل على اصلاح وتصحيح بعض الطّوابق الخطابيّة والرّمزيّة والصّوريّة والمفاهيميّة (إلخ..) حسب رأيها.
أ) فمن الواضح أنّ “الرّسالة الإسلاميّة” كما عرّفناها آنفاً: تُشدّد بشكل بيّنٍ على بُعد الوجود المُطلق أو الأحَديّ (أي البُعد الأوّل في ما سبق). ومن المرجّح أنّ الهدف من وراء ذلكم لَهُو الانتصار لخيارٍ ثيولوجيّ على آخر في ما يعني النّقاش داخل الكنائس النّصرانيّة والمسيحيّة في ذلك الزّمان (ومنه: القضايا الأريوسيّة والأبيونيّة والنّصرانيّة والنّسطوريّة وغيرها طبعاً).
فنرى أنّ “محمّداً رسولَ الله” يحملُ رسالةً تدعو أوّلاً إلى التّوحيد الجليّ والصّافي والمَتين للذّات الإلهيّة (“قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد“، في بداية سورة الاخلاص). إنّ الله عندَ مُحمّدٍ لَهُوَ الأحَدُ المُطلقُ الصَّمدُ، الذي سبّبَ كلَّ شيءٍ أو أوجَدَ كلَّ شيءٍ، ولم يُسبِّبْه أو يُوجِدهُ.. أَحَد.
ولم يساوِهِ في أُلوهِيّتِه أحد، ولم يُشاركْهُ في مُلكِه أحد، ولم يوازِ أَحَديَّتَه.. أَحَد. وكفى بذلك الخطاب وبمعناه على العالمين شهيدا، حسب رأيه.
لا مُساومة في هذه الرّسالة حول هذه القضيّة ولا تساهل ولا حتّى مفاوضة في المبدأ.. يبدو لي كما ذكرت آنفاً: أنّنا أمام توجّهٍ إصلاحيّ-تصحيحيّ موجَّه بشكل خاصّ نحو عقائد الكنائس الرّومانيّة (وليس بالضّرورة نحو جميع “النّصارى” كما يدّعي البعض، ولا ينبغي الخلط بين هذه المصطلحات برأيي وهذا بحث آخر).
ونرى أنّ رسالة محمّد تدعو كذلك بشكل واضح إلى تنزيه هذه الذّات في المبدأ، وفصلها “عمّا سواها” بشكل ذهنيّ راديكليّ.. وبلا أيّ شوائب ذهنيّة أو عقائديّة (قد نشعر أحياناً بأنّ “التّنزيه” هذا يشمل “الصّفات” كلّها وبشكل عامّ.. وهذا بحثٌ معقّدٌ آخر، ستكون له مواضع أخرى إن شاء الله تعالى).
إذن، يتحدّث “محمّدٌ رسولُ الله” طبعاً عن البُعد الأوّل (بُعد الوجود المُطلق أو الأحَديّ) ولكنّ الواضحَ أنّه يُريد التّذكير – وبقوّة وبإصرار وبشكل خاصّ – بأحديّته و”بوَحدَانيّته” وبضرورة تنزيهه في ذاتِه (“سبحانَ ربِّكَ ربِّ العزّةِ عمّا يصِفون”؛ الصّافّات، ١٨٠). ولكن، كما أسلفنا: نحن هنا برأيي أمام تخاطب ضمنيّ وبيّن، بينَ عقائد وتصوّرات مختلفة ذهنيّاً، ولسنا بالطّبع أمام نفيٍ للحقائق الكونيّة الباطنيّة الكبرى الثّابتة.
ومن مثال ما سبق عن التّوحيد والتّنزيه، خطابُ بعض مشايخ وخطباء المسلمين من يوم الجمعة وغيره من الأيّام، مع استخدام لتعابير جميلة على المُستوى البياني والأدبي معاً:
وأشهَدُ أن (لا إله إلّا الله)،
(وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ)،
و(لا نَظيرَ لهُ) و(لا مثالَ له).
“وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب.
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير“. (الشّورى، ١٠-١١).
