قبل أسبوع من السفر كانت قد وصلتنى رسالة هاتفية نصها كالآتى: «الأمين العام عازمك على فنجان قهوة فى مكتبه بكرة على الظهر». تلقيت الدعوة ورحت أفكر. لم تجر العادة فى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية على استخدام هذه الصيغة عندما يقرر الأمين العام استدعاء أحد مساعديه لمقابلته. راحت بى الظنون الطيبة إلى اجتهادات عديدة. أخذنى ظن إلى أن الأمين العام لا شك يريد تهنئتى ونفسه أيضًا بما حققناه معًا فى مؤتمر مقديشيو من زيادة فى مساهمات الدول لصالح صندوق المعونة الفنية للدول العربية والإفريقية، الصندوق الذى كلفت قبل شهور بتولى مهام إدارته خلفًا للصديق الدكتور عبد الملك عودة. ذهب بى ظن آخر إلى أنه ربما أراد الإشادة بتقرير كتبته عن البحرين، ولم يطل أمد هذا الظن فالعلاقة بيننا كانت لا تزال فى حيز عدم الإشادة بكل ما أكتب ويغلب عليه الأسلوب البحثى.
***
غادرت مكتبى، حيث مقر الصندوق بالزمالك، قبل الظهر بقليل أحمل معى آخر المستندات المصرفية التى تؤكد موقفنا المالى المتميز أملًا فى أن أقابل دعوته الكريمة على فنجان القهوة بأخبار تثلج صدره. هناك فى المقر بالتحرير استقبلنى الزميل والصديق عبد الرءوف الريدى، بصفته مدير مكتب الأمين العام، كعادته ببشاشة لا تشى بأكثر من الترحيب الحار والصادق الذى تعودت عليه. دقائق معدودة ودخلت علينا السكرتيرة تدعونى لاجتماع مع الأمين العام.
***
استقبلنى محمود رياض بابتسامة لم تفلح سنوات الدبلوماسية التى قضاها بين دمشق ونيويورك فى تفكيك عسكريتها. سألنى وأنا الباحث فى العلوم السياسية عن معلوماتى عن جزر القمر، العضو الجديد فى جامعة الدول العربية. أجبت إجابة مكسوة ببعض التردد وكثير الخجل وشىء من الاعتذار. هز برأسه معبرًا عن تفهمه ثم قال فى شكل التكليف القسرى «استعد للسفر إلى هناك على رأس وفد تشكله بنفسك. تحمل رسالة منى إلى رئيس الجمهورية فحواها أن الجامعة العربية تبدى استعدادها المساهمة فى دعم استخدام اللغة العربية فى مؤسسات الدولة التى لم يمض على استقلالها أكثر من أيام معدودة، وهى، ويقصد الجامعة، فى حاجة لاقتراحات من جانب الرئيس وحكومته». سكت قليلًا ليستطرد بعدها قائلا «الجانب الأهم فى مهمتك هو أن تعد تقريرًا وافيًا عن جزر القمر وبخاصة عن حقيقة «عروبتها»، أى عن مدى صحة ما جاء فى مّذكرات دول أعضاء مخضرمة فى الجامعة رشحتها للعضوية عن اتساع انتشار اللغة العربية وآدابها وعن عمق الاعتزاز بالانتماء العربى بين سكان الجزر الثلاث التى تتشكل منها الدولة». خرجت من الاجتماع متوجهًا لمكتب رئيس الإدارة العامة للشئون الاقتصادية لاستئذانه فى استعارة الزميل صبحى خضير الخبير الاقتصادى ليكون عضوًا فى وفد الأمانة العامة. أشهد بأننى أحسنت الاختيار.
***
أعترف أنه حتى يومنا هذا وحتى ساعة كتابة هذه السطور ما أزال قادرًا على اجترار، إن صح التعبير، هذه الرائحة الرائعة والنفاذة التى استولت على الطائرة وعلينا عند اللحظة التى انفتح فيها باب الطائرة التى حملتنا إلى مطار العاصمة مورونى. توقعت، بناءً على خبرة العمل فى مناطق موسمية وخلال المرور بمطارات فى دول آسيوية ودول فى غرب إفريقيا، أن تكون الرائحة التى تنفذ إلى الطائرة عند فتح أبوابها غير مستساغة إن لم تكن أسوأ كثيرًا. هنا فى مطار مورونى اختلف الأمر كثيرًا. فالرائحة عطرة، والأهم كانت متوددة ومرحبة. بالفعل كنت قد قرأت أن الجزر تخصصت منذ القدم فى زراعة زهرة اليلانج يلانج التى تصنع منها خلاصات ضرورية لصناعة العطور، هذا إلى جانب نباتات أخرى تبث دائمًا فى الأجواء الرطبة المحيطة بها روائح محببة. من هذه النباتات القرنفل والقرفة والزنجبيل والفانيليا.
***
غالبنى شعور من مسه سحر ما. بدأ فى الحقيقة وأنا أقرأ خلال رحلة الطيران الطويلة عن تاريخ وجغرافية وثقافة بلد لم أكن سمعت حتى عن وجوده. اكتشفت من قراءاتى أننى قصرت فأهملت وظلمت. غير صحيح وزائف تمامًا اتهامى الاستعمار الفرنسى أنه أخفى هذه الجزر وسكانها عن العالم لينفرد بثروتها العطرة والمعدنية على حد سواء.
