إن الصمت عدوٌ سائرٌ. فلسطين ممنوعة في “الإعلام الغربي”. فلسطين لا وجود لها، برغم وجودها المزمن والحامل لحضارة ورقي ومساهمة. فلسطين المختارة، إلهياً وسماوياً، ممنوعة من الوجود. المطلوب صلبها وتعقيمها. لا أمل في منظومة غربية سياسية معادية. ديموقراطيتها نازية وفاشية. ثقافتها استعلائية. تعترف بالآخر بشرط أن يكون في الصفوف الخلفية. القوانين الدولية لا تحمي الفقراء والمظلومين. “الدول العربية” (الملكيات أو المعسكرات العربية) سمتها الصمت المطبق. لا تُلام. مشغولة فقط بحراسة السجون. السجونُ العربية تُشهر الصمت السياسي وتُروِّج لـ”التعقل” المذل.
الصمت عدو الفلسطيني. أما الشعارات السائدة، فهي مبنية على “التعقل”. العرب في حالة عقم متعمَّد. عقمٌ تمت صناعته بدقة ومثابرة وحراسة وتيقظ. عقمٌ مُعمَّمٌ وقصداً. المطلوب، هو الموت السياسي. نجحوا. والمطلوب نزع الإنسانية من اللغة والعبارات. طلاقٌ مبرمٌ مع القيم. احتقار كثيف: للفكر والحقوق والحرية. الله عندهم، دفتر شيكات. وعقيدتهم: لا حول ولا قوة إلا بالمال.
العقم العربي ليس وراثياً. انه مصنوع بدقة ومثابرة. الهدف إلغاء كل نزوع إنساني وأخلاقي. يفضلون الذهاب إلى مدينة المنفى. المجدُ للوثن الرأسمالي.
وعليه، الكلمات لم تعد تعني شيئاً.. ونحن كذلك. السائد هو المبتذل والممنوع: فلسطين أولاً، ثم: الحرية. الديموقراطية. العدالة. المساواة، والكتابة. إلى آخره.. المطلوب انتزاع الإنسانية من كل إنسان.
العبقرية الاستبدادية، نجحت في تحويل الثقافة إلى ديكور. إلى مشهد تلفزيوني. إلى فنون هابطة. إلى زحفطونية متنامية. القاعدة: تحويل الإنسان المختلف إلى شحاذٍ أو متسوِّل أو رقيق. ما كان في أوليات النهضة، هو مشروع التغيير، للانتقال من مرحلة الاستتباع والتخلف والاستعباد، إلى ولادة مواطن في وطن، إلى حرية تصون الأفعال والأقوال. إلى.. حلم قابل للتحقيق، عبر صدق الإيمان بالإنسان والأوطان.
أليس الفلسطيني هو يسوع المسيح على صليبه، بانتظار القيامة دائماً؟ أليس الفلسطيني هو الحسين بوعد الجراح ولو بعد أزمنة طاعنة؟ ألا يشبه الحلّاج في رائعته: “الله الله في دمي”.. أليس هو الحبيب الإلهي السهروردي المقتول؟ الفلسطيني وريث كل هذه الآيات والصلبان والجراح
السلطات العربية المتعاقبة، مارست العقوبة للفكر والحرية والإنسان. التفاعل ممنوع. الإملاء أساس فأطيعوه. السياسة رجس من قبل.. فاجتنبوها. الخلق، بشرط أن يكون مدحاً أو زينة. الإنسان منفي. تحوَّل إلى آلة. شارلي شابلن نبي. عرف كيف سيتحول الإنسان إلى خردة. إلى لا شيء. إلى برغي. إلى حذاء.
بلادٌ، النقد فيها جريمة. السياسة ممنوعة. التفاعل رجس وجبت مراقبته. الإبداع مطلوب بشرط أن يكون في قافلة خدمة التفاهة. التحرر: رجس. الثقافة: يلزم أن تكون صامتة لتصبح مقبولة للتداول التافه. هي ليست مسرحاً للحياة، بل قشرة للزينة.
محاربة الثقافة مسار مزمن. السائد هو الإملاء والأضواء. لم تعد الثقافة تفتحاً وتبديلاً وحياة. الثقافة فعل إغناء وتأصيل للحرية وخروج من الجمود السلفي. من دون الثقافة، يتحوَّل المجتمع إلى مستنقع. وتسود اللفظة والطلقة ويصير السفك عقيدة السلطة وثقافتها.