ب) كذلك، من الواضح أيضاً أنّ (الوجودَ) عند محمّدٍ الذي عرّفنا رسالَتَه في ما سبق؛ هو وجودٌ متجلٍّ في نهاية المطاف. وقد حصل هذا التّجلّي أو هو يحصل من خلال الأسماء والصّفات الإلهيّة أوّلاً (يزخر الخطاب القرآني بذكر هذه الأخيرة: مِن أَحَدٍ ووَاحدٍ، إلى صمدٍ ورحمن ورحيمٍ وعليمٍ وقويٍّ وقادرٍ وعزيزٍ وحكيمٍ وعظيمٍ وجبّارٍ وما إلى ذلك من أسماء وصفات وجوديّة (حُسنى)).
وهو يحصلُ أيضاً من خلال ظهور الموجودات في هذا الوجود. والموجودات هنا أيضاً تتوزّع: بين عوالم التّجلّي البرزخيّة (راجع ٣/ أو البرزخ الوجوديّ في ما سبق) وبين عوالم التّجلّي الظّاهرة أو الظّاهريّة (راجع ٢/ أو الوجود المُتجلّي في ما سبق).
- فالوجودُ الواعي الواحدُ هذا هو (غيرُ متجلٍّ) في بُعده الجوهريّ-الباطنيّ أي بُعد الذّات (الحقيقيّ وجوديّاً وأنطولوجيّاً دون غيره بالمناسبة، وقد ذكرنا ذلكم في السّابق من المقالات).
- وهو (مُتجلٍّ في بُعده الظّاهر-الظّاهريّ) إن صحّ التّعبير.
- ولكنّه متجلٍّ أيضاً في (بُعده الظّاهر لكن البرزخيّ): أي البُعد المتجلّي من جهة، وغير المتجلّي من جهة ثانية (ومن مثال ذلك ما يُسمّى عادةً بالملكوت أو بعالم الأرواح). وقد شرحنا في المقال السّابق الـ – لماذا أو بالأحرى الـ – ماذا وراء “ضرورة” هذه الأبعاد الوجوديّة الثّلاثة. ومن جملة ما قلناه: إنّه لو ظَهَرَ المُطلقُ على النِّسبيِّ مباشرةً بغير برزخٍ بينهما.. لأهلكَ المُطلقُ النّسبيَّ على الفور وأفناه، كما تُهلك الشّمسُ الأشياءَ فوراً إن أرادت إضاءتَها بشكل مباشر أي بغير واسطة الأشعّة.
ومن هنا يُمكن فهم الكثير من العبارات القرآنيّة (وغيرها) التي تذهب بوضوح في هذا الاتّجاه برأينا:
- اللهُ نورُ السَّماواتِ والأَرض” (النّور، ٣٥). والنّور هو الظّاهر بذاتِه المُظهِرُ لغيرِه، بطريقة تعبير بعض كتب التّفسير. (النّور): كما رأينا ينيرُ من خلال الظّهور على الشّيء (بل ومن خلال ملامسته) ولو بواسطة. باختصار: تُبيّن هذه الآية القرآنيّة أنّ اللهَ (ظاهرٌ) من جهة (لأنّه ال-نّور حقيقةً)، وبأنّه ليس منفصلاً عن الموجودات (التي “يُنيرها”) من جهة أخرى. ومن السّهل جدّاً الاستنتاج من الآية الكريمة أنّه: لو توقّف ظهور (نورِ السّماوات والأرض) لتوقّف ظهور (السّماواتِ والأرضِ) نفسِها، لأنّ المقصود الأرجح – من هذه الآية – هو برأيي أنّ الله.. (هُوَ) وجودُ السّماوات والأرض. ونترك التّفاصيل لمناسبات أخرى مع تركيزٍ على فكرة الظّهور والتّجلّي هذه (في مختلف الأبعاد).
