الهجرة من إسرائيل.. موسم القلق الوجودي المفتوح!

من الأمور التي كشفتها عملية "طوفان الأقصى" أن هاجس مغادرة الإسرائيليين اليهود أرض فلسطين هو هاجس حاضر، وربما موجِّه لسلوكهم وخططهم التي تبقى ساكنة في باطن عقولهم إلى أن يحل مستجدٌّ أمنيٌ أو اقتصاديٌ يدفعها إلى الظهور.

آخر ملامح حضور هذا الهاجس هو ما أدلى به الحاخام اليهودي، يتسحاق يوسف، قبل أيام، من تهديد يُلوّح بموجبه بمغادرة الشبان المتدينين الكيان الإسرائيلي إذا فُرِضَ التجنيد الإجباري على أبناء طائفة الحريديم. فإذا كان هذا يشير إلى ضعف تمسك المتدينين اليهود بالأرض التي زعموا أن إلههم وعدهم بها، فما هو موقف غير المتدينين إذا استمرت هذه الحرب لمدة أطول وكثرت تداعياتها على كيانهم؟

يُعيدنا كلام هذا الحاخام إلى مشهد تدافع الإسرائيليين وهم يُهرولون هرباً من باحات الحرم الإبراهيمي، أو باحات المسجد الأقصى، وقد علت وجوههم مسحة الخوف والذعر والقلق في صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين بدأ تاريخٌ فلسطينيٌ جديدٌ عنوانه “طوفان الأقصى”؛ مشهدٌ يُوحي أن هؤلاء ربما تلقوا الأخبار على نحو جعلهم يعتقدون أن حرباً أوسع مما يتصورون قد اندلعت، وستصل إليهم خلال ساعات، عابرةً الحواجز الجهنمية وحقول الألغام، ثم الأراضي والمدن والبلدات الحصينة، وقد وصلت إلى يافا وهي في طريقها من غزة إلى الخليل وبيت لحم والقدس.

إنّه القلق الوجودي، الذي لم يكن ليخرج من أعماقهم ويظهر على وجوههم لولا الإدراك الذي في داخلهم، والقائل: “لقد حلّت اللحظة المنتظرة، تلك اللحظة المخيفة، وهذا المكان ليس لنا، إننا عابرون فيه، سنخليه وقد أتى أصحابه أخيراً، لقد أصبحوا على التخوم”.

***

بَكَّر الشاعر الفلسطيني محمود درويش في تقديم الشخصية الإسرائيلية التي لا تشعر بالانتماء للأرض التي تعيش عليها، حين عرض لنا في قصيدته “جندي يحلم بالزنابق البيضاء” حواراً دار بينه وبين جندي إسرائيلي تعرّف عليه وعرف منه انطباعاته عن هذه البلاد التي يسكن فيها ولا ينتمي إليها، وعن الأرض التي يعيش عليها ويشعر بالغربة عنها. وقد أسرَّ الجندي له أنه يحلم بأرضٍ ومروجٍ في البلاد التي قَدِم والده منها، أرضٌ تنبت فيها الزنابق البيضاء.

إذا استمرت الحرب، بفعل إصرار نتنياهو على تحقيق أهدافها المستحيلة، سيستمر شعور الإسرائيليين بعدم الاستقرار وغياب الأمان، وستظهر احتجاجات قد يقابلها اليمين المتطرف، من أنصار الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بالقوة فتندلع حرب أهلية تكررت التوقعات بحدوثها، فتزداد بسببها موجة الهجرة من إسرائيل

وبعد وقت طويل من نشر القصيدة، عرف القارئ العربي هوية الجندي الإسرائيلي التي لم يفصح عنها درويش حين أصدر ديوانه سنة 1967. حصل ذلك عندما أصبح هذا الجندي أستاذاً جامعيّاً ومؤرخاً يدعى شلومو ساند، وقد تعمّقت لديه مشاعر اللا انتماء، فدفعته إلى البحث والاستقصاء عن المكان الذي يعيش فيه وعن ساكنيه الجدد. لذلك وضع دراسات حول الأساطير التي كوّنت كذبة إسرائيل محاولاً تفكيكها. دراسات حطّم من خلالها فكرة الشعب اليهودي، ونفى فيها ما يعرف بالشتات، ليؤكد أن اليهود مكثوا في أرض كنعان ولم يغادروها. وفي حين كان من بينهم من تنصَّر أو أسلَم، ذهبت منهم أعداد في حملات تبشيرية إلى اليمن والجزيرة العربية وشمال أفريقيا وبعض مناطق أوروبا.

***

استناداً للكاتب شلومو ساند، يُعدّ باطلاً الادعاء القائل بحق اليهود في فلسطين لأنهم طردوا منها قبل آلاف السنين. هذا الكاتب خلص إلى أن ثمة عملية طويلة بأسسٍ وأركان قامت عليها، أدت إلى “اختراع الشعب اليهودي”، وهو عنوان كتابه الصادر سنة 2011 عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان بالتعاون مع “مدار”، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، والذي يقدم لنا فيه رواية تاريخية معاكسة للرواية الإسرائيلية المكرَّسة.

