فشل مفاوضات القاهرة.. من يكسُر الاستعصاء السياسي والميداني؟

ليس من باب الصدفة أن يُباغت الوفد الإسرائيلي المشارك في اجتماعات الدوحة، قبل حوالي الأسبوع، رئيس الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز، رداً على إصراره بوجوب إبرام تسوية عاجلة، بتذكيره بشكل فج بما صرّحه الرئيس الأميركي جو بايدن على باب طائرته في مطار بن غوريون بعد 11 يوماً من اندلاع حرب "طوفان الأقصى". قال بايدن أن الوقت "حان للسماح لإسرائيل بالذهاب الى النهاية"، أي أن لا سقف زمنياً للعملية الإسرائيلية في غزة.

ذهب رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو والفريق المتطرف في حكومة الحرب الإسرائيلية وعلى رأسه ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش إلى أقصى ما يمكن أن يتطرف العقل الصهيوني. حرب إبادة مفتوحة على أرض غزة، تترافق مع استمرار تهويد الضفة الغربية والقدس الشرقية، وأي نقاش مستقبلي يتصل بقطاع غزة، يجب أن يتصل بالهدف الإسرائيلي الأساس: جعله منطقة غير قابلة للحياة، وفصل الشمال عن الجنوب وفتح شهية المستوطنين لإعادة استنساخ تجربة الضفة في شمال غزة.

عملياً، تجاوز الأمر القضاء على حركة حماس. ليس المطلوب شطب القضية الفلسطينية بل شطب الوجود الفلسطيني كله بعنوان “إزالة أي خطر وجودي مستقبلي”. الأدهى من ذلك اعتبار أي مشروع يفضي إلى كيان فلسطيني سواء في غزة أو غزة والضفة إنما يُمهد الأرضية لحضور إيراني يتمدد نحو نقطة جغرافية جديدة، أي أن نفوذ إيران لن يقتصر على بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء بل سيكون أولاً في غزة والضفة، وبالتالي تغيير الخريطة السياسية للشرق الأوسط لا بد وأن يبدأ من بوابة غزة.

في هذه الأثناء، لم يلمس الفلسطينيون، وتحديداً حركة حماس، اي تبديل أو تعديل في الموقف الأميركي، بدليل أنه ذهب في جولتي الدوحة والقاهرة، أبعد مما كانت عليه أوراق إسرائيل التفاوضية في محطات سابقة، لذلك، قررت حماس أن لا تشارك وأن لا تعدّل حرفا من حروف ورقتها المقدمة للأميركيين بتاريخ 11 حزيران/يونيو الماضي، بما ينسجم في العديد من بنودها مع خطة الرئيس الأميركي جو بايدن الأصلية التي أعلنها في نهاية شهر أيار/مايو الماضي وسارعت حماس إلى الترحيب بها، ليتبين أن بايدن والأميركيين خرجوا منها وصاروا أقرب إلى الخطة الإسرائيلية الجديدة!

وخير دليل على موقف واشنطن، عدا عما يجري في أروقة المفاوضات، هو المشهد الميداني لاعادة تمركز القوات الأميركية في البحر والجو في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي والبحر الأحمر، فضلاً عن تعزيز حضورها في قواعدها ومواقعها العسكرية البرية في الشرق الأوسط والخليج، وذلك بعنوان منع انجرار المنطقة إلى حرب شاملة تُهدّد أمن إسرائيل، إلا أن الأهم أن واشنطن التي اختار الحزب الديموقراطي عنوان “حماية أمن إسرائيل ووقف الحرب” في صلب برنامجه الانتخابي الرئاسي ما يزال يُغدق بالأسلحة النوعية الأكثر تطوراً ودقة وإغراق مخازن الجيش الإسرائيلي بها، تحت عنوان تكريس معادلة حماية مستدامة لإسرائيل تبعد عنها شبح التهديد الكياني.

لذا الأصل أن اجتماعات الوسطاء بين الدوحة والقاهرة يسودها الاستعصاء الكبير، فالإدارة الأميركية الحالية والتي تخوض أكثر الاستحقاقات دقة في تاريخها تخشى انعكاسات الحرب على التصويت العربي، من هنا فإن المواقف الصارمة في العلن، يعاكسها انحياز عبر الدعم العسكري والاستخباري وحشد الأساطيل، ما يُصعّب الوصول إلى تسوية في ظل تعنت نتنياهو وتمسكه بقرار استمرار الحرب.

من هنا تبرز جملة مؤشرات لا يمكن القفز فوقها تُدلّل على استحالة التوصل إلى اتفاق لوقف اطلاق النار، ولعل أبرزها:

أولاً؛ منذ اللحظة الأولى لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران، أعاد الجانبان القطري والمصري التفكير جدياً باستكمال دورهما في الوساطة، وثمة من يتحدث عن تلويح الطرفين بهذا الأمر، إلا أن النصائح الأميركية دفعت القاهرة والدوحة للمضي قدماً بالتفاوض من جديد، برغم أن المصريين كان موقفهم أكثر صلابة من أي وقت مضى في ما يخص الانسحاب الإسرائيلي من محور فيلادلفيا.