- “هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والبَاطِنُ وهُوَ بكلِّ شَيءٍ عليم” (الحديد، ٣). هنا أيضاً نترك التّفاصيلَ لمواضعَ أخرى، ولكنّك ترى أنّ الأَحَدَ المُطلقَ.. قد تجلّى بالفعل من خلال هذه الآية وبوضوح. فهو (الأوّل) و(الآخر)، ومن تَقصد الصّفات هذه غيرَ الوجودِ الحقيقيّ المَحضِ نفسِه؟ وهو كذلك (الباطن).. و(الظّاهر)، فأين ظهر الوجودُ الحقُّ الواحدُ لو لم يكن من خلال موجوداتِه (من: أفعال، وأبعاد، وعوالم، وكائنات روحيّة وماديّة إلخ.)؟ ولهذه الأحاديث تتمّة ونقاش إن شاء الله تعالى في مواضع أخرى كما ذكرنا وتذكّرنا.
الأمثلة كثيرة على قصّة التّجلّي الوجوديّ هذه في القرآن وفي مُجمل التّراث الإسلاميّ، وكذلك على الدّور الرّمزيّ المُعطى لشخصيّة المَلَك أو المَلاك جِبريل في ما يعني “الوجودَ البَرزخيَّ” بشكل خاصّ. فهو (أمينُ الوحي) و(الرّوحُ القُدُس) و(روحُ الله) و(الرّوحُ الأمين).. يَنَزَّلُ (على الدّوام؟) بين الوجودِ الأحديّ، وبين الوجود المتجلّي الأتمّ ظهوراً كما عبّرنا في ما سَلَف.
ج) الأمثلة إذن والأدلّة كثيرةٌ ومتعدّدةٌ من داخل هذا التّراث: على أنّ المقصود هو المعاني والحقائق العالميّة والكونيّة ذاتها. وأسرار “محمّدٍ رسولِ الله” الوَحيَويّة والوجوديّة والمعرفيّة والرّوحيّة كثيرة ومتعدّدة أيضاً، ولا مجال لتفصيل أكثرها في هذا المقام.
ولكن، قد يسألُ السّائلُ العالميُّ المُتسامِحُ الصّادقُ: ماذا عن جانب “الابن” المذكور آنفاً.. هذه المرّة ضمن “الرّسالة الإسلاميّة”؟ في الحقيقة، أعتقد أنّ مفهومَ “الابن” وصورتَه الظّاهريَّين قد تمّ رفضهما كلّياً ضمن التّصوّرات الإسلاميّة. لا يمكن، حسب هذه الأخيرة، القبول بمفهوم الابن كما قدّمته الكنائس الرّومانيّة و/أو النّصرانيّة على اختلافها. لا يتّخذُ إلهُ محمّدٍ “صاحبةً ولا وَلَدا”، ولا يقبل بعقيدة الثّالوث في ظاهرها الرّمزيّ والصّوريّ (وما إلى ذلك).
ولكن، في باطن الباطن، هل تَرَكت “الرّسالة الإسلاميّة” حقّاً المضامين الوجوديّة والمعرفيّة التي قصدتها الرسالة المسيحيّة من خلال رمز (الابن)؟ في باطن الباطن، وبكلّ جرأة وأمانة، لا أرجّح ذلك ولا أعتقد به.. لأنّ “محمّداً رسولَ الله” قد انتقل فعليّاً إلى لعب دورٍ عظيم وجوهريّ في العوالم الباطنيّة-الرّوحيّة. إذ صار، لا سيّما عند أهل الباطن والتّصوّف والعرفان في الإسلام، رمزاً عَلِيّاً لحقيقة كونيّة.. هي حقيقة (المظهر الأتمّ) أو (الإنسان الكامل).
ومن الواضح أنّ هذا الدّور الرّوحيّ البرزخيّ لمحمّد قد افتَتَحه القرآن الكريم نفسه بالإشارة إلى أنّه – أي (محمّد) – “لَعلَى خُلُقٍ عَظِيم” (القلم، ٤).. أو من خلال آية الصّلاة على النّبيّ، حيثُ يظهر وكأنّ (السّماءَ) كافّةً تصلّي عليه من جهة، و(الموجودات والأرض والمؤمنون) كافّةً من جهة ثانية:
“إنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصلّونَ على النَّبيّ،
ياْ أَيّهاْ الذينَ آمَنُوا صَلّواْ عليهِ وسَلِّمُواْ تَسلِيماْ” (الأحزاب، ٥٦)
(يُتبع في جزء ثانٍ)