بين المتنبّي وحاضرنا العربيّ في فلسطين.. خلّي السّلاح صاحي (2)

من خلال استخدام أدوات وتقنيّات اللّغة والمجاز والتّشبيه والتّصوير والموسيقى وما إلى ذلك؛ يهدفُ شعر أبي الطّيّب (الحربيّ) إلى "نقلك" من واقعٍ إلى "واقعٍ" آخر أكثر تعالِياً، ترى فيه وتشعر بـ"الحقائق" المقصودة من قبل الشّاعر.. بشكل أوضح وأعمق وأجمل. هكذا يُخاطبُ المتنبّي وأمثالُهُ من شعراء العرب عقلَك وقلبَك العربيَّين، وعقلَ وقلبَ الأعداء.. بل وعقلَ وقلبَ الأجيال اللّاحقة لهذه الحوادث "المادّيّة" (ربّما إلى يَومِ يُبعثون).

الهدف من “نقلك” إلى هذا الواقع الشّاعريّ كما سمّيناهُ إذن هو إيصال الأفكار والمعاني المقصودة إلى صميم عقلك وقلبك ووجدانك وحدسك.. ودفعها جميعاً إلى التّفاعل العميق والمُزمن مع هذه الأفكار والمعاني.

ومن الأمثلة على ذلك، انشادُهُ في تخليدِ نصرِ سيفِ الدّولةِ بعدَ واقعةٍ أخرى (مَرعَش)، فيُنشِدُ أبو الطّيّبِ الجُعفيُّ لأبي الوغى الحَمَدانيّ:

فَرُبَّ غُلامٍ عَلّمَ المَجدَ نَفسَهُ:

كَتَعليمِ سَيفِ الدَّولَةِ الطَّعنَ وَالضَّرباْ

أيْ رُبَّ غلامٍ مثلي أنا: عَلّمَ نفسَه المَجدَ بنفسِه.. أبداً كما عَلَّمَ سيفُ الدَّولةِ نفسَهُ والنّاسَ الطّعنَ والضّرب!

تُهابُ سُيوفُ الهِندِ وَهيَ حَدائِدٌ

فَكَيفَ إِذاْ كانَتْ نِزارِيَّةً عُرْباْ؟

إذْ يَخافُ النّاسُ من السَّيفِ المُهنَّدِ مع أنّه حديدٌ لا عقلَ له ولا قلب.. فكيفَ إذا كان “السّيفُ” هو سيفُ الدّولةِ ابنُ أبي الهَيجاء؛ أي “سيفٌ” نِزاريٌّ عَرَبيٌّ يَعرُبيّ؟ (هل يجوز للقلبِ بعدَ سماع ذلك، في بعض البيئات المذكورة آنفاً، إلّا التّهليل أو التّكبير.. أو رفع الأصوات بالصّلوات على أبي القاسِمِ العَدْنانيِّ وآله وصحبه المَيَامين؟).

 عَليمٌ بِأسرارِ الدِّياناتِ وَاللُّغىْ

لَهُ خَطَراتٌ تَفضَحُ النَّاسَ وَالكُتْباْ

يُريد أحمدُ بنُ الحسينِ هنا أن يُبيِّنَ لنا أنّ عليَّ بنَ عبدِاللهِ هو أيضاً من أهل الذّكاء والحكمة والمعرفة. ولكنّ السّيفَ أبا الضَّربِ والقَطعِ يهوى قبلَ أيِّ شيءٍ آخر.. هزيمةَ الظّالمين من “العِدى”:

فَيَوْماً، بِخَيلٍ تَطرُدُ الرّومَ عَنهُمُ

وَيَوماً: بِجودٍ تَطرُدُ الفَقرَ وَالجَدْباْ

فأنتَ الذي يوماً تطردُ الغزاةَ الرّومَ بالخيلِ وبالصّوارمِ وبالقَنا.. ويوماً، بكَرَمِك، تطرُدُ الفقرَ والقلّةَ والحاجةَ والجفافَ عن أهل امارَتِك.

لكن، أينَ صديقُنا Domesticus من كلِّ ذا وذاك؟

سَراياكَ تَتْرىْ، وَالدُّمُستُقُ هارِبٌ

وَأصحابُهُ قَتلىْ وَأموالُهُ نُهبىْ (..)