وحين مات شوليك، لم يحظَ جثمانه بصلاةٍ يهودية، بل أنشد رفاقه نشيد “الأممية” فوق قبره. أما ابن شوليك، الكاتب شلومو ساند، فقد بقي ينازع لكي تكون له هويته التي ترضيه خارج هذا الكيان الملفَّق. لذلك غادر إلى باريس وبقي فيها سنوات، لكن، بسبب الشوق، قرّر العودة. يحكي ساند عن نفسه قائلاً: “برغم غربته، غلبته الأشواق وحبه لشوارع المدينة التي تربى فيها، فعاد للمكان المؤلم الذي تكوّنت فيه هويته”، (ص 30)، عاد لكي يؤكد أن “الوطن الذي يدعي بأنه “وطن لليهود”، ليس سوى مجرد وهمٍ يحتاج للتوثيق”، (ص 30)، فكان هذا الكتاب.

***

ميزة الأصوات، مثل صوت شلومو ساند، أنّها لم تُصدّق الرواية الإسرائيلية والأساطير التي سيقت لتكوين الشعب اليهودي وتأسيس إسرائيل، تلك الأصوات التي كانت تدعو إلى السلام مع الفلسطينيين وتعارض الاستيطان في الضفة الغربية، وبلغ بها الأمر حد الدعوة إلى مغادرة إسرائيل، لطالما كان يُنظر إليها على أنها أصوات قليلة، ولا تشكل تهديداً للكيان. بقي هذا الأمر مستمرّاً، وبقيت المغادرة النهائية فردية إلى أن وقعت عملية “طوفان الأقصى”، وبدأت عمليات نزوح الإسرائيليين داخليّاً، وعزم مئات الآلاف منهم على المغادرة النهائية إلى دول في أوروبا وأميركا، بحثاً عن الأمان الذي باتوا يفتقدونه بسبب الحروب الدورية الإجرامية التي تشنها حكوماتهم باسمهم على الشعب الفلسطيني في غزة كما على عدد من شعوب المنطقة.

إقرأ على موقع 180  كي لا يذهب دم شيرين.. هدراً

من هنا، لم يكن غريباً أن تظهر حملة “لنغادر البلاد معاً” الإسرائيلية التي تُشجّع الهجرة العكسية المعروفة بالعبرية باسم “يريدا” (النزول)، مقابل الهجرة اليهودية إلى فلسطين والمعروفة باسم “عليا” (الصعود) وتعني الهجرة إلى إسرائيل. وتدعو الحملة الأولى الإسرائيليين إلى مغادرة الكيان للإقامة الدائمة في دول أخرى والعمل أو الاستثمار فيها. ومع أن هذه الحملة ظهرت في السنوات الأخيرة، مع صعود اليمين الديني المتطرف وامساكه بالسلطة وضغطه لإجراء التعديلات القضائية، إلا أن نشاطها توسَّع وتعمَّق مع الحرب الأخيرة على غزة. كما توسع مع غياب أي أفق لانتهاء الحرب.

ووصل عدد الإسرائيليين الذين غادروا دولة الاحتلال، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حتى 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى 370 ألفاً، بحسب صحيفة “زمان إسرائيل” عن سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية. إلا أن وكالة الأناضول نقلت تقديرات محللين مصريين لحركة مطار بن غوريون تفيد بوصول العدد إلى حدود المليون مغادر. ومع ذلك كثَّفت الحملة عملها وعرضت المساعدة على العائلات والأفراد الراغبين بالمغادرة، وقدّمت النصائح لهم، وحثتهم على استصدار جوازات سفر أجنبية، ووجَّهتهم للعمل والاستثمار في الدول التي سيغادرون إليها لكي يستقروا فيها فلا يفكروا في العودة إلى دولة الاحتلال.

وثمة احصائيات تشير إلى أن عدد اليهود الذين تركوا إسرائيل منذ العام 1948 حتى العام 2022 بلغ 756 ألفاً، أي بحدود عشرة آلاف في السنة، بينما غادر خلال الفترة الممتدة من 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى الآن، حوالي المليون، أي بمعدل خمسة آلاف يومياً وهو الرقم الذي تؤكده حالات طلب اللجوء (10% من طلبات اللجوء في ألمانيا هذه السنة تعود لإسرائيليين ويسري الأمر نفسه على البرتغال).

ويُشير استطلاع للرأي إلى أن حوالي 33% من الإسرائيليين يفكرون فعلياً بالهجرة بسبب سياسات حكومة نتنياهو، علماً أن نصف سكان الكيان العبري ما زالوا يحملون جوازات سفر بلدانهم الأصلية (أشكيناز)، وبالتالي هم جاهزون لاستخدامها في حال اندلاع أي أزمة (عسكرية أو أمنية)، وهذا الأمر مرشح للتفاقم مع استمرار حرب غزة واقترابها من بداية شهرها السابع.

في الخلاصة، إذا استمرت الحرب، بفعل إصرار نتنياهو على تحقيق أهدافها المستحيلة، سيستمر شعور الإسرائيليين بعدم الاستقرار وغياب الأمان، وستظهر احتجاجات قد يقابلها اليمين المتطرف، من أنصار الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بالقوة فتندلع حرب أهلية تكررت التوقعات بحدوثها، فتزداد بسببها موجة الهجرة من إسرائيل. حينها سننتظر مؤرخاً على شاكلة شلومو ساند، ليكتب لنا تاريخ دولةٍ جمعت يهود العالم فوق أرض فلسطين على مدى عقود.. ثم اندثرت حين آن الأوان لسكانها لكي ينصرفوا!

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الزر النووي لفلسطين.. غزة!