بلادٌ مثل هذه، تغيب فيها الحياة. ويشاء البعض أن يقارن بين أنظمة البلاد العربية، وخاصة الخليجية منها، ويستنتج أنه بألف خير وألف عافية وألف “أموال”.. لا يسأل نفسه لماذا يعيش بحذر من الحرية والنقد والمسؤولية.. مجتمعات كهذه في البلاد العربية، لا تنتج إلا شعوباً مقيَّدة.. وإلا.
أما بعد؛
أين مكان إقامة الفلسطيني؟ هل هو في عدم أرضي. في الريح المسافرة.. إنه مقيم في الدم. حاضر في كل هذا الركام الدولي الفاقد للحد الأدنى من الإنسانية.
للفلسطيني دين مختلف عن كل الأديان. دينه أرضه. مصلوب من زمن بعيد. لكنه، يصنع قيامته بيده ودمه. ليس بحاجة إلى معجزات القديسين والأديان والآلهة. الفلسطيني لا يموت. يُقتل ولا يموت. أموات فلسطين، أحياء عند شعبهم يرزقون. موتهم حياتهم الآتية. معادلة صعبة ومضنية، لكن لا مفر. معه حق، ذاك الذي صعد إلى السماء. ولم تُفتح له أبواب الجنة. خلع الأبواب. حطّم المدافع، وأسس سماءً أخرى، لأناس يرتكبون الحب والفداء والحرية.
تقول ناديا تويني في قصيدة “أمسْ”: “لا مرور زمن على حقّ حبّ الأرض”. طبعاً، إذاً، لا بد من استعمال الحواس لفهم شخصية الفلسطيني، في وجوهه المتعددة. لا بد أيضاً أن ننظر إلى الفلسطيني ككائن، ليصير ممكناً أن نراه على حقيقته. أليس الفلسطيني هو يسوع المسيح على صليبه، بانتظار القيامة دائماً؟ أليس الفلسطيني هو الحسين بوعد الجراح ولو بعد أزمنة طاعنة؟ ألا يشبه الحلّاج في رائعته: “الله الله في دمي”.. أليس هو الحبيب الإلهي السهروردي المقتول؟ الفلسطيني وريث كل هذه الآيات والصلبان والجراح. وحده لم يعد ينتظر القيامة. انه ماضٍ إليها بدمه. عندها، يرتل المؤمنون، الفلسطيني قام من بين الأنقاض. فافتحي أبوابك يا قدس: يا مدينة الصلاة، وافرحي بقيامة فلسطين.
هل هذا شعر؟
كلا.
هذا إيمان. برهن الفلسطيني، انه وهو على صليبه، وهو يواكب الشهداء ودماءهم وعذاباتهم وقتلهم وتقتيلهم.. لا يزال فلسطينياً مؤمناً بأنه سيد المقاومة والقيامة. إنه الفصح الإنساني وهو أيضاً: “لبيك ثم لبيك”.
كم ستربح الإنسانية يوم تتحرر فلسطين.
وعليه، لا نثق بما يقال، بل بما نشاهده، ونتحسسه في مسار الجلجلة الفلسطينية.
صورة الفلسطيني عند الشعوب، هي مرتبة القداسة الإنسانية ليست بحاجة إلى تفسير أو تأويل أو إفهام. ليست بحاجة إلى فذلكات. الفلسطيني واضحٌ. مشعٌ. باسلٌ. ينظر إلى مرمى دمه. يجد فيه أفقاً، سيصل إليه. هو يعرف أنه كي يكون فلسطينياً دائماً، عليه أن يُدين بدين الحرية، بلا أي تأويل..
الآية الأولى والخالدة في السياسة: الحرية.
ما نشاهده اليوم، وما شاهدناه بدموعنا على مدى نصف عام، ليس عبثاً ولا تأويل له. انه أرقى فعل إنساني. نعم. فعل إنساني بكلفة بالغة الدماء. ما يحدث في فلسطين، لا يمت إلى حروب الذئاب في الغرب والشرق وما بينهما.
في مواجهة الشرور الدولية والظلم المطلق والاحتلالات والإبادات، ينهض الفلسطيني. سلاحه دمه. هذا السلاح هو الأقوى. السماء حفظت لون دمه. عرفت معنى الحضور في الغياب. معجزة؟ طبعاً. المعجزات ليست صناعات سماوية أو إلهية. قال شاعر: لا تلمني. يا إلهي، لقد أصبح الشعب الفلسطيني إلهاً. إنه يضيء الآيات بدمه.
وعليه، ليس المسيح يسوع وحده من قام من بين الأموات. أنت أيها الفلسطيني، قيل بك: “السلام عليك.. يوم تولد.. ويوم تقتل.. ويوم تبعث حياً”.