***
عرفت من الأسطورة أن «جنًا» من مخلوقات الله أسقط من السماء جوهرة اشتعلت عند ارتطامها بالأرض متسببة فى حريق هائل (يقصد به فى الغالب البركان الذى تفجر فى بداية التاريخ فأنشأ جزيرة القمر الكبرى). عرفت أيضًا من أسطورة أخرى ردّدها أمامى أحد رجال الدين أن الملك سليمان زار الجزيرة بصحبة زوجته الملكة بلقيس. (يقصد ربما بترديد هذه الأسطورة تبرير وجود سكان تعود أصولهم إلى حضرموت والساحل العمانى). لأسطورة أخرى وربما حقيقة تحتاج إلى إثبات أن الإسلام دخل هذه الجزر فى حياة النبى محمد عليه الصلاة والسلام، كما أن المسعودى، المؤرخ الإسلامى، كتب عن البحارة العرب الذين أطلقوا على هذه الجزر «جزر العطر» نسبة إلى محاصيلها ذات الروائح العطرة.
***
توقفت محركات الطائرة ونهضنا استعدادا للنزول. أقبلت علينا مسرعة مضيفتنا فى الدرجة الأولى حاملة رسالة من القبطان يرجونا فيها أن نتريث، ففى الطريق إلى الطائرة وفد من كبار القوم قادم للترحيب بنا. وصل الوفد فوقفنا لاستقباله أنا وزميلى العضو الثانى فى وفد الجامعة، وهنا حدثت المفاجأة غير المتوقعة بالمرة. قدمت نفسى باسمى وباعتبارى رئيس الوفد فإذا بأكبر المرحبين سنًا ينحنى ويسحب بدى بقوة ليقبلها. سحبت يدى. ولكنه عندما رحب بزميلى لم يقبل يده. أما عن باقى وفد المرحبين وبينهم مندوب من رئاسة الجمهورية ومندوب عن وزارة الخارجية فقد اختار أغلبهم تقبيل يدى وامتنع قليلون.
***
خرجنا إلى سلم الطائرة فإذا بالهتافات ترتفع والتهليل يتصاعد فالمطار مكتظ بالناس. ما أن حطت أقدامنا على أرض المطار حتى وجهنا مندوب الخارجية بضرورة أن أعتلى منصة الخطابة فالجماهير جاءت لترحب ولتحصل على البركة ولتسمعنا. لم أعرف عن نفسى كفاءة إلقاء الخطب، وعندما حاولت تصدير زميلى فهو من العراق، أهل الخطابة وتحريك الهمم، نبهنى كبير الوفد الشعبى إلى أن الناس تنتظر منى أنا الخطاب. كان تصورنا المشترك أن صيتنا كوفد عربى يزور دولة لأول مرة لا بد من أن يحمل معه زكائب الدولارات والريالات.
***
لا شك أن مندوبى الرئاسة والوزارة لاحظا دهشتى بسبب هذا الاستقبال الفريد، وأحدهما تخرج من جامعة مصرية، فانتهز فرصة الانفراد بى فى السيارة التى نقلتنا إلى الفندق ليشرح لى ما خفى عنى وما كان فى حكم المستحيل أن انتبه إليه وحدى. قال بلهجة مصرية لا تشوبها شائبة ما معناه، حضرتك متزوج من سيدة تنتمى أصولها إلى قيادات معروفة فى الطريقة الشاذلية فى عكا الفلسطينية، وهى الطريقة الصوفية التى ينتسب لها الغالبية العظمى من أهل البلاد باعتبارهم مسلمين. وقد بلغتهم هذه المعلومة قبل وصولكم، فانتشر الخبر فى الجزر الثلاث وخرج الناس إلى المطار للترحيب بكم وفى نية آخرين زيارتكم فى الفندق أملًا فى أن تحل البركة فيهم وفى أولادهم عن طريقكم.
***
قابلنا رئيس الدولة. جرى الحديث بالفرنسية. رحب بنا. اتضح لى خلال المقابلة أنه كان فى انتظار أن تحصل الدولة خلال زيارتنا على معونة مادية من الجامعة العربية، تعقبها معونة أكبر. كانت واضحة على وجهه خيبة أمله ويبدو أنه نقلها إلى بعض الوزراء. ففى اليوم التالى انعقد عندنا فى الفندق مجلس الوزراء ليستمع لنا ويبلغنا رسميًا الحاجة الماسة إلى المعونة المادية واستجابة لرغبتنا قرروا طلب تزويد الدولة بمطبعة مزودة بالحروف العربية.
***
زارنا بالفندق كما توقعنا وفد رجال الدين الإسلامى. سألت فأجابوا ما يفيد بأن المتحدثين بالعربية فى الجزر الثلاث لا يزيد عددهم عن عدد أعضاء هذا الوفد وأغلبهم درسوا فى الأزهر على منح من الدولة المصرية. سألت أكثر فسمعت أن السلطة الحقيقية فى الدولة فى يد (روب دينار)، الضابط الفرنسى المتقاعد ومعه مجموعة من المغامرين الفرنسيين المسلحين. ولا سلطة حقيقية فى يد مواطن من أبناء الجزر. سمعت أيضًا أنه من المرجح أن يكون قرار طلب الانضمام للجامعة العربية قد صدر فى باريس.
***
عدت إلى القاهرة أحمل توصيتى أن يشترى صندوق المعونة مطبعة بالحرف العربى مساهمة فى تعريب المراسلات الرسمية وإصدار صحيفة وطبع الكتب المدرسية. ووفق على توصيتى. اشترينا المطبعة وتسلمتها مورونى. فهمت بعد تركى العمل فى الصندوق أنه بعد مرور عام أو أكثر عاد فأوصى بإرسال أحد الفنيين من الجامعة إلى مورونى لإجراء عملية صيانة للمطبعة.
***
عاد الخبير من رحلته بتقرير يفيد بأنه وجد المطبعة تحمل حروفا لاتينية وتطبع بالفرنسية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“