تبدو الظروف الحالية مؤاتية لنتنياهو، حيث لا صفقة تبادل ولا وقف لاطلاق النار ولا حرب إقليمية كبرى، فيما واشنطن تدخل أكثر في استحقاقها الداخلي الرئاسي، والأكيد أن لا خطة لليوم التالي إسرائيليًا، ولا خطة لليوم التالي عربيًا أو فلسطينيًا، وهذا يعني أن المذبحة مستمرة من دون أي أفق للضغط على إسرائيل لوقفها، فمن يمكن أن يُقدم على كسر الجمود ميدانياً وسياسياً؟

ثانياً؛ قبيل بدء يومي التفاوض في القاهرة، حرص الأميركيون عبر وسائلهم الإعلامية على ضخ تسريبات تُوحي بوجود فرصة للتوصل إلى وقف الحرب، على الرغم من أن كواليس الاجتماعات ومواقف حركة حماس المُشكّكة ومن ثم الرافضة لمخرجات الموقف الأميركي، كانت تؤشر لعكس ما يُروّج له الأميركيون، ما يعني أن واشنطن تريد تمرير الوقت ريثما تُمرّر الإستحقاق الانتخابي.

ثالثاً؛ مع تسفير المفاوضات إلى القاهرة رعت واشنطن اجتماعات ثلاثية بين مصر وإسرائيل، أطلقت عليها “محاولات الفرصة الأخيرة” لمنع المفاوضات من الانهيار، إلا أن المصريين رفضوا أية حلول على قاعدة استمرار تواجد القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا، لأن المقترح الأميركي يتضمن تواجداً محصوراً للجيش الإسرائيلي في المحور والمعابر ضمن المرحلين الأولى والثانية من الصفقة، على أن يتم الانسحاب بشكل تام منهما في المرحلة الثانية، مع استمرار التحكم بالرقابة عبر الكاميرات والأقمار الصناعية إلخ..

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": في عالم الغاز.. لا يلعب الأغبياء!

لذا وانطلاقاً من الاقتراح المصري انخرطت واشنطن في صياغة مقترح معدل، يقضي بتواجد قوات دولية بإشراف مباشر من الأطراف الوسيطة، خلال المرحلتين الأولى والثانية في محور فيلادلفيا ومعبر رفح، وذلك لمرحلة مؤقتة ريثما تتسلم إدارة فلسطينية جديدة معبر رفح، وهذا المقترح دفع الإمارات للحديث عن جهوزيتها للدخول على خط الحضور الدولي، تحت رعاية الأمم المتحدة.

وخلال الجلسات التفاوضية بين وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن ونتنياهو سعى الأول لإقناع الثاني بالموافقة على المقترح لتتولى الدوحة والقاهرة اقناع حماس به، لكن نتنياهو تملص من المقترح مع بلينكن، ليتناوله في اتصال هاتفي مطول مع الرئيس بايدن، شاركت فيه نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان. وأظهرت التسريبات الإسرائيلية التي أعقبت الإتصال أن نتياهو ليس في وارد التخلي عن حضور جيشه في محور فيلادلفيا لأنه يعتبره شريان الأوكسيجين الحيوي لحركة حماس.

رابعاً؛ مع تعنت نتنياهو في رفض المقترح الأميركي، تيقن الجانبان القطري والمصري بإنهيار وشيك للمفاوضات، وأن نتنياهو وفريقه المفاوض يستخدمون الوقت بهدف استمرار آلة القتل، من هنا طلب الوسيطان تأجيل المفاوضات للأحد القادم، لإعادة خلق أجواء إقليمية أقل حدة، من هنا سيزور وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني طهران برفقة رئيس جهاز أمن الدولة القطري عبد الله الخليفي، في سبيل استمرار التواصل والتنسيق ومنع تفجير الأوضاع في المنطقة مع عودة حزب الله للتلميح بإمكانية الرد القريب على اغتيال فؤاد شكر واستعداد طهران فور انتهاء أربعين الإمام الحسين (الأحد المقبل) لبدء العد العكسي للرد على اغتيال هنية..

خامساً؛ دخل على الخط منذ أسابيع الجانب التركي، ومع تصعيد اللغة الخطابية للرئيس رجب طيب ردوغان وخطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس من قلب البرلمان التركي، كانت وفود أمنية تركية تجوب المنطقة، فرئيس الاستخبارات إبراهيم كالن الذي زار عواصم عدة، أوروبية وآسيوية، كان آخرها ماليزيا، يحاول استنهاض اللجنة المنبثقة عن قمة السعودية الاستثنائية (العربية والإسلامية) في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وهذا الموقف سيخرج للعلن بمبادرة مكتوبة عن أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي سيتوجه في الرابع من أيلول/سبتمبر المقبل إلى أنقرة في زيارة هي الأولى من نوعها منذ وصوله إلى الحكم قبل عشر سنوات.

في المحصلة، تبدو الظروف الحالية مؤاتية لنتنياهو، حيث لا صفقة تبادل ولا وقف لاطلاق النار ولا حرب إقليمية كبرى، فيما واشنطن تدخل أكثر في استحقاقها الداخلي الرئاسي، والأكيد أن لا خطة لليوم التالي إسرائيليًا، ولا خطة لليوم التالي عربيًا أو فلسطينيًا، وهذا يعني أن المذبحة مستمرة من دون أي أفق للضغط على إسرائيل لوقفها، فمن يمكن أن يُقدم على كسر الجمود ميدانياً وسياسياً؟

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  هيكل "الأستاذ".. و"العارفة"