مَضىْ، بَعدَماْ التَفَّ الرِّماحانِ سَاعَةً

كَما يَتَلَقّىْ الهُدبُ في الرَّقدَةِ الهُدْباْ

هنا نرتقي مع أبي الطّيّب بشكلٍ واضحٍ جِدّاً نحوَ “العالم أو الواقع الشّاعريّ” كما وصفناه آنفاً؛ فنرى أمامَنا ونسمع جيوشَ سيفِ الدّولة تُقدِمُ مُنتصرة، وجيوشَ الدّمستقِ الرّوميِّ هاربةً فرّارةً كالعادة. وقد فرّ الدّمستقُ نفسُه بعد ساعةٍ من التقاء الرّماح ببعضها بعضاً: أبداً، كما تلتقي الأهدابُ ببعضها البعض عند اغماض العَين. هذا مشهدٌ نراه كثيراً في أيّامنا هذه ضمن الأفلام التي تُصوِّرُ معارك القدماء.

ما لهذا الدُّمُستُقِ يُحبُّ الحياةَ فيخافُ القتالَ والوَغى؟ هل تغُشُّهُ حياتُهُ الخدّاعةُ يا تُرى؟ ماذا لو كان في صفوفِ جيشِ ابنِ أبي الهَيجاء من يُفكّر كالدّمستُق أخيْ الدُّنيا وأهلِه؟ القضيّةُ، إذن، يلزمُها تمعُّنٌ أكثر:

أرَى كُلَّنا يَبغيْ الحَياةَ لِنَفسِهِ

حَريصاً عَلَيها، مُستَهاماً بِها صَبّاْ

 فَحُبُّ الجَبانِ النَّفسَ: أورَدَهُ التُّقىْ

وَحُبُّ الشُّجاعِ النَّفسَ: أورَدَهُ الحَرْباْ

كُلُّنا يُحبُّ الحياةَ حقيقةً، ولا فضلَ في ذلك للجَبان المُتخلّف عن المعركة لاتّقاء الألم والموت. فحبُّ الحياة أيضاً هو من يورِدُ الشّجاعَ الحرب؛ لأنّه، في أوقاتٍ مُعيَّنة، لا سبيلَ إلى “الحياةِ” إلّا من خلال المواجهة.. أو من خلال التّضحِيةِ بالنّفس.

ويُنشدُ الشّاعرُ الكُوفيُّ الجُعفيُّ اليَمَنيُّ في هذه القَصيدةِ بيتاً عجيباً آخر، فيقول:

هَنيئاً لِأهلِ الثّغرِ رَأيُكَ فيهِمِ

وَأنَّكَ، حِزبَ اللَّهِ: صِرتَ لَهُم حِزْباْ!

هنيئاً لأهلِ الرّباط في ثغر مرعش وفي الثّغور كلّها.. حُسنُ رأيِك فيهم. وهنيئاً لهمْ أنَّكَ يا سيفَ الدّولةِ صرتَ حزبَهم، وما سيفُ الدّولةِ إلّا حزبُ اللهِ نفسُهُ: فهنيئاً لأهلِ الدّفاعِ والمُواجَهةِ أنَّ حزبَ اللهِ بذاتِهِ.. صارَ لهُم حِزْبا! المقصود هنا طبعاً هو حزب الله القرآنيّ.. ولا لزومَ للتّعليقِ أكثر على هذه المُصادفات الشّاعريّة العجيبة، التي يلعبُ بِها الدّهرُ مَعَنا..

وبعضُ الأمراء والملوك من غير سيف الدّولة يُرضون الكُفرَ واللّؤمَ معاً في حُكمهم.. أمّا أبو الثّغور والكَرَم، فهو من يُرضي ربَّهُ ويُرضي مكارمَ الأخلاقِ معاً:

فَمَن كانَ يُرضيْ اللُّؤمَ وَالكُفرَ مُلكُهُ

فَهَذا الذيْ يُرضيْ المَكارِمَ وَالرَبّاْ

بصوت الفنّان عبد المجيد مجذوب:

 ***

ولكنّ الجيوشَ ورجالَها.. قد تنزلُ العزيمةُ عندها وعندهم. وقد يُبتلى الجيشُ وقائدُهُ بمُلمَّةٍ أو بتراجعٍ أو بهزيمة.. وقد تصعب الظّروف، وتتكاثر المشاكل. ليست كلُّ الحياةِ انتصاراتٍ ظاهرة ومُبينة. كلّ ذلك قد يحصل، وهو يحصل مع كلّ القادة والجيوش والنّاس. ولكنّ شخصيّة القائد وعزيمته وشجاعته وجاذبيّته.. قد تكون في أحيانٍ كثيرةٍ أهمَّ من الجيوش نفسِها ومن السّلاحِ أخي الضّربِ والطّعن. لذلك أنشدَ أبو الطّيّب لسيف الدّولة بعدَ صعوبةٍ أو هزيمةٍ مُعيّنة:

 وَهَلْ يشينُكَ وَقْتٌ كُنتَ فارِسَهُ

وَكانَ غَيرَكَ فيهِ العاجِزُ الضَّرعُ؟

هل يشينُكَ ويعيبُك وقتٌ أو حادثةٌ كنتَ أنت فيهما المقدام.. وبعضُ أصحابِك وبعض النّاسِ كانوا فيهما العاجزين الخائفين المُتخلّفين عن القتال؟

مَنْ كانَ فَوقَ مَحَلِّ الشَّمسِ مَوضِعُهُ:

فَلَيسَ يَرفَعُهُ شَيءٌ وَلا يَضَعُ!

من كان مثلَ أبي الحَسَنِ ابنِ أبي الهَيجاء، فوق محلِّ الشّمسِ مقامُه، فليست تؤثّر عليه حادثةٌ هنا، أو تقلّبٌ في الأحوال هنا وهناك. ولكنّ أحمدَ بنَ الحُسَينِ يذهبُ أبعدَ من ذلك في اتّجاه الواقع الشّاعريّ الذي تحدّثنا عنه فيقول:

إقرأ على موقع 180  إسكات السيّد الحيدري.. غفلة تكتيكيّة أم خطأ استراتيجي؟

بِالجَيشِ يَمتَنِعُ السَّاداتُ، كُلّهُمُ:

وَالجَيشُ بِاِبنِ أبي الهَيجاءِ يَمتَنِعُ!

إذا كان القادةُ والسّاداتُ والملوكُ يحتَمون بجيوشِهِم وخلفَها، فأنتَ يا أبا الحَسَنِ ويا أبا الوَغَى وابنَهُ؛ مَنْ بِهِ الجيشُ والسّاداتُ والأبطالُ تحتمي وتمتَنِعُ! لاحظْ روعةَ البيتِ لحناً وتركيباً ومعنى. لكن لاحظ أيضاً أنّنا بِتنا بحقّ أمامَ لوحة فنّيّة بكلّ ما للكلمة من معنى. فتخيّلِ القادة والسّادات مُمتنِعينَ خلفَ الجيوشِ الخضارم..

وانظُرْ إلى سيفِ الدّولةِ ابنِ أبي الهَيجاء، وحدَهُ على جَوادِه أمام كلّ هؤلاء؛ أمامَ آلاف الجنود والفرسان والأبطال، وبِيَدهِ مُجرّداً سيفُهُ.. وهو سيفُ اللهِ الذي لا إلَهَ غيرُهُ!

من المؤسف أنّ المتاحفَ الكُبرى حول العالم يصعبُ عليها عرضُ هذا النّوع العظيم من اللّوحات الفنّيّة المَلحميّة وشبه الأسطوريّة! على كلِّ حال، أرجو أن يكون القارئُ العزيزُ يُشاهد معي المعنى المُبتغى، وبالأخصّ قضيّةَ تصوير أو اصطناع “الواقع الشّاعريّ” التي تحدّثنا عنها في ما سبق.

ذَمَّ الدُّمُستُقُ عَينَيهِ: وَقَدْ طَلَعَتْ

سودُ الغَمامِ فَظَنّوا أنَّها قزَعُ

لقد أخطأت عينا الـDomesticus فصوّرت له الغمام الكثيف (أي جيش عليّ بن عبدالله) على أنّه غمام متفرّق. لقد أرَته عيناهُ غيرَ الواقع، و”الواقعُ” هو أنّ جيشَ أبي الحَسَن متراصٌّ ومتينٌ وكثيرٌ كسُودِ الغَمام.

لاْ يَعتَقي بَلَدٌ مَسراهُ عَن بَلَدٍ

كَالمَوتِ: لَيسَ لَهُ ريٌّ وَلا شَبَعُ

لا يمنعُ سيرُهُ إلى بَلَدٍ ما، غازياً فاتحاً؛ لا يمنعُ ذلكَ سيرَهُ إلى غيرِه. وهو في مسراه أبداً كالموت، يعمُّ فلا يعود يرتوي ولا يشبع.

ثمّ يتحدّثُ مُنشِداً عن حالِ خيلِ جيشِ سيفِ الدّولةِ وسطَ المعركة:

تَهديْ نَواظِرَها، وَالحَربُ مُظلِمَةٌ،

مِنَ الأسِنَّةِ نارٌ.. وَالقَناْ شَمَعُ

عندما يكثر الغبار وسط المعركة، فيُظلِمُ المكان.. تهديْ عيونَ خيلِهِ النّارُ الخارجةُ من الأسنّة (والسّنان نصل الرّمح أو حدّه). أمّا الرّماحُ نفسُها، فتُصبحُ كالشّمعِ فوقَها النّارُ ذاتُ الحرْقِ واللّهَبِ.

فَكُلُّ غَزوٍ إِلَيكُمُ بَعدَ ذاْ: فَلَهُ،

وَكُلُّ غازٍ لِسَيفِ الدَّولَةِ التَّبَعُ!

بعد هذا وغيرِه من “الوقائع” الخاصّة والعامّة؛ كلُّ غزوٍ يُصبُحُ غزوَ سيفِ الدّولة، وكلُّ غازٍ من الغُزاة يُصبحُ تابعاً له. وهل أبو الحَسَن إلّا أميرُ الغزاةِ كلِّهِمِ؟

فكلُّ النّاسِ تحملُ السّلاح، ولكن ليسَ كلُّ من حَملَ السّلاحَ هو كسيفِ الدّولة: تماماً كما أنّه ليسَ كلُّ ذي مخلَبٍ.. هو الضّرغامُ السَّبعُ!

 إِنَّ السِّلاحَ جَميعُ النَّاسِ تَحمِلُهُ،

وَلَيسَ كُلُّ ذَواتِ المِخلَبِ السَّبُعُ!

بصوت الفنّان عبد المجيد مجذوب:

***

كم يبعَثُ في قلبِ العربيِّ هذا الكلامُ الجميل، وهذا النّظمُ الرّائع، وهذه الموسيقى الأسطوريّة، وهذا الواقعُ ما-فوق-الواقع.. كم تبعَثُ كلُّها في قلبه الإحساسَ بالفرح، وبالنّشوة، وبالاعتزاز، وبالافتخار. ويتجلّى ذلك قلباً وعقلاً وحدْساً، لدرجةٍ تشعرُ معها أحياناً أنّك تخجلُ من حاضرِك العربيّ، أمام هذا الماضي اليَعرُبيّ العظيم.

نعم، تشعر بذلك أحياناً عند استذكار أبي الطّيب وأبي الحسن.. إلى أن تتذكَّرَ أيضاً أنّ في حاضرِكَ مع ذلك رجالاً كأبي الطّوفانِ والأنفاقِ والضَّيفِ والصَّبرِ والياسينِ ذي اللَّهَبِ.. ورجالاً ونساءً كحلفائه ونظرائه، فتُهدي إليهم وإلى السَّلفِ من عظماء العَرَب أنشودةً من حاضرِك المجيد أيضاً.. تماماً كهذه الأنشودة المعروفة للمصريِّ العظيمِ أبي الشّجوِ والوجدانِ والمَوّالِ والطَّرَبِ (عبد الحليم حافظ):

خلّي السّلاح: صاحي، صاحي، صاحي!

(*) راجع الجزء الأول: لو سمعتَ المتنبّي.. ألا يصيحُ قلبُكَ بتَكْبيرٍٍ أو بدعوةٍ لقتالٍ؟  

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  واشنطن تريد، طهران تريد.. ولكن؟